| سعاد العنزي |
وجع النص وألمه لم يعد أمرا غريبا على قارئ النص الأدبي شعرا وقصة أو رواية، بل أصبح من الأمور الأكثر اعتيادية أن تتذوق حبات من المرارة في فناجين قهوة النص الأدبي، ومن النادر جداً أن يفاجئك قاص بنص مليء بأحداث ناضرة بالسعادة والفرح محمولا بين كفي اللغة ومقروءا في سمات الأبطال وحيواتهم. نحن هنا لا نتحدث عن نص عربي وحسب بل نتحدث عن ثيمة مستقرة في الادب العالمي بالفعل بدأنا نفقد الأمل في تشكل نص يثير البهجة والمتعة والجمال من فرط تواتر نصوص الألم واليأس والمرارة، وهذا قد لا يعود الى أن الأدباء أنفسهم متشائمون بقدر ما يعود بنسبة كبيرة الى فرط حساسية الأديب الذي ما إن يلتحم وآلام الشعوب فإنه سيتحرك ولغته بالتعبير عن هموم ذلك المواطن العادي القابع تحت مظلة الألم المبطنة بألوان الرجاء.
في مجموعة « آخر الشطآن» للقاصة الكويتية تسنيم الحبيب ما يزيد على عشرين قصة مقسمة بين قصص قصيرة، وقصص قصيرة جدا، تطل علينا المؤلفة بحزن اعتصر حروف الكتابة، وشخصيات تنزف ألما بين لغتي الماضي والحاضر التي تباشرك بالألم والوجع وموت الحلم والنحيب الدائم الباحث عن لحظة انفراج في آخر محطات الأمل الموصول بروحانية عالية تنظر إلى الله بيقين متعال على قيود الواقع وبروحانية تجد من مجرد فكرة القرب من الله طاقة وقوة عالية لا تضاهيها قوة.
فالعنوان «آخر الشطآن» ليس عنوانا دالا على إحدى القصص في المجموعة فحسب، والذي تمحور في دلالاته على القصة المعنونة به ليدل على حالة من الارتكاز العاطفي والأمان النفسي على شاطئ الأمومة المفقودة بولادة طفل يولد فضاء جديدا للحياة بعد فقد الشخصية لأمها، والذي لم يتضح بالنص من هي أم الطفل، الذي يموت في آخر القصة المكثفة بصفحتين فقط، ما يوحي بفضاء من العدمية، والتلاشي، وانسداد الألم، فالعنوان غير المباشر ودلالته تكمن في ان آخر الشطآن هو الجنين الذي فقد الحياة بعد فترة قصيرة من الولادة، فهذا يعني انعدام الرؤية الآملة بالحياة، وله من بعد الدلالة على المجموعة كلها بان أفق الحياة مختنق وبعيد عن حركته وسيرورته الطبيعية، فبنية النصوص الحكائية متأزمة ومتخذة طابعا واحدا وقالبا أساسيا كامنا في الحزن والأسى.
فلو أخذنا جملا متباينة من كذا نص في المجموعة، ستكون النبرة المسيطرة على غالب النصوص هي لغة الحزن والأسى:
«رائحة الأسى تجوب دارك، لا تبرحها، خمسون يوما زحفت بهمها على قلبك» من نص «مشاهد من بيت الأحزان»، وفي نص «في الخربة» كذلك القارئ يجد أول جملة في النص تطالعه بدفقات عالية من الحزن: «ذابلة الشفاه، حاسرة الرأس، دامية القدمين...». (ص35).
فكانت اللغة انعكاسا حقيقيا لمضامين النص الحكائية، وتتآزر جميعها لإيصال ألم الإنسان المعاصر الذي يحاول المرء أن يتناساه فيهجم على لا وعيه في كتابة قصة قصيرة، أو حتى في كتابة نص نقدي مواز لهذه القصة القصيرة.
على الرغم من تحميل المجموعة بأكثر ما يحتمل النص من الشحنات العاطفية القابعة تحت وطأة النظرة الواحدة للحياة، فإن المجموعة لم تخل من بعض اللفتات الاجتماعية والإنسانية المهمة، وبمعالجة موضوعية فعالة. فالمجموعة تتقاطع مع قضايا مهمة في حياة كل مجتمع كقضايا بالغة الحساسية في وقتنا الحالي كصلة الرحم ووصل الأرحام تلتفت لها القاصة وبكثافة في مجموعة «آخر الشطآن».
فعلى سبيل المثال في قصة « أضعتها»، وبالزمن الماضي الذي ارتبط بالعنوان إشارة قوية على تأكيد الخسارة والفقد ولم يكن للشخصية إلا الرجوع إلى الذكريات متأسفة ونادمة. وتثير القاصة الانتباه لمشاعر الغيرة التي تفقد الأخوة أجمل ما فيها من التحام واتحاد في مقابل الظروف ودورة الزمان والأعداء فتعرض لموضوع الغيرة وهي ظاهرة اجتماعية متحققة بين الأختين وهما في طور الطفولة وما بعدها التي حالت بين التواصل والقرب العاطفي بين الأختين وافقادهما لمشاعر هي كالبوصلة العاطفية التي تضيء المسار لهما في التجديف نحو بعضهما البعض. فالبطلة تسرد حكايتها بضمير المتكلم و ترجع إلى الزمن الماضي لتبين قدر الندم الذي جعلها تنقد ذاتها و محاسبتها على اهمالها لمشاعر الحميمية بين الأختين اللتين حال الزمن بينهما ولعب دولته في صنع جسور من الافتراق بينهما، فتقول:
«عندما كنا صغيرتين، لم تمنعني براءة الطفولة من اكتشاف الفروقات بيننا، تلك الفروقات التي لاحظها الجميع، فهي هادئة وأنا مشاكسة، وهي لبقة وانا سمجة، وهي مضحية وانا أنانية... وهي التي تكرس نفسها لخدمة أمي العليلة في الوقت الذي اتسكع فيه لهوا ولعبا.
وعندما ترنم بيتنا بنسيج اليتم اصبحت هي السيدة الاولى!». ص53
مثل النص السابق بعنوانه ذي الدلالة المباشرة في النص بأن الفتاة افتقدت الأخوة، بعدما أضاعتها ببعض التصرفات المحكومة بدائرة المشاعر الانسانية الضيقة التي سببت النأي بين الشقيقتين.
كذلك لم تكن الأخوة وحدها هي إحدى صور أواصر الروابط الإنسانية التي نسجت القصص في المجموعة على مدار معانيها القيمة. فالنصوص كذلك بنيت على فكرة أساسية وهي تعزيز البحث عن القيم المفقودة في المجتمع والترابط الاسري والاجتماعي فتجد للعمة والأخت والأم والأب والابن والابنة صورا عديدة تتجول بالمتن الحكائي للنصوص، وتجدها في بعض القصص تشغل فضاء القصة كاملا. هذه المعالجة إما تجدها تعمقت بإيجابيتها في النص أو أصبحت عالما مفقودا في مجتمع فقد القيم الاجتماعية. ولكن بشكل عام القاصة أعادت انعاش هذه القيم في مجموعتها التي التقت وبعد اجتماعي عميق فكانت المجموعة بمثابة صوت حنون وعميق يجذر أحساسنا بالآخر الذي يربطنا به أكثر من رابط، ونغترب عنه بسبب خيوط الشر الواهية التي تنسج حول مجتمعنا وذواتنا كما تنسج العنكبوت خيوطها التي تعمي الأبصار ولكنها لا تجرؤ الالتفاف على ذوي القلوب النابضة المحبة للإنسانية.
* ناقدة وكاتبة كويتية
mobdi3on@windowslive.com
* تسنيم الحبيب، مجموعة «آخر الشطآن». المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى، 2010.
وجع النص وألمه لم يعد أمرا غريبا على قارئ النص الأدبي شعرا وقصة أو رواية، بل أصبح من الأمور الأكثر اعتيادية أن تتذوق حبات من المرارة في فناجين قهوة النص الأدبي، ومن النادر جداً أن يفاجئك قاص بنص مليء بأحداث ناضرة بالسعادة والفرح محمولا بين كفي اللغة ومقروءا في سمات الأبطال وحيواتهم. نحن هنا لا نتحدث عن نص عربي وحسب بل نتحدث عن ثيمة مستقرة في الادب العالمي بالفعل بدأنا نفقد الأمل في تشكل نص يثير البهجة والمتعة والجمال من فرط تواتر نصوص الألم واليأس والمرارة، وهذا قد لا يعود الى أن الأدباء أنفسهم متشائمون بقدر ما يعود بنسبة كبيرة الى فرط حساسية الأديب الذي ما إن يلتحم وآلام الشعوب فإنه سيتحرك ولغته بالتعبير عن هموم ذلك المواطن العادي القابع تحت مظلة الألم المبطنة بألوان الرجاء.
في مجموعة « آخر الشطآن» للقاصة الكويتية تسنيم الحبيب ما يزيد على عشرين قصة مقسمة بين قصص قصيرة، وقصص قصيرة جدا، تطل علينا المؤلفة بحزن اعتصر حروف الكتابة، وشخصيات تنزف ألما بين لغتي الماضي والحاضر التي تباشرك بالألم والوجع وموت الحلم والنحيب الدائم الباحث عن لحظة انفراج في آخر محطات الأمل الموصول بروحانية عالية تنظر إلى الله بيقين متعال على قيود الواقع وبروحانية تجد من مجرد فكرة القرب من الله طاقة وقوة عالية لا تضاهيها قوة.
فالعنوان «آخر الشطآن» ليس عنوانا دالا على إحدى القصص في المجموعة فحسب، والذي تمحور في دلالاته على القصة المعنونة به ليدل على حالة من الارتكاز العاطفي والأمان النفسي على شاطئ الأمومة المفقودة بولادة طفل يولد فضاء جديدا للحياة بعد فقد الشخصية لأمها، والذي لم يتضح بالنص من هي أم الطفل، الذي يموت في آخر القصة المكثفة بصفحتين فقط، ما يوحي بفضاء من العدمية، والتلاشي، وانسداد الألم، فالعنوان غير المباشر ودلالته تكمن في ان آخر الشطآن هو الجنين الذي فقد الحياة بعد فترة قصيرة من الولادة، فهذا يعني انعدام الرؤية الآملة بالحياة، وله من بعد الدلالة على المجموعة كلها بان أفق الحياة مختنق وبعيد عن حركته وسيرورته الطبيعية، فبنية النصوص الحكائية متأزمة ومتخذة طابعا واحدا وقالبا أساسيا كامنا في الحزن والأسى.
فلو أخذنا جملا متباينة من كذا نص في المجموعة، ستكون النبرة المسيطرة على غالب النصوص هي لغة الحزن والأسى:
«رائحة الأسى تجوب دارك، لا تبرحها، خمسون يوما زحفت بهمها على قلبك» من نص «مشاهد من بيت الأحزان»، وفي نص «في الخربة» كذلك القارئ يجد أول جملة في النص تطالعه بدفقات عالية من الحزن: «ذابلة الشفاه، حاسرة الرأس، دامية القدمين...». (ص35).
فكانت اللغة انعكاسا حقيقيا لمضامين النص الحكائية، وتتآزر جميعها لإيصال ألم الإنسان المعاصر الذي يحاول المرء أن يتناساه فيهجم على لا وعيه في كتابة قصة قصيرة، أو حتى في كتابة نص نقدي مواز لهذه القصة القصيرة.
على الرغم من تحميل المجموعة بأكثر ما يحتمل النص من الشحنات العاطفية القابعة تحت وطأة النظرة الواحدة للحياة، فإن المجموعة لم تخل من بعض اللفتات الاجتماعية والإنسانية المهمة، وبمعالجة موضوعية فعالة. فالمجموعة تتقاطع مع قضايا مهمة في حياة كل مجتمع كقضايا بالغة الحساسية في وقتنا الحالي كصلة الرحم ووصل الأرحام تلتفت لها القاصة وبكثافة في مجموعة «آخر الشطآن».
فعلى سبيل المثال في قصة « أضعتها»، وبالزمن الماضي الذي ارتبط بالعنوان إشارة قوية على تأكيد الخسارة والفقد ولم يكن للشخصية إلا الرجوع إلى الذكريات متأسفة ونادمة. وتثير القاصة الانتباه لمشاعر الغيرة التي تفقد الأخوة أجمل ما فيها من التحام واتحاد في مقابل الظروف ودورة الزمان والأعداء فتعرض لموضوع الغيرة وهي ظاهرة اجتماعية متحققة بين الأختين وهما في طور الطفولة وما بعدها التي حالت بين التواصل والقرب العاطفي بين الأختين وافقادهما لمشاعر هي كالبوصلة العاطفية التي تضيء المسار لهما في التجديف نحو بعضهما البعض. فالبطلة تسرد حكايتها بضمير المتكلم و ترجع إلى الزمن الماضي لتبين قدر الندم الذي جعلها تنقد ذاتها و محاسبتها على اهمالها لمشاعر الحميمية بين الأختين اللتين حال الزمن بينهما ولعب دولته في صنع جسور من الافتراق بينهما، فتقول:
«عندما كنا صغيرتين، لم تمنعني براءة الطفولة من اكتشاف الفروقات بيننا، تلك الفروقات التي لاحظها الجميع، فهي هادئة وأنا مشاكسة، وهي لبقة وانا سمجة، وهي مضحية وانا أنانية... وهي التي تكرس نفسها لخدمة أمي العليلة في الوقت الذي اتسكع فيه لهوا ولعبا.
وعندما ترنم بيتنا بنسيج اليتم اصبحت هي السيدة الاولى!». ص53
مثل النص السابق بعنوانه ذي الدلالة المباشرة في النص بأن الفتاة افتقدت الأخوة، بعدما أضاعتها ببعض التصرفات المحكومة بدائرة المشاعر الانسانية الضيقة التي سببت النأي بين الشقيقتين.
كذلك لم تكن الأخوة وحدها هي إحدى صور أواصر الروابط الإنسانية التي نسجت القصص في المجموعة على مدار معانيها القيمة. فالنصوص كذلك بنيت على فكرة أساسية وهي تعزيز البحث عن القيم المفقودة في المجتمع والترابط الاسري والاجتماعي فتجد للعمة والأخت والأم والأب والابن والابنة صورا عديدة تتجول بالمتن الحكائي للنصوص، وتجدها في بعض القصص تشغل فضاء القصة كاملا. هذه المعالجة إما تجدها تعمقت بإيجابيتها في النص أو أصبحت عالما مفقودا في مجتمع فقد القيم الاجتماعية. ولكن بشكل عام القاصة أعادت انعاش هذه القيم في مجموعتها التي التقت وبعد اجتماعي عميق فكانت المجموعة بمثابة صوت حنون وعميق يجذر أحساسنا بالآخر الذي يربطنا به أكثر من رابط، ونغترب عنه بسبب خيوط الشر الواهية التي تنسج حول مجتمعنا وذواتنا كما تنسج العنكبوت خيوطها التي تعمي الأبصار ولكنها لا تجرؤ الالتفاف على ذوي القلوب النابضة المحبة للإنسانية.
* ناقدة وكاتبة كويتية
mobdi3on@windowslive.com
* تسنيم الحبيب، مجموعة «آخر الشطآن». المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى، 2010.