| بيروت - من ريتا فرج |
العلاّمة المرجع السيد محمد حسن الأمين، عالِم دين تجديدي طرح جملة من الأفكار خرج بها عن المألوف والمعهود عند رجال الدين على ضفتي الإسلام الشيعي والسنّي.
العلاّمة المرجع، الذي يرفض فكرة الدولة الدينية ويؤكد أن الإسلام لا يتعارض مع الدولة المدنية، لم تكن مواقفه تجاه الثورة السورية مفاجئة، هو الذي يعتبر أن مبدأ التشيُّع يعني الوقوف إلى جانب المظلوم ضد الظالم.
بكّر الأمين في مقارعة المسكوت عنه في السياسة والدين والاجتماع الإسلامي، فهو من دعاة الدولة المدنية ومن المطالبين بفصل الدين عن الدولة، كما أنه لا يؤمن بولاية الفقيه باعتبار «أن لا ولاية لأحد على أحد».
وضع السيد مجموعة من المؤلفات بينها: «الاجتماع العربي الإسلامي»، «نقد العلمنة والفكر الديني»، «بين القومية والإسلام»، «الإسلام والديموقراطية» و«وضع المرأة الحقوقي بين الثابت والمتغير».
الأمين القادم من سلالة أئمة جبل عامل كانت له وجهات نظر واضحة من الثورة السورية، فقد وقّع على بيان مشترك مع السيد هاني فحص من أجل إبراء ذمته «تجاه انتمائنا الوطني والقومي والإسلامي والشيعي في آن واحد»، معتبرا ان «الموقف الشيعي الطبيعي الانحياز إلى ثورة الشعب السوري المظلوم بمواجهة نظام مستبدّ (...) فما يحصل في سورية هو بالدقة ثورة شعبية حقيقية بوجه الآلة العسكرية التي لم تواجه العدو الإسرائيلي».
وأبدى ثقته بأن «النظام السوري سيسقط رغم غياب التوازن في القوة العسكرية»، معتبرا ان «القسوة الفظيعة في استعمال السلاح ضد الشعب السوري هي التي دفعت الناس إلى أن حمل السلاح، وان سورية ستقدّم نموذجاً قد يكون متقدماً بدرجات على النماذج التي أطلقها الربيع العربي».
وأشار إلى «المعارضة الإيرانية لم تتوافر لها بعد الظروف المؤاتية كي تحدث تغييراً جديداً في السلطة»، مبينا ان «النظام في إيران ليس مدنياً بالكامل ولا دينياً بالكامل ولكنه شبه ديني».
وقال ان «السياسة لا يوجد فيها مقدس والدين في رأيي شأن إلهي ولكن السلطة شأن بشري»، رافضا «أن يأتي شخص يمارس سلطة عليّ بدعوى الحق الإلهي فهذا يتنافى مع مبدأ الحرية العليا في الإسلام».
واضاف ان «الإسلاميين توصلوا في مصر وتونس إلى الفصل بين الإسلام والدولة رغم أن الشريعة الإسلامية قد تكون مصدراً من مصادر التشريع»، معتبرا ان «فكرة الدولة المدنية بدأت تترسخ في عقول الإسلاميين المعتدلين مقابل تراجع فكرة الدولة الدينية».
قضايا كثيرة طرحتها «الراي» على العلاّمة المرجع السيد محمد حسن الأمين، بدءاً من ثورة الشعب السوري وموقفه من الوضع الإيراني، مروراً بحركة التحديث ومركزية العقل الاجتهادي في الإسلام، وأخيراً وليس آخراً رؤيته لوصول الإسلاميين إلى الحكم في دول الربيع العربي ومستقبل الأقليات، وفي ما يأتي نص الحوار معه: • كان لكم موقف واضح تجاه الثورة السورية ووقّعتم على بيان تضامني مع الشعب السوري. ما الرسالة التي أردتم إيصالها من موقعكم كمرجعية دينية شيعية؟
- في الواقع انطلاقاً من انتمائي الوطني اللبناني والعربي، ومن موقع انتمائي الإسلامي، لا يسعني وأنا أشهد هذه التحولات التي تجري في المنطقة العربية، إلاّ أن أقف إلى جانب شعوبها. هذا هو تاريخي السياسي والنضالي، بدءاً من القضية الفلسطينية وصولاً إلى قضايا الحرية والديموقراطية والعدالة وتداول السلطة. هذا هو المكوِّن العميق لرؤيتي السياسية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي رأيتُ أن ما يحصل في سورية، هو بالدقة ثورة شعبية حقيقية في مواجهة نظام مستبد.
ليس من الطبيعي على الاطلاق لرجلٍ أمضى حياته منحازاً إلى قضايا الحرية والعدالة والكرامة وتداول السلطة، ألا يتعاطف مع شعب سورية وهو يناضل من أجل تحقيق هذه الأهداف، خصوصاً أن مواقف بعض اللبنانيين تجاه الثورة السورية تستند إلى اعتبارات طائفية أحياناً، وسياسية منحازة إلى أنظمة سياسية إقليمية في المنطقة أحياناً أخرى. وقد أصبح مشهوراً عن الشيعة في لبنان أنهم يقفون إلى جانب النظام السوري في مواجهة الثورة السورية، وبوصفي عالِماً شيعياً ومرجعاً شيعياً لا يسعني إلاّ أن أدافع عن التشيُّع نفسه، لأنني من الذين يرون التشيّع ومبرر وجوده بكونه وقفة إلى جانب المظلوم ضد الظالم، وقفة إلى جانب الحرية في الكيان الانساني، وقفة إلى جانب العدالة. وبالتالي الموقف الشيعي الطبيعي هو الانحياز إلى هذا الشعب السوري المظلوم الذي يواجه الآلة العسكرية التي لم تواجه العدو الإسرائيلي، ولكنها تواجه شعبها بهذه الضراوة التي لم تعد خافية على أحد. وبكل أسف يقف العالم شبه متفرج على ما يراق في سورية من دماء ومن تدمير وتحطيم للبنية التحتية وللمدن والأسواق وغير ذلك مما لم يعف عنه النظام السوري. وانطلاقاً من كل هذه المعطيات كان من الطبيعي أن أُصدر بياناً على الأقل لإبراء ذمتي تجاه انتمائنا الوطني والقومي والإسلامي والشيعي في آن واحد.

• كيف تقرأ تطورات الأزمة السورية بعد الأحداث الدرامية التي وقعت في الفترة الأخيرة خصوصاً أن الثورة خرجت عن إطارها السلمي واتجهت نحو الصراع العسكري؟
- هذا ما أراده النظام السياسي الاستبدادي، أي أن يحوّل هذه الثورة، التي بدأت سلمية بعد أن أحرجته بطابعها السلمي، فأخذ يعمل على تحويلها من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة. القسوة الفظيعة في استعمال السلاح ضد الشعب السوري، هي التي دفعت الناس إلى حمل السلاح، في الوقت الذي لم تتدخل لا الدول الاقليمية ولا المجتمع الدولي ولا العالم لوقف هذا النزف. كان لابد للثورة بما تيسّر من الأسلحة المتوافرة لديها أن تقوم بالدفاع عن الشعب السوري، وهذا أمر نأسف له، ولكن النظام فرضه فرضاً على الشعب السوري. وإنني على ثقة أن هذا النظام، ورغم غياب التوازن في القوة العسكرية، سيسقط، إذ إن نظاماً يقاتل شعبه بالسلاح لا يمكنه أن يصادر هذه الارادة الخيرة والمؤمنة والمستمرة في الشعب السوري والتي تزداد رسوخاً كلما تمادى النظام في وحشيته.
• هل تفاجأتم بصمود السوريين رغم مضي النظام بخياره الأمني؟
- أُعجبت بهذا الصمود، ومنذ فترة طويلة وأنا أعجب من استمرار الحال التي كانت عليها سورية وأتساءل متى تثور سورية.
كان في تفكيري أن هذا الشعب لابد أن يثور، وبالتالي يبدو أن الثورة لابد أن تتوافر لها معطيات محددة، وأحد هذه المعطيات هو الربيع العربي الذي شهدناه في تونس بدايةً، ومن ثم في مصر وليبيا واليمن، فكان من الطبيعي أن ينجز السوريّ ربيعه. وكُتب على الشعب السوري أن يكون الثمن الذي دفعه وسيدفعه لإنجاز هذا الربيع كبيراً جداً، ولكن اي ثمن تتكبّده أمة من أجل حريتها سيبقى أقل بكثير من الانجاز الذي ستحققه.
• هل تتخوفون على الأقليات في سورية ولاسيما العلويين والمسيحيين؟
- أعتقد أن النظام المقبل في سورية لن يكون إلاّ نظاماً ديموقراطياً، ولا معنى لكل هذه التضحيات إن لم تكن في سبيل نظام العدالة والتعددية وتداول السلطة. ومن هنا لست خائفاً على الأقليات، وأعتقد أن سورية ستقدّم نموذجاً قد يكون متقدماً بدرجات على النماذج التي أطلقها الربيع العربي، وانا متفائل بأن النظام المقبل في سورية سيكون ديموقراطياً ينهض على تداول السلطة، وهذا ما يطمح اليه الشعب السوري، وإن كان النظام يُثير المخاوف ويحاول أن يخلق صراعات داخلية، ويريد تحويل الثورة إلى حروب أهلية. وما نشاهده اليوم هو تصميم الشعب السوري على مختلف فئاته على إنجاز ثورته من أجل بناء نظام تعددي جديد.
• أين الإصلاحيون في إيران في ظل الربيع العربي؟
- قد لا تكون إيران في الداخل جاهزة لأن تكون مسرحاً لهذه الحركة التي تشبه حركة الربيع العربي. إلى حد ما الوضع الإيراني الداخلي مستقر، يوجد معارضة ولكن توجد ايضاً سلطة، وشيء من التمثيل لهذه السلطة، وثمة قاعدة شعبية، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد معارضون، لكن هذه المعارضة الإيرانية لم تتوافر لها بعد الظروف المؤاتية كي تُحدث تغييراً جديداً في السلطة.
• إلى أي مدى بإمكان نظام ولاية الفقيه الصمود وسط المعضلات الكبرى التي يطرحها نموذح الدولة الدينية؟
- ما دامت إيران تعتمد مبدأ انتخاب السلطة التشريعية على الأقل، فإن الأمر يظل قائماً إلى أن تحدث تطورات تؤدي لانتخاب مجلس تشريعي تتوافر له الأكثرية التي يمكن من خلالها أن تعيد النظر في مبدأ ولاية الفقيه.
ولاية الفقيه في إيران سلطة، والسلطة العليا لا يمكن أن تتغير إلاّ إذا تغير الدستور الإيراني، وهذا لا يتم إلاّ بأكثرية إصلاحية. آمل أن يتقدم الزمن باتجاه هذا الإصلاح الذي أؤمن شخصياً به، لأنني أرى أن النظام في إيران ليس مدنياً بالكامل، ولادينياً بالكامل ولكنه شبه ديني، وأنا لا أؤمن بالانظمة الدينية. أرى أن السلطة شأن بشري وليست شأناً دينياً، وبالتالي لا يمكن لنظام ديني أن يحقق ارادة الشعب الذي يمثله، إذا كان مؤسَّساً على دعوة الحق الإلهي، وهذا يعني أن الحاكم لا يحكم بموجب التخويل الذي أعطاه إياه الشعب، ولا يمثل ارادة كافة الشرائح الاجتماعية.
• ما تقدمتم به يحيلنا على مسألة الولاية التكوينية. ما هو موقفكم من هذه المسألة؟
- لا أؤمن أن للأئمة المعصومين ولاية تكوينية ولا حتى النبي (صلى الله عليه وسلم)، هم بشر معصومون وليست لهم ولاية تكوينية كأن يقولوا للشيء كن فيكون أو أن يغيّروا العالم، فكيف بغير المعصومين الموجودين حالياً الذين يتسلمون مقاعد في السلطة فيتكلمون باسم الدين وهم يمارسون مهنة بشرية قابلة للخطأ وللصواب ولكنهم يضفون عليها طابعاً دينياً مقدساً. السياسة لا يوجد فيها مقدس، من هنا موقفي الفكري من أن الدين شأن إلهي ولكن السلطة شأن بشري.
• هل أنتم مع إسلام الفرد وليس إسلام الجماعة؟
- أؤمن بإسلام الفرد أولاً، والفرد هو الذي وُجّه له التكليف في الإسلام، ولكن هذا لا يعني أنني لا أؤمن بالجماعة. هؤلاء الأفراد المسلمون يمكن أن يشكلوا جماعة، تربط بينها القيم الإسلامية من دون أن تكون السلطة الإسلامية عليها صفات المقدس. السلطة لا مقدسات فيها.
• ما موقفكم من ولاية الفقيه؟
- لا أؤمن بولاية الفقيه، ولا توجد ولاية لأحد على أحد، كل انسان هو وليّ نفسه. نعم تصبح الولاية مشروعة لأحد على أحد آخر عندما أقيم بيني وبينه عقداً اجتماعياً، أنا المواطن سيّد نفسي لا ولاية لأحد عليّ على الاطلاق، ولكن عندما أدخل في عقد اجتماعي يصبح هذا العقد مقيّداً لي، وهذا القيد جاء من الحرية، والحرية لا بد أن تتبعها قيود معينة. أما أن يأتي شخص يمارس سلطة عليّ بدعوى الحق الإلهي فهذا أعتبره يتنافى مع مبدأ الحرية العليا في الإسلام، وهذا يعود بنا إلى ما يسمى سلطة الاكليروس.
• أنتم إذاً تؤيدون فكرة ولاية الأمة على نفسها التي دعا اليها آية الله محمد حسين النائيني؟
- نظرية العلاّمة محمد حسين النائيني تُعبر عن النظام الحديث، أي النظام الديموقراطي، نظام تداول السلطة، بمعنى آخر لا ولاية على الأمة من خارج الأمة، والعقد تُبرمه الأمة مع أشخاص مختارين منها كي يبنوا سلطة، فتصبح هذه السلطة شرعية بفضل العقد الاجتماعي. الشيخ النائيني لم يتحدث عن العقد الاجتماعي ولكن عن مفهوم العقد بين الأمة وبين مجموعة من أفرادها.
• أين انتم من قضية الحوار بين المذاهب الإسلامية؟ وهل تراهنون على هذه المسألة خصوصاً أن السعودية دعت إلى التأسيس لهذا الحوار؟
- من خلال تجاربي الطويلة، وبعد قراءاتي لكل المحاولات التي حصلت في العصر الحديث، أعتقد أن مثل هذه الحوارات المذهبية لا جدوى منها على الاطلاق.
طرحتُ أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة نظريتي في هذا الأمر، وقلتُ إن الحوار والتقارب والتفاعل الممكن بين المسلمين هو الحوار السياسي وليس الحوار الديني. الحوار السياسي يمكن أن يُنتج تقارباً بين المسلمين لسبب أساسي، هو أن الأجواء التي يعيشها المسلمون متشابهة، والظروف التي يعاني منها المسلمون متشابهة، وبالتالي التضامن بين المسلمين كفيل أن يحل هذه المشكلات، أي مشكلات التنمية والحريات الفردية. وعندما يحصل هذا التقارب السياسي يصبح الحوار المذهبي ممكناً.
أما الحوار المذهبي في ظل التداخل السياسي فلا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة، وقد مارستُ دوري في هذا المجال. ورغم أن البيانات التي كانت تصدر عن المعنيين تؤكد أن لا فارق بين السنّي والشيعي، فقد طغى عليها الخطاب العاطفي إذا لم نقل أن فيها شيئاً من التكاذب، وبعدها يعود كلٌّ إلى موقعه وتبرز ظواهر التطرف التي نلاحظها هذه الأيام على المحطات الفضائية ووسائل الإعلام.
• هل يحتاج الإسلام إلى خطوة تشبه المجمع الفاتيكاني الثاني خصوصاً أن المسيحية الغربية قطعت مع مرحلة الحروب الدينية؟
- لا يمكن للمسلمين أن ينجزوا هذه الخطوة وأن يقطعوا مع تاريخ العنف المذهبي، إلاّ بشرط التقارب السياسي. أي مؤسسة إسلامية لا يمكن أن تأخذ بتجربة المجمع الفاتيكاني الثاني في ظل التباعد السياسي.
• هل يحتاج المسلمون إلى الانتقال من الإسلام التاريخي إلى الإسلام المدني أي الحداثوي؟
- إذا لم نقدم رؤية للإسلام تنسجم مع متطلبات العصر، فسنكرر إسلام الآخرين، ولا ننتج إسلامنا الجديد. انا مع حرية البحث في الإسلام وفي كل القضايا سواء أكانت عقائدية أم فقهية. أنا مع البحث الحرّ دون مصادرة، حتى لو أدى إلى نتائج خطيرة. هذا البحث التجديدي يساهم في انتاج إسلامنا، إسلام العقل الذي من دونه سنبقى على هامش التاريخ، ولن يجدينا أن أسلافنا الكبار استطاعوا أن ينتجوا إسلاماً حضارياً يصلح لزمنهم لكنه لا يصلح لزمننا.
• هل تؤيدون الفكرة التي دعا اليها البعض والتي تطالب بإحداث القطيعة مع التراث؟
- أنا أدعو إلى القطيعة والتواصل في آن واحد. أدعو إلى قطيعة مع التراث حيث يجب القطيعة، والتواصل حيث يجب التواصل. القطيعة الكاملة مستحيلة، والقطيعة الممكنة هي الرؤية النقدية للتراث، بمعنى أن اقرأ التراث لكن لا بوصفه مقدسات جاهزة أحملها إلى هذا العصر، بل من واجبي قراءة التراث بعين النقد. بهذا المعنى أكون قد قطعت مع التراث من دون أن أقع في القطيعة السلبية المطلقة التي لا يمكن اعتمادها لدى أمة تملك تراثاً.
• في رأيكم لماذا فشلت تجربة المعتزلة؟
- أنا أمجد فكر المعتزلة بصورة عامة لأنه فكر إسلامي تأسس على الاختيار والحرية، وأعتبره شكلاً من اشكال المظاهر الحضارية في التراث الإسلامي. وعندما قلت ان العودة النقدية إلى التراث ضرورية، يتمثل أمامي المعتزلة، وتتمثل النزعات المشابهة للمعتزلة، خصوصاً الفلاسفة المسلمين كابن رشد الذين أحدثوا ثورة في الفكر الإسلامي أواخر العصر العباسي.
لكن الذي حصل في تاريخنا وأثّر على هذه النزعات التنويرية في الفكر الإسلامي، هو التراجع الكبير الذي حصل في البنية السياسية للعالم الإسلامي والذي جعل المسلمين يتراجعون سياسياً وحضارياً، ما أعاد الاعتبار لمبدأ الاستبداد السياسي والديني، وكلاهما لا ينفصلان. وبالتالي بدأت تضمحل ينابيع التنوير في العالم الإسلامي، ومن هنا دعوتنا الآن إلى ثورة إسلامية على الصعيد الفكري وهذا يتطلب اعادة الاعتبار للعقل. وبحكم الهزائم التي ورثناها وبحكم تاريخ الاستبداد الذي ورثناه، وضعنا العقل جانباً، فبدأ العقل الإسلامي كما لو أنه عقل غير منتج ولا يتمتع بالفعالية العقلية والسببية اللازمة.
• كيف تقاربون حركة الاجتهاد عند علماء الدين الشيعة في النجف وقمّ؟
- ما زالت حركة تقليدية، وحركة الاجتهاد تُمارس كما مورست منذ 100 عام أو أكثر. لا يوجد تجديد بالمعنى الجذري، وإنما يوجد تجديد في بعض التفاصيل وبعض الأحكام الشرعية. أما الرؤية الفقهية فلا يوجد فيها اجتهاد جذري، يوجد اجتهاد في الفقه على الطريقة السابقة، وليس انتاج قواعد جديدة.
• هل تؤيدون فكرة الاستعانة بمناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ومن بينها علم الأديان المقارن والالسنيات والانثروبولوجيا لقراءة النص القرآني؟
- انطلاقاً من ايماننا بأن القرآن الكريم كتاب منزل، أدعم كل اضافة معرفية جديدة تجعلني أقرأ النص القرآني بعين جديدة، وإلاّ كيف يمكن أن أكون مسلماً مؤمناً بأن القرآن كتاب خالد ولكن قراءته تمت مرة واحدة، هذا يتنافى مع عقيدتي. القرآن كتاب مفتوح على التأويل وبالتالي أي معرفة في المجال الديني والمعرفي تشكل رصيداً مهماً للقراءات المتنورة.
• ثمة وجهة نظر تطالب بتجاوز حرفية النص القرآني في بعض الأحيان وتقول بالاعتراض على بعض الآيات القرآنية والولوج إلى مرحلة ما بعد النص. ما رأيكم في ذلك؟
- أخالف هذا الرأي وأرفض القول بتجاوز بعض الآيات. وفي رأيي يجب أن نقدم قراءات حداثوية للنص من دون أن يصل الأمر إلى إلغاء الآيات. القراءة تختلف من جيل إلى جيل، وبالتالي يجب أن تكون هناك قواعد وليس نوعاً من الإباحة المطلقة في القراءة، ويجب ألا ننسى أن بعض الآيات التي تُثير مخاوف البعض كانت موجهة إلى عصر معين، ويُخاطب فيها جيل معين. القراءة التاريخية للنص القرآني تمكننا من معرفة إذا كانت هذه الآية مخصصة لموقف معين أو أنها عامة.
• ألا يتعارض التفكيك التاريخي للنص القرآني مع المقدس؟
- ليس بالضرورة أن يتعارض مع المقدس. لا يوجد في القرآن الكريم حدود ضيقة، ويوجد فيه القليل من آيات الأحكام، والبقية آيات هداية. وبالتالي فإن هذه الآيات قابلة لقراءات متعددة وحديثة، ولا يجوز أن تتناقض مع أي مشروع نهضوي يمكن أن يقوم به المسلمون في واقعهم السياسي والاجتماعي وحتى الفردي الراهن. القرآن لا يقف حجر عثرة تجاه القراءة التاريخية. حتى الآن هناك نقص شديد في هذا المجال وما زال الاعتماد على المفسرين القدامى يسيطر على الرؤية التحديثية. المطلوب رؤية جديدة وشجاعة وعلم حقيقي كي نستطيع أن نقدم بعض المفاهيم الجديدة، ولا تنحصر هذه المهمة بجيلنا لكننا نراهن على الأجيال القادمة.
• كيف تقرأون وصول الإسلاميين إلى الحكم في دول الربيع العربي؟
- إذا أخذنا نموذج مصر على سبيل المثال أو حتى تونس، أعتقد أن الإسلاميين توصلوا إلى الفصل بين الإسلام والدولة، رغم أن الشريعة الإسلامية قد تكون مصدراً من مصادر التشريع كما هو الحال في مصر.
فكرة الدولة المدنية بدأت تترسخ في عقول الإسلاميين المعتدلين، في حين أن فكرة الدولة الدينية تتراجع، وسيكون الزمن لمصلحة الدولة المدنية حتى عندما يُعتمد على التشريعات الإسلامية وعلى المفاهيم الإسلامية، وهذا طبيعي في أي بلد إذ لا يمكن أن ينشأ قانون لا يراعي قيم الجماعة، وبهذا المعنى تنشأ الدولة ولكنها تبقى مدنية.
إنتاج الدولة والسلطة شأن سياسي. راشد الغنوشي، وهو صديق لي، لا يوجد فارق بين رؤيته للدولة ورؤيتي لها. الدولة شأن بشري. الدولة شأن مدني وليست شأناً دينياً ولا يوجد في الدولة مقدس، ما هو موجود من مقدسات في الدولة سينتهي. لا مستقبل للدولة الدينية وهي أخطر أنواع الاستبداد.
• ما رأيك في الوثائق التأسيسية التي أصدرها الأزهر وخصوصاً ما يتعلق بالحديث عن التعددية والدولة المدنية والمواطنَة؟
- عندما يُصدر الأزهر وثائق عن التعددية والمواطَنة والدولة المدنية لا شك أن هذه الخطوة مهمة، أما القول إن الإسلام دين ودولة فهذا ليس صحيحاً، الإسلام دين والمسلمون لهم دولة ولكن دولة هم يقيمونها، الإسلام هو دين فحسب. ولا أعلم لماذا أصبح الشعار شائعاً بأن الإسلام دين ودولة؛ هناك ظروف تاريخية معينة روّجت لهذا المفهوم تحديداً إثر انهيار دولة بني عثمان، إذ جاء منظّرون ليقولوا ان الإسلام دين ودولة، ويدعون إلى الحاكمية. تاريخنا هو تاريخ مشوّه، السلطات البشرية كانت تحكم باسم الله على الارض، ولذلك فإن عصرنا الجديد يجب أن يقوم على الفصل بين الدين والدولة.
• ألا يحتاج الخطاب الأزهري التنويري والمعتدل إلى التأسيس والى الدعم من الدولة؟
- يحتاج إلى ذلك فعلاً، الازهر مازال قادراً على القيام بدور مهم في العالم الإسلامي، وخصوصاً في فكرة الدولة المدنية. الأزهر مؤهل كي يقوم مع بقية الفعاليات الفكرية والإسلامية بدور لترسيخ مفهوم الدولة المدنية والركائز التي يجب أن تنهض عليها.
• ما رأيك في الإرشاد الرسولي الذي وقّعه البابا بينديكتوس السادس عشر في لبنان خصوصاً أنه تحدث عن الحوار الإسلامي - المسيحي واشار إلى الشراكة الثقافية بين المسلمين والمسيحيين؟
- الارشاد الرسولي مهم جداً ونحن اللبنانيين قادرون على تجسيد روحية هذا النداء، وآمل أن يطبَّق وخصوصاً أن لبنان بسبب بنيته الديموغرافية والجغرافية مؤهل أكثر من غيره لاطلاق هذا النموذج التفاعلي والحضاري. وأعتقد أن المسيرة البشرية ستنتهي إلى ما يمكن أن أُطلق عليه الدين الواحد، اي ستتقلص الصراعات الغرائزية في تاريخ البشرية، وسيمارس الانسان نوعاً من التصعيد الروحي، وهذه الممارسة ستوصل البشر إلى رؤية مشتركة تلامس جوهر الأديان. وإذا كان لي أن أحلم بشيء من هذا أتمنى أن يكون لبنان نقطة الارتكاز لمثل هذه التجربة الانسانية.
• كيف تقرأون مسألة التوحيد بين المسلمين والمسيحيين من الزاوية التي أشرتم اليها؟
- أؤمن بأن الأمر يتطلب في الدرجة الاولى تقارباً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً لا بحثاً عن المعضلات الدينية، وأؤمن بأنه لابد من التفاعل الروحي والفكري الأمر الذي سيؤدي إلى ظهور جدال ديني بنّاء.
• هذا يعني أنكم متفائلون بمستقبل التثاقف بين الأمم والأديان؟
- انا متفائل على المدى البعيد وليس على المدى القريب.
• ثمة دعوات اليوم لتأسيس تيار شيعي مدني في لبنان يكسر الثنائية السياسية الشيعية الراهنة («حزب الله» وحركة «امل»)، هل تؤيدون هذه الدعوات؟
- يجب أن يكون هناك تيار مدني شيعي، الأفكار والتوجهات مختلفة عند الشيعة في لبنان، وهم ليسوا كتلة واحدة، مكررة لبعضها البعض. ولكن في ظل سيادة النظام الطائفي في لبنان، تجدين أن الاحزاب الطائفية هي المتصدّرة عند الشيعة، وهذه المسألة تنطبق على الأحزاب الأخرى. هناك اتجاهات غير طائفية لدى العديد من العقلانيين ومن الطوائف كافة من مدنيين ورجال الدين، ويجب الرهان على هؤلاء لبناء الدولة، وأعتقد أن الأزمات الراهنة ستدفع نحو تبلور اتجاهات مدنية.