| علي الرز |
ماذا تغيّر؟ انقلبت الدنيا وثارت الثائرة على شيء شببتُ عليه ولم يشكل في يوم من الأيام مصدر قلق أو تهديد لي، بل كان على الدوام مصدر قلق وتهديد للآخرين، خصوصاً أبناء بلدي الذين جعلناهم في لحظة ما يخشون البوح بمشاعرهم حتى داخل غرف النوم.
فرّقنا بينهم. زرعنا الرعب. جعلنا الأخ يشك بأخيه. كوّنا جيشاً حقيقياً من كتبة التقارير لقياس حجم محبة الناس للقائد. فتحنا لهم كل شيء بالقطارة بدءاً من الدش والفاكس وانتهاء بالموبايل. أشغلناهم بآلاف الهموم دفعة واحدة كي لا يفكروا للحظة في كسر احتكارنا لشرف قيادة البلد، أو كي لا يجدوا وقتاً للاعجاب بترهات الامبرياليين عن الحرية والديموقراطية... فلو كان في هذه الشعارات خير لكانت الضغوطات مورست على اسرائيل.
حصلت الثورات العربية فقلنا إنها أشرف الثورات. «الشعب يريد». طلبنا من العباقرة عندنا ان يجتهدوا في تفسير هذه العبارة على اساس ان الشعب يريد التشبه بنظامنا. كتبت «الدكتورة» ان سقوط نظاميْ تونس ومصر سببه انهما لم يعتمدا نموذجنا في الحكم، ثم حصل ما لم يكن في الحسبان. ثار الليبيون على القذافي...
توقفت «الدكتورة» عن التحليل.
قلنا لمَن سألنا ان ربيع العرب لن يزورنا رغم انه مرّ في عاصمتنا بسرعة البرق مطلع الالفية الثالثة، فنحن غير وغير وغير وغير... تم سحب أظافر أطفال درعا فدخل الشباب الى مكتبي وكأن على رؤوسهم الطير.
من أوّلها، لن نسمح لهم بتغيير السياق التاريخي. هناك نظام ممانع مقاوم اصلاحي متحرر، وهناك ارهابيون و«قاعدة» ومسلحون ومؤامرة خارجية. لا محرمات امام تثبيت هذا السياق سواء تعلق الامر بتفريغ الأحشاء والحناجر أو تعلّق الامر بالاستعانة بأي صديق أو... عدو، لكن ما يزعجني حقاً ان نفسيات أبناء بلدي تغيّرت، وها هم يكشفون المستور بهواتفهم النقالة ويصوّرون ويبثون ويرسلون الى الفضائيات.
قلت لهم اكثر من مرة في خطاباتي ولقاءاتي إنني لا أنزعج ممن يتظاهر بل ممن يصوّر التظاهرات. ركزتُ على الهواتف المحمولة وأجهزة الثريا واعتبرتُها دليلا على وجود المؤامرة. أغلقنا مكاتب الاعلاميين. سجنّا المراسلين. كرسنا وسائل إعلامنا لكشف المؤامرة. استعنا بأصدقاء لبنانيين مفوهين للرد على المؤامرة، لكنهم كانوا أهبل من إعلامنا الرسمي، اذ تحدثوا عن نماذج لمدن تشبه مدننا بنيت في الدوحة وغذوها بالمتظاهرين للقول انها في بلدي. يللا، المهم انهم أوفياء.
استخدمنا احتياطنا الاستراتيجي وأنزلنا وزير الخارجية بكبره الى ساحة المواجهة الاعلامية فعرض شريطاً لقتل مصري في لبنان على اساس انه فِعل عصابات مسلحة هنا... لا حول الله ماذا تغير؟
انه الموبايل وتحديداً الآيفون. هنا كل المؤامرة. انبشوا كل ارشيفكم لن تعثروا فيه الا على صورة أو صورتين لما اعتبروه مجزرة في ثمانينات القرن الماضي وهي لأبنية محترقة من الخارج. ابحثوا في كل ما سمعتموه عن اغتيالات حصلت عندنا أو قصف لمواقع في بلدنا، ولن تجدوا سوى ما نريد ان نعرضه. ضبطنا الارض والناس بشكل لا نظير له في العالم، اما الآن فرجل الامن عندما يرفس قتيلاً بقدمه ويقدّم له التحليل السياسي بقالب عسكري قائلا: «بدك حرية يا ابن (...)» يجد صورته وصوته في كل التلفزيونات.
الأمور أوضح من الوضوح الآن. انه الآيفون. يسجل ويرسل. لا مشكلة في تأديب الناس وقتلهم واعتقالهم وتعذيبهم... بل متى كانت هذه مشكلة أساساً؟ المشكلة في مَن ينشر غسيلنا ويرسله الى الخارج عبر المحمول. والأدهى في الامر ان مَن اخترع الآيفون، ستيف جوبز، والده من عندنا وأمه أميركية، لكنه حصل على الجزاء المناسب.
أمك يا ستيف لم تكن لتفخر بك لو علمت ان اختراعك يُستخدم في مؤامرة ضرب النظام الممانع المقاوم. أمك يا ستيف، لو شعرت ان فيك خيراً لما كانت هجرتك وانت صغير ورمتك لعائلة اخرى كي تتبناك. أمك يا ستيف لم تسر في جنازتك لأنها أدركت انك مسؤول عن اختراع... غير مسؤول.
أمك يا ستيف... أمك يا ستيف... أمك يا ستيف... لماذا أنجبتكَ؟