| سهيلة غلوم حسين* |
اختلف مفهوم الثقافة في عصرنا عما هو متعارف عليه فعند بعض الناس يعني إتقان عادات الآخرين واللحاق بنمط حياتهم وتقليدهم، كي** لا يتخلف المرء عن ركب حضارتهم، في ما عند آخرين يعني جمع ما يحتاج إليه من العلوم والمعارف للتباهي أو لرفع الحرج، أما فئات أخرى لم تستطع فهم واكتساب الثقافة الحقيقية الإيجابية مما حدا بها إلى ابتكار ثقافة تناسب عقولها.
في زحمة البحث عن أيديولوجية ثقافية واقعية بالمعنى العقلاني والموضوعي أصبحت مجتمعاتنا غارقة عنوة في قراءة ثقافة الفساد التي طغت في هذه الآونة أو التطرف الذي بات أمراً عادياً في ظل الامتزاج القسري للصالح مع الطالح تحت مظلة الثقافة، ولذلك بدأت الثقافة تفقد جاذبيتها ورنينها العذب وأصبح مصطلحها المتعارف عليه يسير في الاتجاه المعاكس ويلصق بنقيضه اللاثقافي، وما أعجب أضداد هذا العصر الذي تتعلم فيه الأجيال اللاحقة من أجيالها السابقة، مثلما تتعلم من اللاحقة بعد أن أصبحت معرفة من سبق تتهالك بمعدل يفوق في سرعته معدل اكتسابه لها.
إن شخصية الفرد نتاج ثقافي تنجم عن تفاعل العوامل البيولوجية له مع بيئته الإجتماعية ومكوناتها الثقافية، حيث أن لكل مجتمع له مجموعة من القواعد أو المعايير الحاكمة للسلوك والمعرفة، ومهما زادت سطوة التكنولوجيا، فيجب ألا يكون المجتمع تابعاً لها، بل يجب أن تكون هي التابعة له، الملبية لمطالبه والمتوائمة مع ظروفه وقيمه وإمكنياته، وبالرغم من التأثير غير المباشر لعلوم الطبيعة من فيزياء وكيمياء وأحياء وجيولوجيا والفلك وكل ما شابه ذلك على الفكر والسلوك، فهي ليست الثقافة لأن الثقافة كما تدل كلمتها هي الفكرة التي تقوّم الإنسان والتي تحدّد مسار سلوكه وطبيعة مواقفه، حيث أن الثقافة المتكاملة تنتج شخصية متجانسة في مجتمع متكامل.
تلعب الثقافة دوراً مهماً في حياة الإنسان باعتبارها جزءاً مهماً في حياته كعضو في المجتمع، كما إن الثقافة بصورة عامة تساعد على التمييز بين فرد وآخر وبين جماعة وأخرى وبين مجتمع وآخر بل هي التي تميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس وهي ذخيرة إنسانية الإنسان وحجر أساس الصروح الإجتماعية وتقدمها.
دأبت أكثر وسائل الإعلام باختلاف أنواعها على اقتباس النموذج الثقافي العالمي الذي يجري تعميمه على العالم كله، بل لم تكتف بذلك حتى أنتجت «ثقافة اللاثقافة» مع إشاعة التفاهة والسطحية والإبتذال لترويج اللاثقافة على إنها الواقع الثقافي الحضاري وللأسف إنها توسعت وبشكل واضح وملموس على يد بعض الإعلام الذي ساعد بذلك على نشرها.
الاختراقات المبرمجة لثقافتنا الكلاسيكية تنبئ بكارثة ما لم نسارع إلى التقاط الأنفاس وإنقاذ هذا التراث العريق وإعادة تنميته وفق خطط ثقافية وتقويته والمحافظة عليه من غزو اللاثقافات التي توهمنا على أنها البديل المناسب، وعلينا أن نتفق على كيفية انتشار الثقافة على قاعدة بناء جديدة لتكون مؤثرة في الثقافات الأخرى.
بالطبع ان هذا لن يكون إلا من خلال تنمية الوعي بأهمية التراث كمورد ثقافي تتنامى أهميته في عصر المعلومات وضرورة تجديده وإعادة قراءته وتوظيفه من منظور الحاضر، واكتساب المهارات والمقومات اللازمة لإقامة حوار متكافئ مع ثقافة الغير، ولم شمل النخبة المثقفة وإعادة قنوات الحوار بين فئاتها المختلفة وتحاشي الانزلاق إلى القضايا الجانبية واستثارة الحساسيات دون داع حتى لا تغيب عن أنظارها القضايا الأساسية، فإذا كانت بالفعل ثقافة اللاثقافة هي التي تميز هذا العصر... فمتى ستعود ثقافة الثقافة إلى حاضنة الواقع العربي؟

* كاتبة كويتية