غزة، تلك المساحة الضيقة الصغيرة من الأرض 360 كيلومتراً، والتي يسكنها مليون ونصف المليون نسمة، والتي تسجل أعلى كثافة سكانية في العالم يعيش فيها أكثر من مليون إنسان تحت خط الفقر.إنها «غزة هاشم» المحتلة منذ أكثر من أربعين عاماً، ولكنها لم تئن ولم تضعف... صامدةً أنجبت طابوراً طويلاً لم يتوقف من الأبطال المجاهدين من أجل وطنهم ومقدساتهم. حاول فريق من الفلسطينيين المستسلمين للغرب الإطاحة بحكومة «حماس» فيها، فأطاحت بهم حكومة «حماس»، ومن ورائها شعب غزة «وارتد السحر على الساحر». ومن يومها تغيّرت أحوال كثيرة في غزة، فقد استكثر جميع أعداء الإسلام والعروبة أن تكون غزة حرة تختار قيادتها ولا تتآمر عليها.والمشهد في غزة الآن «حصار ـ أمراض ـ قتل ـ فقر»، يقابله: «صبر ـ صمود ـ مقاومة ـ كرامة ـ عزة»، وشهداء تزف أرواحهم إلى الحور العين. هكذا بفضل الله، ضربت غزة للأمة العربية والإسلامية المثال في الوفاء بضريبة الجهاد من أجل فلسطين والتضحية من أجل ألا يضيع الأقصى.فمنذ انتفاضة الأقصى، لم تجف دماء الشهداء في غزة، ولم تتوقف غزة عن المقاومة، وكل يوم تتسابق وسائل الإعلام نحو غزة لتنشر للعالم مذابح العدو الصهيوني في غزة. لكن أربعاء السابع والعشرين من فبراير الماضي، وحتى السبت الأول من مارس الجاري، كانت أياماً لافتة في تاريخ غزة الأبية، إنها «أيام المحرقة» ـ كما سماها أحد المسؤولين الصهاينة ـ وهي أيام دفع ضريبة الصمود والمقاومة. إنها أيام الشهداء الفلسطينيين، وهي أيام الصمت والوهن العربي، وهي أيام التواطؤ الغربي، وهي أيام الخذلان لسلطة رام الله.إنها أيام لن تنسى في تاريخ الجهاد والمقاومة الفلسطينية، بعدما استشهد ما يقرب من مئة وثلاثين مجاهداً، وجرج مايزيد عن ثلاثمئة، غير ما تهدم من المنازل والمؤسسات. لكن السؤال: لماذا غزة؟ ولماذا الآن؟الإجابة واضحة لا تخفى على كل من له قلب وعقل ليس من العرب والمسلمين فحسب، بل على كل إنسان في البشرية، وذلك لأن غزة تدفع ثمن صمودها، لأن شعب غزة وقف مع حقوقه ولم يفرط فيها، واختار «حماس» في الانتخابات النيابية، وكان صوته هو المرجح لفوزها وتمكينها من تشكيل الحكومة، عكس ما أراد العدو الصهيوني والأميركيون ومن تبعهم من بعض الفلسطينيين، ما أثار غيظهم فكانت المؤامرة التي حدثت في غزة، والتي فضحتها مجلة «فانتي فير» الأميركية بتاريخ 4 مارس الجاري، حين نشرت تفاصيل مؤامرة الانقلاب على «حماس» بواسطة محمد دحلان ودعم أميركي تحت إشراف المخابرات الأميركية. ثم إن معظم العمليات الاستشهادية، والمقاومين، الذين أحدثوا نكاية شديدة بالعدو المحتل، خرجوا من غزة. هذا بخلاف أن صواريخ المقاومة نحو المغتصبات الصهيونية تنطلق من غزة. كما أن شعب غزة وقف مع حكومة «حماس» وصمد معها في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ولم ينقلب عليها، رغم الضغوط كلها من حصار رهيب وقطع للكهرباء ومنع للدواء.وتمثل غزة ترسانة استراتيجية خطيرة في ميزان القوى مع الاحتلال، بما تمثله من قوة بشرية مؤمنة بقضيتها، وعلى استعداد للتضحية بكل ما تملك، فكان المخطط لغزة هو الإبادة والحرق والقتل والنسف، حتى الأطفال الرضع لم يسلموا حتى تنكسر شوكة غزة، ولكن أنى لهم أن تنكسر غزة وقوة صلابتها من إيمانها بحقها وعقيدتها. فما حدث كان مخططاً له في أنابوليس، لإنهاء كل تمرد على المخطط «الصهيو ـ أميركي» في فلسطين مهما كان الثمن، وجاءت إشارة البدء مصاحبة لزيارة الرئيس الأميركي في مجزرة حي الزيتون في غزة، ومن المتوقع أن تتوالى تلك المجازر، ولكن لم ولن يلين الشعب الفلسطيني المسلم العربي في غزة مهما حدث، وقد لقنت المقاومة للعدو درساً بليغاً في جباليا في منطقة جبل الكاشف، وأجبرته على الانسحاب، وهو الذي يملك الطائرات والدبابات والصواريخ وهم لا يملكون غير صدور مكشوفة للموت. لذلك سوف يفكر العدو الصهيوني كثيراً في تكرار عدوانه، كما حدث في أيام المحرقة الأخيرة في غزة.ويبقى أنه لم يكن مستغرباً من العدو الصهيوني قتل الأطفال الرضع، فقد وصفهم الله في كتابه الكريم أنهم «قتلة الأنبياء»، فهل يتورعون عن قتل الأطفال الرضع وحرقهم؟ وستبقى غزة بفضل الله صامدة بايمانها وبعقيدتها وحقها في الدفاع عن مقدساتها ووطنها، لتبقى غزة مدرسة تعلِّم العالم كله الصمود من أجل المبادئ مهما كانت التضحيات.لذلك فإن السؤال هو: هل يتعلم كل من يتداخل في الصراع «العربي ـ الإسرائيلي» سواء من الأنظمة العربية أو الفلسطينيين من مدرسة غزة الصمود؟وأخيراً، تتردد في وسائل الإعلام تصريحات كثيرة عن هدنة ومباحثات برعاية عربية بين «حماس» وإسرائيل، ورسالة الصمود التي تعلِّمها مدرسة غزة للجميع ينبغي أن يعيها جيداً جميع المفاوضين العرب سواء من «حماس» أو من غيرهم. الصمود هو الدرس الأول والأخير في مواجهة العدوان الصهيوني سواء كان في مجال الحرب أو السياسة.
ممدوح إسماعيلمحامٍ وكاتب كويتيelsharia5@hotmail.com