| أنوار مرزوق الجويسري |
إن الحد الفاصل بين الوسطية والتنازل لا يكمن في النوايا بل في التطبيق، ولا يكمن في النظرية كما يكمن في الواقع، وإن استنادنا على الدليل دائماً ما ينجينا من المزالق في مثل تلك الأمور التي تحتمل فهماً مختلفاً من شخص لآخر وفي تفسيرنا لمثل هذه المفاهيم التي تتسع بحيث يصعب السيطرة على ظواهرها وتصنيف ما هو منها وما هو خارج عنها، لذلك كان النقد الموضوعي البعيد عن الشخصانية هو وسيلتنا الأولى في تفسير الظواهر الشائكة وفي التفريق بين المفاهيم المتداخلة.
من هذا المنطلق لنا أن نفسّر الوسطية التي تمثّل حاجة أساسية في مجتمعنا وعصرنا وتعد أداةً لوصول الخطاب الإسلامي وتقبّله بعد فترة من رفضه واستهجانه، نحن لا نبخس حق العلماء والدعاة والشباب في محاولتهم للوصول للوسطية المنشودة التي كانت وسيلة الأنبياء والرسل وطريقا أساسيا في الدعوة والإصلاح، لكن من يسلك طريق الفضيلة فاحتمالية وقوعه في الرذيلة ضعف احتمالية وصوله للفضيلة، ذلك لأن كل فضيلة تحدها رذيلتان، فالوسطية تحدها التشدد والتزمت من جهة والتنازل من جهة أخرى.
ولنا أن نأخذ مثالا واقعيا في تفسير الوسطية، وذلك في الرهط الذين أتوا النبي عليه الصلاة و السلام وكان أحدهم يصوم ولا يفطر والآخر يصلي ولا ينام والثالث لا يتزوج النساء، فبماذا رد عليهم النبي؟ كان بإمكانه أن يُهنئهم بالتزامهم المفرط ويوافق على نشرهم لمثل هذا التشدد وكان بإمكانه أن يصرفهم عن الزيادة في العبادة ويلزمهم ما هو واجب عليهم فقط، لكن رده كان في صميم الوسطية وأصلها فقال «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ففي هذا الموقف تتبين مظاهر الوسطية وأسسها. فكان عليه الصلاة والسلام في خطابه يبيّن أن الوسطية تكمن في اليسر ورفع الحرج لا في التعب والمشقة، وأن من الحكمة أن يرفض الحماسة ويقبل بما يقبله العقل فلا طاقة لبشر على تشددهم فكان عادلاً بين واجبات العبادة وواجبات النفس وكان بين الانقطاع عن العبادة والانقطاع لها، فألزمهم الاستقامه بـ «من رغب عن سنتي فليس مني»، فكان الالتزام بسنة النبي عين الاستقامة.
من ذلك كله تتمثل لنا شروط الوسطية كما ذكرها الدكتور علي الصلابي أن لا وسطية بلا عدل واستقامة وحكمة رفع حرج وبينية وخيرية، فلننظر في دعوتنا وفي خطابنا الدعوي، وفي خطاب المنابر وحتى في الخطاب السياسي الإسلامي هل نحن في دائرة الوسطية أم أننا في تنازل عن مبادئنا وعن ديننا، التشدد واضح لا اختلاف عليه لكن التنازل غالباً ما يُغلّف بلفظة الوسطية لنقبل به ونبارك له، فمن واجب الداعية والمعلم و السياسي والمربي أن ينظر لخطابه، أسلوبه وطريقته في توضيح مفاهيم الدين وفي تفسير أحكامه، حتى لا نظلم الدين فنظلم أنفسنا.


@anwar1992
anwaraljuwaisri@hotmail.com