| القاهرة ـ من نعمات مجدي |
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله
منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس ذلك كل من اقترب منه أو طالع
أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة
وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغاني ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:
جهات عليا تدخلت للمصالحة بينهما
أزمة رسام «الأهرام» مع الشيخ الغزالي
القاهرة - من نعمات مجدي
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس ذلك كل من اقترب منه أو طالع أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغان ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:
انطلق صلاح جاهين في حياته العملية من جريدة «بنت النيل»، ثم جريدة «التحرير». وفي هذه الفترة أصدر أول دواوينه «كلمة سلام» في العام 1955. وفي منتصف الخمسينات بدأت شهرته كرسام كاريكاتير في مجلة «روز اليوسف»، ثم في مجلة «صباح الخير» التي شارك في تأسيسها العام 1957، واشتهرت شخصياته الكاريكاتيرية مثل: قيس وليلى، قهوة النشاط، الفهامة، درش وغيرها من الشخصيات.
كانت رسوم صلاح جاهين الكاريكاتيرية مؤثرة للغاية، لدرجة أنها تسببت أكثر من مرة في أزمات سياسية عديدة، كان من أبرزها اختلافه مع الشيخ الغزالي - رحمه الله - بالكاريكاتير عند مناقشة مشروع الميثاق في العام 1962، فاستباح طلاب الأزهر دمه وتظاهروا وتجمهروا أمام جريدة الأهرام. كما أجرى معه المدعي العام الاشتراكي تحقيقا بسبب كاريكاتير انتقد فيه تقريرا حول نتيجة التحقيق في شأن تلوث مياه القاهرة.
وكان صلاح على شفا دخول المعتقل، فقد وُضِع اسمه على رأس قائمة المعتقلين أكثر من مرة - نظرا لما يعرف عنه من ميول يسارية ونقد للنظام - لولا تدخل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر شخصيا لحذف اسمه «5» مرات من هذه القائمة.
وقد تفوق على نفسه في مجال رسم الكاريكاتير خصوصا في صحيفة الأهرام، حيث كان كاريكاتير صلاح جاهين أقوى من أي مقال صحافي، وظل بابا ثابتا إلى اليوم.
حركة الغزالي أشهر معارك جاهين كانت مع الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - ففي العام 1962 انعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية برئاسة جمال عبدالناصر، وكان أحد المتحدثين فيه الشيخ محمد الغزالي، وفي 28 من مايو 1962 خرجت «الأهرام» تحمل أخبار المؤتمر في صدر صفحاتها، ومنها كلمة الغزالي، التي طالب فيها بتحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية، وتوحيد الزي بين المصريين، وتأكيد حشمة المرأة، وألا تكون عارية الصدر والظهر والساقين، وتضمنت الصفحة الأولى من الأهرام صورة الشيخ الغزالي متحدثا أمام أعضاء المؤتمر وتحتها تعليق «للمرة الأولى في المؤتمر الوطني تعرضت المرأة لهجوم من الشيخ محمد الغزالي ولم تسكت عليه عضوات المؤتمر، فقاطعنه أكثر من مرة».
وفي اليوم التالي كانت آراء الشيخ الغزالي هي موضوع كاريكاتير صلاح جاهين، وحمل الكاريكاتير عنوان «هاجم الشيخ محمد الغزالي كل القوانين والأفكار الوافدة من الخارج»، أما الرسم فكان يصور الشيخ واقفا على المنصة يلقي كلمته منفعلا أمام رواد المؤتمر، وقد سقطت عن رأسه عمامته البيضاء، وتحت الرسم التعليق الساخر «الشيخ الغزالي: يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج، كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية».
الأزمة تتفاعل
غضب الشيخ الغزالي ولم يسكت، وفي جلسة المؤتمر التي انعقدت صباح يوم صدور الجريدة... راح الشيخ يهاجم جاهين، الذي قام بنشر كاريكاتير آخر أكثر سخونة في 30 مايو يسخر فيه من آراء الغزالي في المرأة والزي الذي ترتديه.
وبالطبع هاجم الشيخ الغزالي فعاد لمهاجمة جاهين في جلسات المؤتمر، ورد على سخريته من آرائه ردا عنيفا، وشرح أهداف كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية، وهي اعتراضه على أن يظل الشرق العربي الإسلامي محكوما بقانون فرنسي، وأنه لم يهاجم القوانين العلمية الثابتة كالجاذبية الأرضية، لأن الإسلام ليس ضد العلم، وأشار إلى سخرية جاهين من عمامته في رسوماته، وحرض أصحاب العمائم قائلا «إن مهاجمة العمامة البيضاء أمر يستدعي أن يمشي العلماء عراة الرأس إذا لم تحُم عمائمهم»، وقال «إنه لم يركز في كلمته على قضية الأزياء، فإذا كانت الكلمة قد استغرقت 20 دقيقة، فإن موضوع الأزياء لم يستغرق أكثر من 3 دقائق». اختتم الغزالي كلمته قائلا «إن هذا المؤتمر يعطي الحق لكل فرد ليقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يرد عليها بمواويل الأطفال في صحف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها».
وأشعلت هذه الكلمات المعركة وأثارت محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، فنشرت الصحيفة في اليوم التالي 31 مايو 1962 في صفحتها الأولى تعليقا تحت عنوان «كلمة الأهرام»، جاء فيها أن «الأهرام» تقدس الدين وتحترمه، ولكنها ترفض محاولة الشيخ الغزالي أن يجعل من الخلاف في الرأي بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة قضية دينية، وأن الجريدة تؤمن بحرية الرأي، لذلك تنشر نص كلمة الغزالي احتراما لحقه في إبداء رأيه مهما كان مختلفا مع رأي الجريدة، مع إعطاء الحق لصلاح جاهين أن يبدي رأيه هو الآخر في ما يقوله الشيخ الغزالي.
وفي الصفحة السابعة من العدد نشر كاريكاتير لصلاح جاهين يواصل فيه حملته على الشيخ الغزالي، وكان يحمل عنوان «ملاحظة على إغفال الشيخ الغزالي مشكلات المعيشة والمواضيع الحيوية»، أما الرسم فيصور مظاهرة لأطفال مشردين تنطق وجوههم بالبؤس والشقاء، وهم يحملون لافتة مكتوبا عليها «أين الكساء يا مشرع الأزياء... لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء»، ويظهر الغزالي معترضا طريق المظاهرة وهو يصرخ فيهم، وتحت الرسم تعليق «مابتكلمش عنكم ياجهلاء لأنكم ذكور، وما ظهر من جسمكم ليس عورة».
جاهين يتحدى
في صباح اليوم التالي «الجمعة» أول يونيو 1962، فوجئ قراء الأهرام بـ «6» رسوم كاريكاتيرية لجاهين، وهو عدد غير مسبوق، وحملت الرسومات الستة عنوانا هو «تأملات كاريكاتيرية في المسألة الغزالية»، وكان الواضح من هذه الرسوم أن المعركة بينه والشيخ الغزالي قد وصلت إلى الذروة، فتحت عنوان «أبوزيد الغزالي سلامة»... رسم صلاح جاهين الشيخ الغزالي وهو يمتطي فرسا على طريقة أبوزيد الهلالي، ووجه الشيخ صوب ذيل الفرس، ويحمل في يده حربة مخيفة مكتوبا عليها «الإرهاب باسم الدين»، وتحت الرسم تعليق شعري ساخر يقول:
هنا يقول أبوزيد الغزالي سلامة... وعينيه ونضارته يطقو شرار
أنا هازم الستات ملبسهم الطرح... أنا هادم السينما على الزوار
أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر... ولو حد عارض... يبقى من الكفار
ويا داهية دقي لما أقول ده فلان كفر... جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار
فأحسن لكم قولوا «آمين» بعد كلمتي... ولو قلت الجمبري ده خضار
نقل الشيخ الغزالي المعركة إلى المنبر، وشن هجوما على جاهين ورسوماته أثناء الخطبة، وكانت لكلمات الشيخ وبلاغته فعل السحر في نفوس المصلين، وكان أغلبهم من طلبة الأزهر المتحمسين المريدين للشيخ ومن أتباعه، فما إن انتهت شعائر الصلاة حتى خرج الشباب في مظاهرة عارمة حملوا فيها الشيخ الغزالي على الأعناق، ثم توجهوا إلى مبنى «الأهرام»، وارتفعت أصواتهم بالثورة على جاهين، والتفوا حول المبنى ورموه بالطوب وكسروا زجاجه، وغضب الأستاذ هيكل من هذه التصرفات الطائشة، فكتب مقالا وقعه باسم «الأهرام»... اتهم فيه الشيخ الغزالي بتحريض المتظاهرين.
وفي العدد نفسه، نشرت الأهرام كاريكاتيرا جديدا لجاهين، الرسم يصور صلاح واقفا أمام منصة القضاء وخلفه الشيخ الغزالي، وقد رشق صلاح جاهين في ظهره بخنجر مكتوب عليه «الإرهاب» وتحت الرسم تعليق: «العبدلله: ودلوقتي بعدما الغزالي أبدى رأيه بطريقته الخاصة الموضحة بالرسم، نشرح له مرة أخرى أهداف الميثاق».
مصالحة فورية
وكان على المسؤولين أن يتدخلوا لفض المعركة، التي باتت تهدد الأمن والنظام، ففي اليوم التالي نشرت الأهرام خبرا عن اتصال بين نائب رئيس الجمهورية كمال الدين حسين، والأمين العام للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، ورئيس تحرير الأهرام الأستاذ هيكل، طلب منه تجاوز موضوع الخلاف بين الجريدة والشيخ الغزالي، وضرورة الانصراف إلى مناقشة الميثاق، كما أكد أن احترام الدين وإجلاله أمر يحرص عليه الجميع.
هذا ما نشرته الأهرام، وما لم تنشره هو أن كمال الدين حسين طلب من الأستاذ هيكل وديا إجراء مصالحة فورية بين الشيخ الغزالي وجاهين، وبالفعل تلقى الغزالي دعوة لزيارة الأهرام، والتقى الغزالي هيكل الذي أكد مجددا دور الشيخ ومكانته، ولأن «الأهرام» لم تقصد الإساءة لشخصه، وأن الخلاف في وجهات النظر لا يعني الخصومة والعداء، واستدعى هيكل جاهين إلى مكتبه وتم الصلح.
مشواره في «روزاليوسف» و«صباح الخير»
دخل جاهين مؤسسة «روزاليوسف» و«صباح الخير» صدفة، فكان اللقاء الأول مع مديحة عزت سكرتيرة السيدة فاطمة اليوسف التي قابلته صدفة، فكانت ـ آنذاك ـ طالبة لم يتجاوز عمرها السابعة عشرة عاما بالتوجيهية بمدرسة «فاكس» التي تقع أعلى شركة بيع المصنوعات بالممر التجاري بوسط البلد.
مديحة عزت تحدثت: لم أكن أعرف لماذا تواجد صلاح جاهين داخل المجلة، وإذ به يطلب مني أن يعمل بـ«روزاليوسف» رسام كاريكاتير تحت زعم أنه فنان، فقلت له «مفيش مشاكل»، وموعدنا غدا... وبعد أن عُرضت رسوماته على إحسان عبد القدوس أشاد بها وقال خطوطه جيدة في الرسم، وبدأ يقدم رسومه إلا أنها لم تنشر في المجلة باستثناء القليل منها.
وغدت الظروف سانحة أمام جاهين في «صباح الخير» التي كان يرأس تحريرها أحمد بهاء الدين منذ أول صدورها، وبدأت شهرة جاهين لدى القراء رغم أنه كان يتخذ الخط الاجتماعي في الكاريكاتير.
وتسترجع مديحة ذكرياتها فتقول: عاش جاهين فصلا جديدا في حياته المهنية ومشواره مع الكاريكاتير وترك «صباح الخير» إلى «الأهرام»، وفيها بدأ يهتز نفسيا لأن المناخ كان هناك غير أسري مثل مجلة «صباح الخير»، ولهذا عاد إلينا مرة أخرى باعتبار «صباح الخير» بيته، إلى درجة أنه كان يشارك العمال عزاءهم.
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله
منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس ذلك كل من اقترب منه أو طالع
أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة
وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغاني ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:
جهات عليا تدخلت للمصالحة بينهما
أزمة رسام «الأهرام» مع الشيخ الغزالي
القاهرة - من نعمات مجدي
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس ذلك كل من اقترب منه أو طالع أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغان ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:
انطلق صلاح جاهين في حياته العملية من جريدة «بنت النيل»، ثم جريدة «التحرير». وفي هذه الفترة أصدر أول دواوينه «كلمة سلام» في العام 1955. وفي منتصف الخمسينات بدأت شهرته كرسام كاريكاتير في مجلة «روز اليوسف»، ثم في مجلة «صباح الخير» التي شارك في تأسيسها العام 1957، واشتهرت شخصياته الكاريكاتيرية مثل: قيس وليلى، قهوة النشاط، الفهامة، درش وغيرها من الشخصيات.
كانت رسوم صلاح جاهين الكاريكاتيرية مؤثرة للغاية، لدرجة أنها تسببت أكثر من مرة في أزمات سياسية عديدة، كان من أبرزها اختلافه مع الشيخ الغزالي - رحمه الله - بالكاريكاتير عند مناقشة مشروع الميثاق في العام 1962، فاستباح طلاب الأزهر دمه وتظاهروا وتجمهروا أمام جريدة الأهرام. كما أجرى معه المدعي العام الاشتراكي تحقيقا بسبب كاريكاتير انتقد فيه تقريرا حول نتيجة التحقيق في شأن تلوث مياه القاهرة.
وكان صلاح على شفا دخول المعتقل، فقد وُضِع اسمه على رأس قائمة المعتقلين أكثر من مرة - نظرا لما يعرف عنه من ميول يسارية ونقد للنظام - لولا تدخل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر شخصيا لحذف اسمه «5» مرات من هذه القائمة.
وقد تفوق على نفسه في مجال رسم الكاريكاتير خصوصا في صحيفة الأهرام، حيث كان كاريكاتير صلاح جاهين أقوى من أي مقال صحافي، وظل بابا ثابتا إلى اليوم.
حركة الغزالي أشهر معارك جاهين كانت مع الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - ففي العام 1962 انعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية برئاسة جمال عبدالناصر، وكان أحد المتحدثين فيه الشيخ محمد الغزالي، وفي 28 من مايو 1962 خرجت «الأهرام» تحمل أخبار المؤتمر في صدر صفحاتها، ومنها كلمة الغزالي، التي طالب فيها بتحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية، وتوحيد الزي بين المصريين، وتأكيد حشمة المرأة، وألا تكون عارية الصدر والظهر والساقين، وتضمنت الصفحة الأولى من الأهرام صورة الشيخ الغزالي متحدثا أمام أعضاء المؤتمر وتحتها تعليق «للمرة الأولى في المؤتمر الوطني تعرضت المرأة لهجوم من الشيخ محمد الغزالي ولم تسكت عليه عضوات المؤتمر، فقاطعنه أكثر من مرة».
وفي اليوم التالي كانت آراء الشيخ الغزالي هي موضوع كاريكاتير صلاح جاهين، وحمل الكاريكاتير عنوان «هاجم الشيخ محمد الغزالي كل القوانين والأفكار الوافدة من الخارج»، أما الرسم فكان يصور الشيخ واقفا على المنصة يلقي كلمته منفعلا أمام رواد المؤتمر، وقد سقطت عن رأسه عمامته البيضاء، وتحت الرسم التعليق الساخر «الشيخ الغزالي: يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج، كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية».
الأزمة تتفاعل
غضب الشيخ الغزالي ولم يسكت، وفي جلسة المؤتمر التي انعقدت صباح يوم صدور الجريدة... راح الشيخ يهاجم جاهين، الذي قام بنشر كاريكاتير آخر أكثر سخونة في 30 مايو يسخر فيه من آراء الغزالي في المرأة والزي الذي ترتديه.
وبالطبع هاجم الشيخ الغزالي فعاد لمهاجمة جاهين في جلسات المؤتمر، ورد على سخريته من آرائه ردا عنيفا، وشرح أهداف كلمته التي ألقاها في الجلسة الافتتاحية، وهي اعتراضه على أن يظل الشرق العربي الإسلامي محكوما بقانون فرنسي، وأنه لم يهاجم القوانين العلمية الثابتة كالجاذبية الأرضية، لأن الإسلام ليس ضد العلم، وأشار إلى سخرية جاهين من عمامته في رسوماته، وحرض أصحاب العمائم قائلا «إن مهاجمة العمامة البيضاء أمر يستدعي أن يمشي العلماء عراة الرأس إذا لم تحُم عمائمهم»، وقال «إنه لم يركز في كلمته على قضية الأزياء، فإذا كانت الكلمة قد استغرقت 20 دقيقة، فإن موضوع الأزياء لم يستغرق أكثر من 3 دقائق». اختتم الغزالي كلمته قائلا «إن هذا المؤتمر يعطي الحق لكل فرد ليقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يرد عليها بمواويل الأطفال في صحف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها».
وأشعلت هذه الكلمات المعركة وأثارت محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، فنشرت الصحيفة في اليوم التالي 31 مايو 1962 في صفحتها الأولى تعليقا تحت عنوان «كلمة الأهرام»، جاء فيها أن «الأهرام» تقدس الدين وتحترمه، ولكنها ترفض محاولة الشيخ الغزالي أن يجعل من الخلاف في الرأي بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة قضية دينية، وأن الجريدة تؤمن بحرية الرأي، لذلك تنشر نص كلمة الغزالي احتراما لحقه في إبداء رأيه مهما كان مختلفا مع رأي الجريدة، مع إعطاء الحق لصلاح جاهين أن يبدي رأيه هو الآخر في ما يقوله الشيخ الغزالي.
وفي الصفحة السابعة من العدد نشر كاريكاتير لصلاح جاهين يواصل فيه حملته على الشيخ الغزالي، وكان يحمل عنوان «ملاحظة على إغفال الشيخ الغزالي مشكلات المعيشة والمواضيع الحيوية»، أما الرسم فيصور مظاهرة لأطفال مشردين تنطق وجوههم بالبؤس والشقاء، وهم يحملون لافتة مكتوبا عليها «أين الكساء يا مشرع الأزياء... لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء»، ويظهر الغزالي معترضا طريق المظاهرة وهو يصرخ فيهم، وتحت الرسم تعليق «مابتكلمش عنكم ياجهلاء لأنكم ذكور، وما ظهر من جسمكم ليس عورة».
جاهين يتحدى
في صباح اليوم التالي «الجمعة» أول يونيو 1962، فوجئ قراء الأهرام بـ «6» رسوم كاريكاتيرية لجاهين، وهو عدد غير مسبوق، وحملت الرسومات الستة عنوانا هو «تأملات كاريكاتيرية في المسألة الغزالية»، وكان الواضح من هذه الرسوم أن المعركة بينه والشيخ الغزالي قد وصلت إلى الذروة، فتحت عنوان «أبوزيد الغزالي سلامة»... رسم صلاح جاهين الشيخ الغزالي وهو يمتطي فرسا على طريقة أبوزيد الهلالي، ووجه الشيخ صوب ذيل الفرس، ويحمل في يده حربة مخيفة مكتوبا عليها «الإرهاب باسم الدين»، وتحت الرسم تعليق شعري ساخر يقول:
هنا يقول أبوزيد الغزالي سلامة... وعينيه ونضارته يطقو شرار
أنا هازم الستات ملبسهم الطرح... أنا هادم السينما على الزوار
أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر... ولو حد عارض... يبقى من الكفار
ويا داهية دقي لما أقول ده فلان كفر... جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار
فأحسن لكم قولوا «آمين» بعد كلمتي... ولو قلت الجمبري ده خضار
نقل الشيخ الغزالي المعركة إلى المنبر، وشن هجوما على جاهين ورسوماته أثناء الخطبة، وكانت لكلمات الشيخ وبلاغته فعل السحر في نفوس المصلين، وكان أغلبهم من طلبة الأزهر المتحمسين المريدين للشيخ ومن أتباعه، فما إن انتهت شعائر الصلاة حتى خرج الشباب في مظاهرة عارمة حملوا فيها الشيخ الغزالي على الأعناق، ثم توجهوا إلى مبنى «الأهرام»، وارتفعت أصواتهم بالثورة على جاهين، والتفوا حول المبنى ورموه بالطوب وكسروا زجاجه، وغضب الأستاذ هيكل من هذه التصرفات الطائشة، فكتب مقالا وقعه باسم «الأهرام»... اتهم فيه الشيخ الغزالي بتحريض المتظاهرين.
وفي العدد نفسه، نشرت الأهرام كاريكاتيرا جديدا لجاهين، الرسم يصور صلاح واقفا أمام منصة القضاء وخلفه الشيخ الغزالي، وقد رشق صلاح جاهين في ظهره بخنجر مكتوب عليه «الإرهاب» وتحت الرسم تعليق: «العبدلله: ودلوقتي بعدما الغزالي أبدى رأيه بطريقته الخاصة الموضحة بالرسم، نشرح له مرة أخرى أهداف الميثاق».
مصالحة فورية
وكان على المسؤولين أن يتدخلوا لفض المعركة، التي باتت تهدد الأمن والنظام، ففي اليوم التالي نشرت الأهرام خبرا عن اتصال بين نائب رئيس الجمهورية كمال الدين حسين، والأمين العام للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية، ورئيس تحرير الأهرام الأستاذ هيكل، طلب منه تجاوز موضوع الخلاف بين الجريدة والشيخ الغزالي، وضرورة الانصراف إلى مناقشة الميثاق، كما أكد أن احترام الدين وإجلاله أمر يحرص عليه الجميع.
هذا ما نشرته الأهرام، وما لم تنشره هو أن كمال الدين حسين طلب من الأستاذ هيكل وديا إجراء مصالحة فورية بين الشيخ الغزالي وجاهين، وبالفعل تلقى الغزالي دعوة لزيارة الأهرام، والتقى الغزالي هيكل الذي أكد مجددا دور الشيخ ومكانته، ولأن «الأهرام» لم تقصد الإساءة لشخصه، وأن الخلاف في وجهات النظر لا يعني الخصومة والعداء، واستدعى هيكل جاهين إلى مكتبه وتم الصلح.
مشواره في «روزاليوسف» و«صباح الخير»
دخل جاهين مؤسسة «روزاليوسف» و«صباح الخير» صدفة، فكان اللقاء الأول مع مديحة عزت سكرتيرة السيدة فاطمة اليوسف التي قابلته صدفة، فكانت ـ آنذاك ـ طالبة لم يتجاوز عمرها السابعة عشرة عاما بالتوجيهية بمدرسة «فاكس» التي تقع أعلى شركة بيع المصنوعات بالممر التجاري بوسط البلد.
مديحة عزت تحدثت: لم أكن أعرف لماذا تواجد صلاح جاهين داخل المجلة، وإذ به يطلب مني أن يعمل بـ«روزاليوسف» رسام كاريكاتير تحت زعم أنه فنان، فقلت له «مفيش مشاكل»، وموعدنا غدا... وبعد أن عُرضت رسوماته على إحسان عبد القدوس أشاد بها وقال خطوطه جيدة في الرسم، وبدأ يقدم رسومه إلا أنها لم تنشر في المجلة باستثناء القليل منها.
وغدت الظروف سانحة أمام جاهين في «صباح الخير» التي كان يرأس تحريرها أحمد بهاء الدين منذ أول صدورها، وبدأت شهرة جاهين لدى القراء رغم أنه كان يتخذ الخط الاجتماعي في الكاريكاتير.
وتسترجع مديحة ذكرياتها فتقول: عاش جاهين فصلا جديدا في حياته المهنية ومشواره مع الكاريكاتير وترك «صباح الخير» إلى «الأهرام»، وفيها بدأ يهتز نفسيا لأن المناخ كان هناك غير أسري مثل مجلة «صباح الخير»، ولهذا عاد إلينا مرة أخرى باعتبار «صباح الخير» بيته، إلى درجة أنه كان يشارك العمال عزاءهم.