| سعاد العنزي* |
من محرضات كتابة هذا المقال، هو انني بدأت بكتابة مقالي الأسبوعي حول عمل كنت أقرأه، لأكتب عن بعض النقاط التي أراها مهمة في العمل لأسلط الضوء عليها، ولأتفاعل معها كقارئة للنص وفق خبرات معرفية وحدسية معينة تتعانق والنص وتعطي تأويلا لمعطيات النص، وفق منظوري الخاص بتجاربي القرائية والآليات التي أحاول التمكن منها ما استطعت إليها سبيلا، ولكن هذا البحث المضني في النص الأدبي، جعلني أقرأه مرارا وتكرارا جيئة وذهابا على معالم وثيمات النص من دون جدوى سوى الاجتهاد في فك شيفرات النص المغروسة في أرض يباب، كل هذا أحالني إلى سؤال قديم جديد، سؤال حول الكتابة الإبداعية عندما تقدم في إطار محاولات تجريبية متواضعة جدا لا ترقى إلى مصاف النص الأدبي الرصين، عندما تقرأ نصا يحلق بك عاليا في اللغة والأسلوب الشعرية والأسلوبي الباذخ في شعريته وانحرافاته الأسلوبية، فتعيش استلابا سلبيا في هذا النص إلى أن تهبط هبوطا اضطراريا بعد أن تكتشف انك ضيعت وقتك المرات تلو المرات باحثا عن فكرة هذا النص أو ذاك فلا تجد فكرة محددة بل إنك تجد نصا غارقا في متاهات لغوية متنافرة العلاقات بين الدال والمدلول، بين المضاف والمضاف إليه، الصفة والموصوف، فالتحليل اللغوي البسيط لها يكشف عن اعتباطية لغوية، قد تدهشك كمتلق في بعض الأحيان ولكنك في النهاية تجده كالسراب يحسبه الظمآن ماء. فالنص الذي يقدم لك متاهة لغوية عليك أنت كقارئ تقرأها وتفك رموزها، ولا تجد في العمق فكرة إنسانية عميقة، أو حتى بسيطة، ماذا يقدم للرصيد الإبداعي والإنساني؟! بالتأكيد، مثل هذا النص، لا يقدم سوى جسد لغوي هش وضعيف، قد يكون بالنهاية خطا يرتكز عليه بعض المجربين في بحور اللغة، ليتذرعوا بأن هناك من سبقهم، فيكون بالتالي ذريعة لتناسلهم وتكاثرهم اتكاء على نص هش وهزيل نشر واستقبل بتصفيق المجاملين وليس بدافع لذة التلقي الفني.
أما القسم الآخر، فهو القسم الذي يعطيك فكرة إنسانية تشتغل على هم إنساني معين، فتقول لنفسك وانت تقرأ العمل نصا اقترب من عالم الإبداع مضمونيا، ولكنك تتساءل عن عنصر الفنية، فتجد الفنية هي أبعد ما تكون عن النص، أقول الفنية، وأقصد بها عدة عناصر تشكل منظومة العمل الأدبية الشكلية والتقنية، التي تنحرف عن الكتابة النصوص الواقعية «النص التاريخي، النص السياسي، النص الاجتماعي». فما يجعل الفن فنا هو انحرافه عن لغة الواقع، التقريرية والمباشرة، بالولوج الى عالم اللذة الفنية والدهشة والتخيل الذاتي المتصور لأحد مفاهيم الحياة، وما يجعل الفن فنا، هو العمق في طرح قضايا الإنسانية بكثير من التدفق المعرفي لأزمة الإنسان وتحليل القضية بأبعادها المتعددة، وبحس بالغ الشفافية ومرهف، فالفن كما أراه ليس تجربة نظرية بحتة ومحضة، وليس تجربة حسية خالصة بل هو كل و مزيج بين الأمرين هو يقع بين البينين، ويجمع بين المعرفة بالإنسان، والمعرفة بمكونات العمل الأدبي، وتقنياته التي توصل الرسالة الإنسانية.
كذلك ثمة قسم وفئة من المبدعين يكتبون بجد وابتكار ويلمون بمجموعة من العناصر الأدبية، ويكتبون مواضيع جيدة نسبيا، ولكن يتبقى على عاتقهم دور مهم وهو التقدم خطوات إلى مصاف الإبداع الجميل والمبتكر والمتقدم، الذي يقدم عالما إبداعيا يوصف بأنه مقترب من الوعي الجمالي والإنساني الخلاق، يقدم أفكارا مدهشة وجديدة ومتجددة، يقدم رؤى تنأى عن التقريرية، والتقليدية، وبانتاج نماذج تكرر نفسها، فنحن أمام هذا القسم قد نقول نعم الكاتب أم الكاتبة وفق في الموضوع، ولغته جميلة، ولكن يتبقى سؤال مهم وحساس جدا حول الأصالة، والابتكار، والعمق الإنساني والغرف من بحر الإبداع الذي يشكل للنص مذاقا وبصمة خاصة بهذا الأديب دون ذاك الأديب. كما يجعلنا نتساءل عن فكرة التنوع و التمايز الأدبي بين انتاج أديب وآخر؟!
قرأنا نصوصا أدبية كثيرة تعلن عن بنوتها لنصوص أدبية سابقة، وقعت في فخ التقليد بعدما كانت النصوص الأصلية متميزة في إبداعها وأصالتها وطرحها لأفكار خاصة بوعي إنساني معين، ما يحيلنا الى سؤال مهم جدا حول مفهوم القديم والحديث، الأصالة والابتكار، وأن تقدم أدب ابن بيئته المحلية وملتصقا بهموم الإنسانية، أن تكتب همك المحلي بعيون ترنو إلى العالمية، وأن تكتب للعالم واضعا في سياقك النصي اعتبار المحلية، وجغرافية المكان والزمان الذي تعيش به، لتصنع هوية خاصة للأدب الذي تقدمه، وأنا هنا أقترب من قضية مهمة جدا هي قضية كتابة نص أدبي خال من ملامح المكان والزمان لبيئة منشأ النص، بذريعة كتابة أدب عالمي يقرأ في كل مكان وزمان، متناسين ثيمة المكان والزمان، التي تصبغ معالم التجربة الإنسانية والأدبية، فليس صحيحا انه بما أن العالم تحول إلى قرية كونية، فلابد أن ننسى هوياتنا المحلية، نعم نحن نرحب بالعالمية، ولكن شريطة إلا نكون مسخا لأفكار وتصورات الآخرين، فالتجربة الإنسانية حتى وإن خرجت من رحم زمان ومكان وأسماء وحوادث ومعطيات معينة، تبقى تجربة إنسانية صالحة لكل زمان ومكان، لأن قيمتها ستكون بما فيها من خلاصة تجربة إنسانية، معينة اعتنقت وراهن تاريخي محدد وبيئة اجتماعية معينة، فهل حد من انتشار روايات كـ «آنا كارنينا»، و «مدام بوفاري»، أو «أحدب نوتردام» كونها التصقت بعوالم محددة، وفضاء نصي بزمن يعود إلى أكثر من مئة عام، ومكان فرنسي أو روسي. بالتأكيد لا، لانها أعمال أدبية خالدة عبرت عن تجربة إنسانية مشتركة، ولم تؤثر هوية مكان وزمان وشخصيات النص القصصي على قراءتنا لقصص تشيخوف. ما أريد قوله هنا : إن الأديب لابد أن يقترب أكثر من مشاكل أمته وبيئته المحلية ليكشف رؤيته للمجتمع الذي تجده يتشكل ويتغير ويكتسي بملامح جديدة من دون أن نجد أدبا يرافق ويوضح هذا التغيرات ويرصد بعض المعالم الإنسانية والزمنمكانية لفترة وحقبة معينة في حياة مجتمع.
هنا المشكلة تكمن كما وضع الدكتور عبدالله الفيفي مشرطه النقدي عليها وردها إلى أصل الخلل في الثقافة العربية التي هي انعكاس حقيقي لفساد منظم يتزايد في جميع منطومات المجتمع، في مقال معنون بـ « شِعريّة البناء الموسيقيّ-8... حنينٌ درويشيٌّ إلى خُبْز العَروض»
إذ يصف ويحلل أسباب الأزمة كالتالي:
ما بَرِحَتْ ثقافتنا بين شَبا حدَّين: الانغلاق في الماضي، باسم الأصالة، والانفتاح على تياراتٍ هوجاء، باسم الحداثة والمستقبليّة والتنوير. وإذا كان السيف الأوّل يحملنا على الجمود، فالتحجّرِ، فالتدحرجِ بلا تفكير ولا إنسانيّة، فإن الأفعَى المقابلة تدفعنا إلى اتّخاذ مساراتٍ من الانغسال من الهويّة والثقافة- الوطنيّة أو القوميّة - ومِن ثَمَّ الانسلاخ منهما، إنْ على المستوى الفكري أو السلوكي. ووراء هذين الاتجاهين تكمن أهدافٌ سياسيّة وفكريّة، قد تَخْفَى، لكنها باتت اليوم مفضوحةً، وإنما الغريق في ثورة الاتصالات الحديثة، وانفتاح الفضاء الذهنيّ البشريّ على الذات والآخر، لا يملك إلّا أن يتشبث بـ «قشَّةٍ» من تلك القشاش التي كانت له في الماضي سواري تحمل أشرعته. أمّا اليوم، فما عاد إلّا القليل ممّن لم يستيقظوا بعد يجهلون الطريق اللاحب. الطريق الذي يأخذ من ماضيه الصالحَ، ويَذَر ما سوى ذلك، ومن الحاضر والآخَر ما يفيده ويبنيه، ثم يمضي في سبيله، لا يتعثّر في عُقد الماضي، ولا يذوب في سراب المحاكاة والتقليد. غير أنه طريقٌ لم يعرفه العرب بعد؛ ربما لأنهم ذوو عقول قَبَليّة، فهم لا يعرفون التفكير دون محرِّكات الذهن العصبيّة، نحو هذا أو ذاك، ولا يحتملون النقد والاختلاف. كلّ أمرهم يتحوّل بينهم إلى داحس والغبراء، منذ الجَدَل حول أشعر بيت إلى الجَدَل حول ديوان العرب، أهو الشِّعر أم الرواية؟! أمّا على المستوى الفكري والاجتماعي والثقافي، فحدّث ولا حرج؛ الدماء تسيل بينهم إلى الرُّكَب، ومنذ الأزل. هكذا جُبلوا، وهكذا عاشوا، وهكذا تصعلكوا في الغبراء والخضراء، وسيبقون هكذا في ما يبدو، حتى يلج جملهم في سَمِّ الخياط! ذلك لأن الثقافة في أنساقهم الغالبة ليست بقيمةٍ أخلاقيّةٍ وحضاريّةٍ، بمقدار ما هي منبر جاهٍ وصِيْتٍ، وتشكيل عصابة جديدة أو قديمة». (2)
بالطبع ما تقدم لا ينفي أبدا إن هناك أدبا جيدا يطرح نفسه بقوة، اجتمعت فيه معطيات العمل الأدبي الرصين، من الموهبة، والطاقة اللغوية، والإحساس المرهف، والنزعة الإنسانية، بالإضافة إلى القراءة والدربة وتثقيف الذات المستمر، ولكن هذا الأدب يشكل نسبة بسيطة مقارنة من الأدب التجريبي الذي انتشر في فضائنا الثقافي.
* كاتبة وناقدة كويتية
(1) أ. د عبد الفيفي، «شعرية البناء الموسيقي (8) حنين درويشي إلى العروض. جريدة الجزيرة، العدد 360، التاريخ: 1/ 12/ 2012.
su_ad81@hotmail.com
من محرضات كتابة هذا المقال، هو انني بدأت بكتابة مقالي الأسبوعي حول عمل كنت أقرأه، لأكتب عن بعض النقاط التي أراها مهمة في العمل لأسلط الضوء عليها، ولأتفاعل معها كقارئة للنص وفق خبرات معرفية وحدسية معينة تتعانق والنص وتعطي تأويلا لمعطيات النص، وفق منظوري الخاص بتجاربي القرائية والآليات التي أحاول التمكن منها ما استطعت إليها سبيلا، ولكن هذا البحث المضني في النص الأدبي، جعلني أقرأه مرارا وتكرارا جيئة وذهابا على معالم وثيمات النص من دون جدوى سوى الاجتهاد في فك شيفرات النص المغروسة في أرض يباب، كل هذا أحالني إلى سؤال قديم جديد، سؤال حول الكتابة الإبداعية عندما تقدم في إطار محاولات تجريبية متواضعة جدا لا ترقى إلى مصاف النص الأدبي الرصين، عندما تقرأ نصا يحلق بك عاليا في اللغة والأسلوب الشعرية والأسلوبي الباذخ في شعريته وانحرافاته الأسلوبية، فتعيش استلابا سلبيا في هذا النص إلى أن تهبط هبوطا اضطراريا بعد أن تكتشف انك ضيعت وقتك المرات تلو المرات باحثا عن فكرة هذا النص أو ذاك فلا تجد فكرة محددة بل إنك تجد نصا غارقا في متاهات لغوية متنافرة العلاقات بين الدال والمدلول، بين المضاف والمضاف إليه، الصفة والموصوف، فالتحليل اللغوي البسيط لها يكشف عن اعتباطية لغوية، قد تدهشك كمتلق في بعض الأحيان ولكنك في النهاية تجده كالسراب يحسبه الظمآن ماء. فالنص الذي يقدم لك متاهة لغوية عليك أنت كقارئ تقرأها وتفك رموزها، ولا تجد في العمق فكرة إنسانية عميقة، أو حتى بسيطة، ماذا يقدم للرصيد الإبداعي والإنساني؟! بالتأكيد، مثل هذا النص، لا يقدم سوى جسد لغوي هش وضعيف، قد يكون بالنهاية خطا يرتكز عليه بعض المجربين في بحور اللغة، ليتذرعوا بأن هناك من سبقهم، فيكون بالتالي ذريعة لتناسلهم وتكاثرهم اتكاء على نص هش وهزيل نشر واستقبل بتصفيق المجاملين وليس بدافع لذة التلقي الفني.
أما القسم الآخر، فهو القسم الذي يعطيك فكرة إنسانية تشتغل على هم إنساني معين، فتقول لنفسك وانت تقرأ العمل نصا اقترب من عالم الإبداع مضمونيا، ولكنك تتساءل عن عنصر الفنية، فتجد الفنية هي أبعد ما تكون عن النص، أقول الفنية، وأقصد بها عدة عناصر تشكل منظومة العمل الأدبية الشكلية والتقنية، التي تنحرف عن الكتابة النصوص الواقعية «النص التاريخي، النص السياسي، النص الاجتماعي». فما يجعل الفن فنا هو انحرافه عن لغة الواقع، التقريرية والمباشرة، بالولوج الى عالم اللذة الفنية والدهشة والتخيل الذاتي المتصور لأحد مفاهيم الحياة، وما يجعل الفن فنا، هو العمق في طرح قضايا الإنسانية بكثير من التدفق المعرفي لأزمة الإنسان وتحليل القضية بأبعادها المتعددة، وبحس بالغ الشفافية ومرهف، فالفن كما أراه ليس تجربة نظرية بحتة ومحضة، وليس تجربة حسية خالصة بل هو كل و مزيج بين الأمرين هو يقع بين البينين، ويجمع بين المعرفة بالإنسان، والمعرفة بمكونات العمل الأدبي، وتقنياته التي توصل الرسالة الإنسانية.
كذلك ثمة قسم وفئة من المبدعين يكتبون بجد وابتكار ويلمون بمجموعة من العناصر الأدبية، ويكتبون مواضيع جيدة نسبيا، ولكن يتبقى على عاتقهم دور مهم وهو التقدم خطوات إلى مصاف الإبداع الجميل والمبتكر والمتقدم، الذي يقدم عالما إبداعيا يوصف بأنه مقترب من الوعي الجمالي والإنساني الخلاق، يقدم أفكارا مدهشة وجديدة ومتجددة، يقدم رؤى تنأى عن التقريرية، والتقليدية، وبانتاج نماذج تكرر نفسها، فنحن أمام هذا القسم قد نقول نعم الكاتب أم الكاتبة وفق في الموضوع، ولغته جميلة، ولكن يتبقى سؤال مهم وحساس جدا حول الأصالة، والابتكار، والعمق الإنساني والغرف من بحر الإبداع الذي يشكل للنص مذاقا وبصمة خاصة بهذا الأديب دون ذاك الأديب. كما يجعلنا نتساءل عن فكرة التنوع و التمايز الأدبي بين انتاج أديب وآخر؟!
قرأنا نصوصا أدبية كثيرة تعلن عن بنوتها لنصوص أدبية سابقة، وقعت في فخ التقليد بعدما كانت النصوص الأصلية متميزة في إبداعها وأصالتها وطرحها لأفكار خاصة بوعي إنساني معين، ما يحيلنا الى سؤال مهم جدا حول مفهوم القديم والحديث، الأصالة والابتكار، وأن تقدم أدب ابن بيئته المحلية وملتصقا بهموم الإنسانية، أن تكتب همك المحلي بعيون ترنو إلى العالمية، وأن تكتب للعالم واضعا في سياقك النصي اعتبار المحلية، وجغرافية المكان والزمان الذي تعيش به، لتصنع هوية خاصة للأدب الذي تقدمه، وأنا هنا أقترب من قضية مهمة جدا هي قضية كتابة نص أدبي خال من ملامح المكان والزمان لبيئة منشأ النص، بذريعة كتابة أدب عالمي يقرأ في كل مكان وزمان، متناسين ثيمة المكان والزمان، التي تصبغ معالم التجربة الإنسانية والأدبية، فليس صحيحا انه بما أن العالم تحول إلى قرية كونية، فلابد أن ننسى هوياتنا المحلية، نعم نحن نرحب بالعالمية، ولكن شريطة إلا نكون مسخا لأفكار وتصورات الآخرين، فالتجربة الإنسانية حتى وإن خرجت من رحم زمان ومكان وأسماء وحوادث ومعطيات معينة، تبقى تجربة إنسانية صالحة لكل زمان ومكان، لأن قيمتها ستكون بما فيها من خلاصة تجربة إنسانية، معينة اعتنقت وراهن تاريخي محدد وبيئة اجتماعية معينة، فهل حد من انتشار روايات كـ «آنا كارنينا»، و «مدام بوفاري»، أو «أحدب نوتردام» كونها التصقت بعوالم محددة، وفضاء نصي بزمن يعود إلى أكثر من مئة عام، ومكان فرنسي أو روسي. بالتأكيد لا، لانها أعمال أدبية خالدة عبرت عن تجربة إنسانية مشتركة، ولم تؤثر هوية مكان وزمان وشخصيات النص القصصي على قراءتنا لقصص تشيخوف. ما أريد قوله هنا : إن الأديب لابد أن يقترب أكثر من مشاكل أمته وبيئته المحلية ليكشف رؤيته للمجتمع الذي تجده يتشكل ويتغير ويكتسي بملامح جديدة من دون أن نجد أدبا يرافق ويوضح هذا التغيرات ويرصد بعض المعالم الإنسانية والزمنمكانية لفترة وحقبة معينة في حياة مجتمع.
هنا المشكلة تكمن كما وضع الدكتور عبدالله الفيفي مشرطه النقدي عليها وردها إلى أصل الخلل في الثقافة العربية التي هي انعكاس حقيقي لفساد منظم يتزايد في جميع منطومات المجتمع، في مقال معنون بـ « شِعريّة البناء الموسيقيّ-8... حنينٌ درويشيٌّ إلى خُبْز العَروض»
إذ يصف ويحلل أسباب الأزمة كالتالي:
ما بَرِحَتْ ثقافتنا بين شَبا حدَّين: الانغلاق في الماضي، باسم الأصالة، والانفتاح على تياراتٍ هوجاء، باسم الحداثة والمستقبليّة والتنوير. وإذا كان السيف الأوّل يحملنا على الجمود، فالتحجّرِ، فالتدحرجِ بلا تفكير ولا إنسانيّة، فإن الأفعَى المقابلة تدفعنا إلى اتّخاذ مساراتٍ من الانغسال من الهويّة والثقافة- الوطنيّة أو القوميّة - ومِن ثَمَّ الانسلاخ منهما، إنْ على المستوى الفكري أو السلوكي. ووراء هذين الاتجاهين تكمن أهدافٌ سياسيّة وفكريّة، قد تَخْفَى، لكنها باتت اليوم مفضوحةً، وإنما الغريق في ثورة الاتصالات الحديثة، وانفتاح الفضاء الذهنيّ البشريّ على الذات والآخر، لا يملك إلّا أن يتشبث بـ «قشَّةٍ» من تلك القشاش التي كانت له في الماضي سواري تحمل أشرعته. أمّا اليوم، فما عاد إلّا القليل ممّن لم يستيقظوا بعد يجهلون الطريق اللاحب. الطريق الذي يأخذ من ماضيه الصالحَ، ويَذَر ما سوى ذلك، ومن الحاضر والآخَر ما يفيده ويبنيه، ثم يمضي في سبيله، لا يتعثّر في عُقد الماضي، ولا يذوب في سراب المحاكاة والتقليد. غير أنه طريقٌ لم يعرفه العرب بعد؛ ربما لأنهم ذوو عقول قَبَليّة، فهم لا يعرفون التفكير دون محرِّكات الذهن العصبيّة، نحو هذا أو ذاك، ولا يحتملون النقد والاختلاف. كلّ أمرهم يتحوّل بينهم إلى داحس والغبراء، منذ الجَدَل حول أشعر بيت إلى الجَدَل حول ديوان العرب، أهو الشِّعر أم الرواية؟! أمّا على المستوى الفكري والاجتماعي والثقافي، فحدّث ولا حرج؛ الدماء تسيل بينهم إلى الرُّكَب، ومنذ الأزل. هكذا جُبلوا، وهكذا عاشوا، وهكذا تصعلكوا في الغبراء والخضراء، وسيبقون هكذا في ما يبدو، حتى يلج جملهم في سَمِّ الخياط! ذلك لأن الثقافة في أنساقهم الغالبة ليست بقيمةٍ أخلاقيّةٍ وحضاريّةٍ، بمقدار ما هي منبر جاهٍ وصِيْتٍ، وتشكيل عصابة جديدة أو قديمة». (2)
بالطبع ما تقدم لا ينفي أبدا إن هناك أدبا جيدا يطرح نفسه بقوة، اجتمعت فيه معطيات العمل الأدبي الرصين، من الموهبة، والطاقة اللغوية، والإحساس المرهف، والنزعة الإنسانية، بالإضافة إلى القراءة والدربة وتثقيف الذات المستمر، ولكن هذا الأدب يشكل نسبة بسيطة مقارنة من الأدب التجريبي الذي انتشر في فضائنا الثقافي.
* كاتبة وناقدة كويتية
(1) أ. د عبد الفيفي، «شعرية البناء الموسيقي (8) حنين درويشي إلى العروض. جريدة الجزيرة، العدد 360، التاريخ: 1/ 12/ 2012.
su_ad81@hotmail.com