منذ بداية نشاطي في حقل الدين والمجتمع اخترت ثقافة الوسطية والاعتدال، وذلك لقناعتي أن الاعتدال والوسطية هما الخيار الأفضل، وهما في الواقع ثقافة قرآنية في العمق، وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، وفاز الرفق بالخير كله، وباء العنف بالبؤس كله، وكان هذا المكان الوسطي يمنحك قدراً كبيراً من المقبولية عند الناس، صحيح أنهم لا يتبعونك، فالناس يتبعون بشكل طبيعي مرجعياتهم المعروفة، ولكنك تستطيع أن تحظى بحبهم، وهذا بالضبط ما أبحث عنه، وهو ما أعتز أنني أعيش فيه منذ أعوام طويلة.
ولكن مع بداية الأزمة تغير هذا الواقع، وأصبح المكان الوسط هو أخطر الأمكنة على الإطلاق، ومع واقع التحفز والتربص، فالأزمات لا تسمح بهامش رمادي، والأزمات تطلق مباشرة الخطاب التقليدي الذي قدمه بوش عشية تفجيرات مانهاتن، وسمعه العالم، وهو يقول عليكم أن تختاروا: «إما معنا أو مع الإرهاب! ليس هناك خيار ثالث»! وهذا بالضبط ما أشعر به الآن في سورية، فقد نصبت الحدود الدموية بين الفريقين المتلاعنين، وأجبر البرزخ الرمادي أن يختار لونه (أبيض أو أسود) تحديداً ولم يعد هناك مكان آخر، وسرعان ما وجدت نفسي في القائمتين السوداوين، لفريق السلطة وفريق المعارضة، ويكفي تصريح واحد ليأخذك إلى أي منهما، ولكن لا يمكن فلسفياً الخروج من هذه القوائم السوداء، فهما إحداثيتان لا ترتفعان، ولا بد أن تكون في إحداهما على الأقل، وتتفرغ للعن الآخر وتخوينه حتى النخاع.
حين تقفز إلى الخيار الأول فإن الثاني سيقوم بتخوينك، ولكن الأول سيبرئك ويحميك، وحين تقفز إلى الثاني فسيحصل العكس تماماً سيخونك فريق ويحميك فريق آخر، ولكن حين تبقى في المنتصف فسيخونك الفريقان ولن يحميك أي منهما.
ولكن هذا الخيار الحتمي لا يعني أبداً أنك في المكان الخاطئ، فالخطأ والصواب مرتبط بمعايير أخرى، وبحسبك أن تكون مرضي الضمير في موقفك الذي تتحمل مسؤوليته، على حد قول الأول:
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً
إن الحياة عقيدة وجهاد
يعاني المجتمع السوري اليوم من انقسام حاد وصارم، ولا مكان فيه لأنصاف الحلول، ويمكن توصيف المشهد السياسي وفق ثنائية حادة، فقد أعلن النظام منذ أربعين عاماً تحالفاً سياسياً شهيراً تحت عنوان الجبهة الوطنية التقدمية، وهي تضم «حزب البعث» والأحزاب الجبهوية المتحالفة معه، وفي الشهر الماضي قام تحالف معاكس شاركت فيه أحزاب المعارضة ودعت إلى العمل على إسقاط النظام.
ووفق أكثر الأرقام تداولاً ومقبولية في سورية فإن عدد المنتسبين فعلاً إلى هذه الأحزاب الموالية والمعارضة لا يتجاوز في سورية ثلاثة ملايين مواطن، ويبقى السؤال البديهي هنا ما هو موقف عشرين مليون سوري لم يتشكل سياسياً بعد؟ إن هذا الطريق الثالث يمثل بالفعل الأغلبية الصامتة، ومن حق الناس في هذه الأغلبية الصامتة أن تتشكل سياسياً وتعبر عن مواقفها، وهذا بالضبط ما قصدته المحاولة الحزينة للمبادرة الوطنية من أجل مستقبل سورية التي عقدت في فندق
سميراميس قبل أيام وسط ظروف لوجستية بالغة التعقيد.
في كل يوم تقوم في الوطن محاولات للتواصل مع الطريق الثالث، وحمل معاناته ومطالبه، ويمكن الإشارة هنا إلى الحراك الذي بدأ في اتحاد الكتاب العرب، وتالياً في حلب في مبادرة جمعية رواد التجديد، وفي المبادرة الوطنية من أجل إنقاذ سورية، ثم في مؤتمر البرلمانيين المستقلين، وفي هذه المؤتمرات كلها كنا نبحث عن مخرج للبلاد من الأزمة التي تعصف بها، فهناك خوف حقيقي على مستقبل البلاد، ومن غير المعلوم إلى أين ستذهب سورية إذا ما تم الاحتكام إلى صوت الرصاص، وما هو واقع هذه الأغلبية الصامتة التي ليست في عير السلاح ولا في نفيره.
النواب المستقلون يمارسون دستورياً دور قيادة الطريق الثالث، ولكن من الناحية الواقعية فهم لا يمثلون شيئاً من ذلك، وخلال تجربتي في مجلس الشعب فقد كان أي لون من التشكل السياسي بين المستقلين ممنوعاً، وهذا خطأ قاتل وتدخل سافر في أعمال من يمثلون الأمة، وعلى الرغم من وجود كفاءات طيبة ومقدرة بين المستقلين، ولكن أعتقد أننا كنا أبعد ما نكون عن الاستقلال في قرارنا وخيارنا الديموقراطي، وكانت أي مبادرة يقوم بها نائب مستقل في الشأن السياسي تواجه بقدر كبير من الرفض والتهكم وأحياناً بالإهانة! ومن ذلك المبادرات المتعددة التي أطلقناها في المجلس باتجاه قانون الأحزاب والمادة الثامنة وتشكيل لجنة حقوق الإنسان، ومنع الاعتقال التعسفي، وإلغاء قانون إعدام «الإخوان المسلمين» ومنح الأم السوريّة جنسيتها لأبنائها، وأخيراً مقترح الزميل عبد الكريم السيد مطلع هذه السنة لإلغاء قانون الطوارئ، فقد طلب رئيس المجلس مباشرة التصويت على رفض الاقتراح!
وهكذا فقد تم رفض هذه المقترحات كلها بضراوة وكانت تواجه دائماً بعبارة: هذا خط أحمر!
أمام مجلس الشعب فرصة هذا الشهر لتصحيح صورته وتحسين أدائه السياسي من أجل مستقبل سورية وسمعة البلد وسمعة النائب السوري التي انحدرت إلى مستوى قياسي خلال الأعوام الأخيرة، وأعتقد أن النواب المستقلين أمام تحد حقيقي لمصداقيتهم خلال هذا الشهر حين يرفعون صوتهم بمطالب الشعب الحقيقية في الحرية والكرامة، عبر النضال من أجل إلغاء المادة الثامنة والمواد المتصلة بها وتصحيح المسار الدستوري لبناء دولة ديموقراطية مدنية تكفل الحريات وحقوق الإنسان ويتم فيها تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع.
إننا لا نزعم أننا نقود الطريق الثالث، ولكننا على أية حال نسير فيه ونعتقد أن أطيافاً كثيرة لا بد أن تتولد من هذا المخاض السياسي، وربما كان قانون الأحزاب المنتظر هو أقرب السبل لبلورة صيغة ما للوصول إلى صوت واضح للطريق الثالث الذي يستطيع أن يتشكل سياسياً وبالتالي يفرض وجوده على المشهد الوطني في سورية.
قال لي صديقي: إنك بالخيار الثالث ستخسر الفريقين معاً! قلت له: أنت على صواب، ولكنني سأكسب الذين لا ينتمون إلى أي من الطرفين، وهم الأغلبية الصامتة الذين لا يريدون أن يموت الديب ولا أن يفنى الغنم.


د. محمد الحبش
عضو مجلس الشعب السوري ورئيس مركز الدراسات الإسلامي