| بقلم الدكتور وليد التنيب |
هل كل ما تُعاقَب عليه أو تؤنَّب عليه يعني أنك «غلطان» أو ارتكبت خطأ يستحق العقاب؟!
كم من مرة يتم الصراخ عليك؟ ومرات عدة يتمّ سبّك مع إظهار إشارات عدم الرضا عليك وتكون أنت غير مخطئ ولم ترتكب ذنباً يستحق هذا الصراخ؟!
هل في كل مرة غضب أو «زعل» منك شخص تحبه، كنت أنت سبب «الزعل» ومصدر هذا الغضب و«الزعل» فعلاً؟!
في كل مرة قمت بإرضاء شخص تحبه أو لا تحبه... تحترمه أو لا تحترمه وأبديت أسفك لما حصل، هل كنت مقتنعاً بأنك أنت سبب المشكلة؟!... هذا إن وُجِدت المشكلة من الأساس!
كم مرة ضُرِبت عندما كنت صغيراً؟... نعم ضُرِبت ولم يكن لك أي ذنب أو كنت غير مقتنع بأنك أذنبت أو ارتكبت خطأ يستحق الضرب...
أما وأنت كبير، فكم مرة ضُرِبت (وانداس بمردانك) من دون سبب أو لسبب تافه جداً لا يستحق كل ما حصل...
ونأتي للمهم الآن... لماذا إذا «زعلت» أو «زعّلك» شخص، وإن كنت تحبه تبدأ بالبحث عن عيوبه وتذكر سيئاته... ولا تذكر أي حسنة فيه... وتتذكر كل المشاكل التي حصلت لك بسببه وتتذكر كل الأيام والساعات والدقائق والثواني المُرّة التي سببها لك؟!
حكايتي صعبة، وأجد مشقة وتعباً نفسياً بروايتها لك، وها أنذا آخذ نفساً عميقاً قبل البدء بسرد حكايتي...
كان سالم مثالاً جيداً للموظف المواظب على عمله، المخلص بأداء الأعمال التي توكل إليه...
لا يذكر السجل أن سالم قد غاب يوماً لأي سبب...
نعم، لم يغب سالم عن العمل أبداً، حتى أنه لم يأخذ إجازة مرضية واحدة طيلة فترة عمله...
حتى إجازة الحج رفض أخذها وأخذ مكانها إجازة دورية من رصيد إجازاته...
كان حضوره إلى العمل شيئاً مسلّماً به لبقية الزملاء
لم يعتد الموظفون مع سالم على عدم رؤيته في أوقات العمل...
حتى المراجعين أصبحوا يعرفونه أشد المعرفة.
بعد سنين عديدة في العمل الجاد، كوفئ سالم بترقية جعلته هو الآمر الناهي في مكان عمله.
هل كان لهذه الترقية مفعول؟!
نعم، ازداد إخلاص سالم في عمله وأصبح العمل هو كل شيء في حياته.
يحضر قبل الموظفين ويذهب بعدهم بساعات...
في أيام العطل كان موجوداً أيضاً في مكان عمله.
حتى في الأعياد والمناسبات كان إن احتاجه العمل فلا يتأخر عن الحضور...
لم يطالب يوماً بأن يحصل على مقابل مادي أو معنوي لعمله خارج أوقات العمل الرسمي.
كان مثالاً يحتذى به...
كان مثالاً للعامل المخلص المحب لوطنه...
أنساه العمل أن يخطط لمستقبله وحياته... لم يبن الشركات... لم يتاجر بالعقار.
الأهم من هذا كله لم يفكر بالارتباط بشريكة حياة.
نسي حب الأولاد من أجل حبه لوطنه.
كان يردد دائماً أن العمل مثل الجهاد...
ويقول أيضاً: «إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه».
هو صاحب شعارات وأعمال صادقة في حب الوطن والإخلاص للعمل.
مرّت سنة... تليها سنة... وتليها سنوات، وهو غارق في العمل بكل جهد وإخلاص.
في أحد الأيام، جاءه المراسل عنده في العمل بظرف من الوزارة.
كان يتملّكه شعور غريب وهو يفتح هذا الظرف...
لقد قام بفتح آلاف الأظرف من قبل، ولكنها المرة الأولى التي ينتابه فيها هذا الشعور الغريب.
كان محتوى الظرف واضحاً جداً... تمت إحالتك إلى التقاعد بسبب السن، والقوانين تمنع استمرارك في العمل ولا استثناءات!
للمرة الأولى في حياته يغضب و«يزعل»...
هو الذي عُرِف عنه المرح وعدم «الزعل» وأنه لم يغضب أبداً أثناء العمل من قبل.
لملم أوراقه بصمت ورتّب المكتب بكل عناية ودقة للذي سوف يأتي من بعده... فهو صاحب شعارات حتى نهاية الطريق.
لا بل إنه مطبّق لهذه الشعارات وإن كان على نفسه.
بكى بكل حرارة وأسى قبل أن يترك المكان.
تلمّس كل شبر من مكتبه.
خرج من مكان عمله وهو «زعلان» للمرة الأولى في حياته.
قرّر زملاؤه في العمل إقامة حفل لتكريمه...
ولكنه «زعلان» وغاضب من طريقة إحالته إلى التقاعد... كتاب تقاعده في يد المراسل؟!
إنها قصة سمعها من قبل كثيراً وتعاطف مع كل من حصل له الموقف نفسه...
قصة رآها في المسلسلات والأفلام من قبل...
قصة قرأها بالجرائد في صفحة هموم الناس.
لم يخطر في باله أنه سيكون في هذا المكان...
ولكنه غير هؤلاء... إنه المخلص المعروف بإخلاصه وحبّه للعمل.
وهو من وجهة نظره ما زال قادراً على العمل بكل جهد.
قبل تكريمه بيوم، قرّر أن يكتب رسالة عتاب... رسالة يذكر فيها عيوب كل من أحاله إلى التقاعد، فهو غضبان و«زعلان».
بدأ بالكتاب وتذكّر أن من أحاله إلى التقاعد هو الوطن... وقوانين هذا الوطن وليس الأشخاص...
أمسك بالقلم، وبعد كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» ومن ثم التاريخ...
كان يحب وطنه أشد الحب... لم تستطع يده كتابة أي عيب في هذا الوطن ولم يستطع أن يتذكر أي عيب لهذا الوطن وإن كان «زعلاناً» وغضبان من وطنه.
أراح رأسه على الورقة وألقى بالقلم و نام.
لم يستيقظ من نومه ولفظ أنفاسه على الورقة التي أراد أن يكتب عيوب الوطن عليها، و لم يستطع بسبب حبه لهذا البلد وهو المخلص المعروف بإخلاصه...
مات سالم، ولأنه من دون زوجة وولد، تمّ أخذ العزاء في مكان عمله بالقاعة المعدة لتكريمه.
اعلم يا قارئي العزيز أن «زعلك» لا يعني أن تجاهر بعيوب من «زعّلك»... أو أن تبحث عن عيوب من «زعّلك» أو أغضبك.
إن «زعلك» لا يعني أن تتذكر فقط عيوب من «زعّلك» وأغضبك.