| القاهرة ـ من نعمات مجدي |
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس** ذلك كل من اقترب منه أو طالع أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغاني ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:

سؤال يبقى يتردد... لكنه ترك ثروة فنية تحكي حياته

العبقري صلاح... هل انتحر انتقاماً من الاكتئاب؟

عندما قامت ثورة يوليو العام 1952 في مصر... آمن صلاح جاهين بمبادئها وأصبح معبرا عن أحلامها من خلال مجموعة من الأغاني الوطنية بصوت عبدالحليم حافظ وألحان كمال الطويل ومحمد الموجي، وفي العام 1956 كتب «والله زمان يا سلاحي» معبرا عن صرخة كل مصري في وجه العدوان الثلاثي «إنكلترا- فرنسا- إسرائيل» على مصر، وتغنت بها أم كلثوم من ألحان كمال الطويل.
لكن جاءت هزيمة 1967 لتكون بمثابة الضربة القاصمة لصلاح جاهين، فدخل في حالة من الاكتئاب وتوقف عن كتابة الأغاني الوطنية، وكان قد كتب أغنية لحنها كمال الطويل لتغنيها أم كلثوم عشية هزيمة الخامس من يونيو 1967، وهي أغنية «راجعين بقوة السلاح» لكن جاءت النكسة في اليوم التالي لتنسف آماله وأغنيته التي صاغها بالأمس، فكانت هي الموت الروحي والنفسي لصلاح جاهين.
اتجهت كتابات جاهين بعد النكسة في اتجاهين؛ الشعر التأملي العميق كما في الرباعيات «الأشهر بالعامية» التي كتبها قبل النكسة وكتب «5» منها بعد النكسة، والأغاني الخفيفة، التي ربما كان أشهرها تلك الأغاني التي غنتها الممثلة سعاد حسني في فيلم «خللي بالك من زوزو»، مثل الأغنية التي حملت عنوان الفيلم، و«يا واد يا تقيل» وغيرها.
كان لحرب الاستنزاف أثر كبير في نفس القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ما أفقدها توازنها وأصبحت تتصرف كثور هائج، فأغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية صباح 8 أبريل العام 1970 على مدرسة بحر البقر الابتدائية فدمرت المكان وقتلت العشرات من التلاميذ الأبرياء الذين كانوا يرسمون في كراساتهم عالما خاليا من الحرب والحقد والعدوان.

سباق مع الحياة
كان جاهين غزيرا في الإنتاج، أنجز المئات من القصائد التي تراوحت بين الزجل والشعر العامي والشعر الشعبي وتحولت إلى أغان غناها عشرات المطربين، وكتب أيضا عددا من الأوبريتات الغنائية ربما كان أشهرها أوبريت «الليلة الكبيرة» الذي لايزال يحتفظ بألقه حتى اليوم.
وخلال هذه الفترة توقف صلاح جاهين عن كتابة الأغاني الوطنية؛ حيث اعتبر نفسه مشاركا في الهزيمة بأغانيه وأشعاره شديدة التفاؤل والحماس للثورة ولزعيمها جمال عبدالناصر، فلم يكن صلاح جاهين محبا لعبد الناصر فقط، بل كان مبهورا به يراه قادرا على تحقيق ما لم يستطع أي زعيم وطني آخر تحقيقه. وعن حبه لعبدالناصر يقول: «أنا وقعت تحت مغناطيسية الكاريزما الموجودة في شخصية عبدالناصر، ولكني تعلمت أن أنظر إليه بموضوعية».
لكن استعاد جاهين توازنه وكتب من وحي حرب الاستنزاف «الدرس انتهى» بعد الهجوم الإسرائيلي على مدرسة بحر البقر، و«عناوين جرانين المستقبل» إثر الهجوم الإسرائيلي على مصنع أبوزعبل. ثم توقف عن الكتابة فترة طويلة كتب بعدها «المصريين أهمه» وكانت آخر أعماله الوطنية.

أبواب جديدة
لم يستسلم صلاح بعد النكسة وقرر أن يطرق أبوابا جديدة، فلم يكن المسرح والكاريكاتير والدواوين تسع موهبة صلاح جاهين المتدفقة كشلال ولم تستطع أشد المصاعب أن توقفه. وطرق باب السينما والتلفزيون، ولم ينتظر حتى تفتح له الأبواب، فقد كانت مفاتيحهما السحرية في يده لينطلق بنا في عوالم درامية، غنائية، واستعراضية.

هل انتحر جاهين؟
رحل الشاعر العظيم صلاح جاهين في 21 أبريل العام 1986 حين ابتلع جرعة زائدة من الحبوب المنومة التي كان يتناولها للتخلص من مرض الاكتئاب، ولكنه أسلم الروح وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين من العمر مخلفا وراءه ثروة فنية هائلة تمثلت في مئات القصائد ورسوم الكاريكاتير.
اتهمه كثيرون بالانتحار لكن رؤيته للحياة تثبت عكس ذلك فنراه يقول في رباعياته «الدنيا أوضه كبيرة للانتظار... فيها ابن آدم زيه زي الحمار الهم واحد... والملل مشترك... ومفيش حمار بيحاول الانتحار... عجبي».
وبهذه النهاية رحل صلاح جاهين الذي رسخ حلم البناء والنهضة والثورة في كيان الشعب المصري فهتفنا معه «صورة... كلنا عايزين صورة»، وانهمرت دموعنا في «انتهى الدرس» ونحن نرى في كلماته دماء أطفال مدرسة بحر البقر التي ضربتها إسرائيل، ورقصنا على كلماته مع سعاد حسني في «الدنيا ربيع والجو بديع»... وهكذا اختلطت كلماته بكيان هذا الشعب الذي أحس بأحلامه وآلامه.
كان سبب الوفاة كما قال ابنه الشاعر بهاء جاهين هو تضارب استخدام العقاقير لأنه كان يعاني من أمراض عدة في القلب والضغط والسكري وغيرها، والحقيقة أن كل طبيب كان يعطيه عقارا للقلب من دون مراعاة مدى صلاحية هذا العقار لمرض السكري أو العكس، ما أدى إلى نتائج سلبية سببت وفاته،.وبذلك حقق رباعياته:
أنا كنت شيء وأصبحت شيء ثم شيء
شوف ربنا... قادر على كل شيء
هز الشجر شواشيه ووشوشني قال
لابد ما يموت شيء عشان يحيا شيء
عجبي!!
كان هذا صلاح جاهين عندما تستمع إلى أغانيه وتحسن الإصغاء إليها وتنفعل وتتحد معها فتنحني إلى الأرض وأنت تعرق وتغرق عندما ينشد المنشد: «الأرض قالت آه، الفاس بتجرحني، رديت وأنا محني، آه منك أنت آه»، وتطير في الأعالي منتشيا عندما يقول: «يا حمام البر سقف»، وتتحمس وتشجع وتستبسل وتخوض غمار المعارك وأنت تواكب الفتح الذي استحدثه في الأغاني الوطنية منذ أن صدح بهذه الأغنية إلى أن نظم نشيدنا الوطني «والله زمان يا سلاحي»، فلجاهين تعبيرات يبتسم لها القلب ويتوقف عندها العقل وقد يحتار قليلا وأحيانا يتألم ويتوجع القلب أو العقل أو الاثنان معا.
على خطواته سيكون سيري
فهو المعلم والمربي والدليل
رسم الحياة فليس إلا نهجه
وضياؤه للسائرين على السبيل
هل تعرفون معلمي يا إخوة
تاهوا على الدرب الطويل
محمد رسول الله
صلى الله عليك وعلى آلك وصحبك أجمعين