| وضحى المسجن |
لاعلاقة للقرية بحنيني هذا، كما لا علاقة لجيراني في القرية بذلك. القرية لم تقصد أن تجيء مع توقعاتي أوضدها يوماً، وجيراني الذين بالكاد أسمع أصواتهم في كل عبور أمام نافذة مكتبي لم يقصدوا أن يجيء الأمر متفقا وسيناريوهات حنيني،كل ما في الأمر أن الديك صاح أخيراً! الديك الذي افترضتُ أن الصبح بدأ بصوته في الماضي، الصبح الذي افترضتُ أن له شكلا آخر يصلح أن أمشي فيه على أطراف أصابعي وأتحسس فيه الكائنات والأحوال بدلاً من أن أسميها، الصوت الذي افترضتُ أنه أسبق من الحدث إلى العالم... يحضر!
الديك صاح أخيراً!
بعد أن اختلقتُ أصواتاً عصريّة تأخذ بيدي للضوء الأول والقهوة الأولى في طريقي اليومي للحياة، بعد أن مرّ صباحٌ تلو صباح، وصوتٌ تلو صوت، وتعلّمتُ أن الحنين يمكن تربيته؛ ليفهم نفسه ويعرف أن أحداث الماضي حدثت أحياناً على سبيل الصدفة فقط، بعد أن رسمتُ سيناريوهات لدراسة إمكانية تحقق صباح يبدأ بصوت الديك في الألفيّة الثالثة، ما الذي يمكن أن يُحْضر صباحاً كالذي في ذاكرتي؟!
أنظروا لهذا السيناريو مثلاً:
ليبدأ الصباح بصوت الديك، يلزمنا إنسان مُصاب بعقدة الحنين، يلزمنا أن يكون له بيت في قرية، ويلزمنا بعد ذلك أن تكون القرية متمسكة بكونها قرية بكل فكرتنا القديمة عن القرية، فلا تفكر أن تكون إلا ذاتها برائحة التراب والحشائش والعصافير والبهائم، بالتأكيد سيكون لبيت الجيران ديك... ليبدأ الصباح بصوته.
يقال إن المصابين بعقدة الحنين للماضي محاصرون بخيبات الحاضر، خائفون على أجنحتهم من التكسر أمام الواقع الذي يتجه لتبديد كل شيء جميل وفطري، يقال إنهم ينسون الحيّز الفاصل بين الحلم والواقع، بين الذكرى والحنين،بين ماحدث وماسيحدث، يقال إن لديهم عادة الالتفات للكائنات والأشياء، الالتفات الذي يمشي في نومه... ولذا فإن حنينهم الذي يأخذ كل شيء على محمل الجد يقفز بخطوات بارعة ويحضر أمامهم بكامل هيئته مهما مرّ الزمن.
وأنا لا أعرف أياً من هؤلاء المصابين بعقدة الحنين، غير أني منذ زمن أستيقظ كل صباح وبين رموشي تعبر صورٌ وأصواتٌ لأحداث يسميها الناس ماضياً، أسأل أسئلة منفلتة إلى سالب اللانهاية عن كل ما لم يعد يحدث الآن، أسئلة تدفع المحيطين بي لليأس فينتهون لتركي وحنيني، ولقد قدرتُ معنى أن يصابون بسأم من حنين متألم، حنين لما لم يعد يحدث، وبعد أن بالغتُ في لوم يوهانس هوفر على تلمسه لألم الحنين وعودته في نوستالجيا... صحوتُ اليوم على صوت ديك الجيران! حتى أني كدتُ أفتح النافذة وأطل على ديك ستحول بيني وبين أسوار البيوت،وربما أسوار الماضي.
كل مافي الأمر أن الديك صاح أخيراً.

Wadha-almusajen.com