شهد الجيل الذي سبقنا ثورة العرب على الأنظمة الاستعمارية الغربية، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف، كما حدث في الجزائر بلد المليون شهيد، وفي ثورة الليبيين ضد المستعمر الإيطالي والتي خلفت 750 ألف شهيد، وغيرها من الثورات الأخرى، ولكنها ثورات جاءت بعدها أنظمة عربية قمعية زادت من الطين بلة، فازداد معها تخلفنا تخلفا، ولم يتغير إلا هوية المستعمر وشكله ولهجته.
إن الثورة الحقيقية للعرب لا تكمن فقط في الثورة على الأنظمة المستبدة، بل تكمن في الثورة على الأفكار والقناعات المستبدة، كما تكمن في أن نتحول إلى كيانات ودول وأنظمة تكون قدوة لغيرها في كل القيم الإنسانية، وبأن نواجه قناعاتنا وسلوكياتنا بصدق وحزم، لا أن نعلق فسادنا على الأنظمة، وإن كان للأنظمة نصيب من ذلك، فالنظام الفاسد لم يصبح فاسدا إلا لأن عناصره قابلة للفساد، ونحن جزء من تلك العناصر بكل مكوناتنا وأطيافنا.
الثورة الحقيقية للعرب أن نتحول من صناعة الكلام إلى صناعة المنتجات والخدمات، ونكون خير أمة أخرجت للناس بالفعل، وأن نتحول إلى كيانات ومنظومات إقليمية فاعلة، ونفرض أفكارنا «طواعية» على العالم من خلال صناعاتنا وخدماتنا، لاحظوا ثورة الأمم الأخرى ماذا فعلت، ومثال ذلك:
اليابان و
ألمانيا و
البرازيل و
ماليزيا.
إن ثورة العرب الحقيقية تكمن في أن نتخلص من عقدة أن الآخرين يريدون تدميرنا، فإن كان ذلك حقا، فلنبنِ أنفسنا بوتيرة أسرع من معاول هدمهم، بأن نتخلص من الصراعات الدامية بين مكوناتنا الإثنية، ونتعايش وفق المنظومة الوطنية كبقية الأمم، ونجعل من ذلك التنوع قواعد صالحة للبناء لا للهدم.
إن ثورة العرب الحقيقية تكمن في أن يدركوا أنهم «خير أمة أخرجت للناس»، وأن نجعل من ذلك عقيدة مجتمعية، وذلك لا يتحقق بالخطب الرنانة، ومواعظ الرقائق فقط، بل من خلال عمل جاد نقدم من خلاله للعالم «خيريتنا» فعلا لا قولا، وواقعا يمكن الاقتداء به، لا واقعا بئيسا كئيبا يرون فيه أسوء مثال للتناحر الطائفي والمذهبي والعرقي.
إننا وإن كنا نفرح للثورات العربية لهذا الجيل، إلا إننا نضع أيدينا على قلوبنا خشية أن نعود للمربع الأول من جديد، وأن تأتي أنظمة أخرى أسوأ ممن سبقتها ولكن برداء وقناع جديد، وتعود حليمة لعادتها القديمة، ورغم ذلك فإننا لا نملك إلا التفاؤل بأن نستفيد من أخطاء من سبقونا، فالسعيد من وُعِظَ بغيره، والتعيس من وُعِظَ بنفسه.


د. عبداللطيف الصريخ
كاتب كويتي
Twitter : @Dralsuraikh