| القاهرة - من محمد عبدالفتاح |
خصَّ الله - سبحانه وتعالى - بعض البشر بمواهب تميزهم عن غيرهم جعلتهم يبدعون في مجال من المجالات، فعلى مر التاريخ أبدع العباقرة - على مختلف أعمارهم - في شتى مجالات الحياة سواء العلمية أو العسكرية أو الفنية...
ونبغ عباقرة - لم يبلغوا سن العشرين - وبرعوا في تقديم خدمات جليلة للبشرية واختراعات مميزة كان لكثير منها دور كبير في تغيير مسار الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ماذا عن حياة عباقرة تحت العشرين وكيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها؟
«الراي» تغوص - من خلال هذه السلسلة - في بحار العباقرة الصغار لتسليط الضوء على ابتكارات هؤلاء واختراعاتهم المميزة التي أفادت ولاتزال تفيد البشرية إلى يومنا هذا منذ أن كانت مجرد فكرة في أذهانهم إلى أن خرجت إلى النور ومراحل تطورها. لكن هذه الحلقات ليس الغرض منها التسلية والترفيه في نهار شهر الصيام، لكنها دروس بليغة، نتعلم منها كيف نكتشف الموهبة ونرعاها ونقدم هذه النماذج المشرفة لأبنائنا الصغار كى يستفيدوا منها ويتخذوا من هؤلاء العباقرة قدوة لهم... وحلقة اليوم تحكي عن سميرة موسى الباحثة في علوم الذرّة:
هي واحدة من أشهر الباحثات في علم الذرة في العالم العربي، استطاعت بأبحاثها المذهلة أن تتوصل إلى أسرار لا حصر لها عن الطاقة النووية، وتنبأ لها أستاذها عالم الذرة المصري الشهير الدكتور علي مصطفى مشرفة بمستقبل علمي رائع بعد أن لمس عبقريتها الفذة أثناء دراستها في كلية العلوم.
إنها الدكتورة سميرة موسى أو العبقرية الصغيرة التي برعت - قبل أن تكمل العشرين - في أبحاثها عن الذرة وتطبيقاتها وتوصلت إلى نتائج كانت ستغير مجرى التاريخ لوخرجت إلى النور، وأبهرت العالم وخاف الغرب منها بعد أن توصلت إلى معادلة لانتاج الطاقة النووية من ذرات المعادن الرخيصة مثل النحاس خوفا من أن يتمكن العرب من انتاج السلاح النووي.
لذا كان لابد من التخلص من هذه العبقرية الصغيرة والقضاء على هذا الحلم قبل أن يري النور، وبالفعل نجح الموساد في اغتيالها قبل أن تتم عامها الخامس والثلاثين. ولكن رغم ذلك ستبقي سميرة موسى في ذاكرة العرب باعتبارها أصغر عبقرية في مجال الذرة.
النشأة
في قرية «سنبو الكبرى» بمركز زفتى بمحافظة الغربية - وسط دلتا مصر- ولدت الطفلة سميرة في الثالث من شهر مارس من العام 1917، وكان والدها ذا مكانة اجتماعية مميزة بين أهل القرية وكان من الميسورين، وعلى منزله كان يتوافد الكثير من المثقفين المصريين لمناقشة أوضاع بلادهم السياسية.
وسط هذا الجو نشأت الطفلة وتفتح وعيها السياسي منذ الصغر، وعندما كانت في مراحل عمرها الأولى لاحظ كل من حولها قدرتها الفائقة على الحفظ وتذكر الأشياء، فإذا حضرت مناقشة ما أو استمعت لحديث معين كانت تتذكره كاملا وبدقة لفتت إليها الأنظار كما تعلمت القراءة والكتابة في سن مبكرة جدا وحفظت أجزاء من القرآن الكريم وكانت تقرأ الصحف بطلاقة مذهلة وتستوعب كل ما تقرأه.
أيقن والدها أن ابنته تتمتع بعبقرية نادرة وأنها سيكون لها شأن في المستقبل، فاهتم بها وحرص على تعليمها رغم أن المجتمع المصري في ذلك الوقت كان يحرم الإناث من التعليم ويقصره على الرجال فقط... وقع الأب في حيرة من أمره فهو لا يجد مدرسة تقبل ابنته ثم جاء الفرج بفضل نضال عدد من السيدات المصريات من أجل إعطاء البنات الحق في التعليم ومنهن صفية زغلول وهدى شعراوي ونبوية موسى، وبدأ تعليم البنات في مصر فالتحقت الطفلة سميرة بالمدرسة وبدأت تخطو أولى خطواتها نحو المجد... ومنذ اليوم الأول لها في المدرسة لاحظ كل المدرسين والناظر ذكاء الطفلة الحاد.
لم يتردد الأب في الانتقال مع صغيرته إلى القاهرة وافتتح فندقا صغيرا في منطقة الحسين ليحصل منه على الأموال... والتحقت سميرة بمدرسة قصر الشوق الابتدائية وفيها تفوقت بشكل لافت للنظر وكانت دائما صاحبة المركز الأول، ثم التحقت بمدرسة بنات الأشراف الثانوية التي أسستها وأدارتها الناشطة السياسية آنذاك نبوية موسى.
بدأت سميرة الاهتمام بالفيزياء والعلوم المتصلة بالذرة والرياضيات وعشقت التجارب العملية، وكان المعمل الموجود في المدرسة بدائيا إلى حد بعيد، ففكرت في الانتقال إلى مدرسة أخرى توفر لها معملا تجري فيه تجاربها، وعندما علمت نبوية موسى بالأمر قررت شراء معمل جديد وجهزته بأحدث الأجهزة والمعدات. ومن وقتها أصبح هذا المعمل هو المكان المفضل للعبقرية الصغيرة وفيه ابتكرت معادلات كيميائية جديدة وتوصلت إلى نتائج مبهرة.
سميرة ومشرفة
في العام 1935 حصلت سميرة موسى على شهادة التوجيهية ـ «الثانوية العامة حاليا» ـ وكان ترتيبها الأول كالعادة وكانت من أولى المصريات اللاتي يحصلن على هذه الشهادة من خلال الانتظام في الدراسة فلم يكن مسموحا لهن بحضور الامتحانات إلا من خلال المنازل.
واختارت الالتحاق بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وتفجرت طاقاتها وظهرت عبقريتها الفذة في وضوح تام، حيث كانت تنتهز أي فرصة لدخول المعمل والقيام بتجاربها الخاصة فيه وتدون كل ملاحظاتها في نوتة صغيرة كانت لا تفارقها.
وكانت لسميرة أنشطة سياسية واجتماعية عديدة، حيث شاركت في ثورات ومظاهرات الطلاب، وفي مشروع « القرش» الذي هدف إلى جمع قرش واحد من كل فرد بغرض إنشاء مصنع للطرابيش، وكان الدكتور علي مشرفة أحد المشرفين على هذا المشروع.
الطاقة الذرية
لم تتوقف سميرة عند مرحلة علمية بل كانت تسعى دائما إلى أن ترتقي نحو المزيد من العلم والمعرفة، فحصلت على شهادة الماجستير في التواصل الحراري للغازات، وأعقبت ذلك بالسفر في بعثة إلى بريطانيا وقامت بدراسة الإشعاع النووي، وحصلت على الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة.
مكثت سميرة ببريطانيا «3» سنوات وأنهت رسالة الدكتوراه في سنتين فقط، وفي السنة الثالثة عكفت على البحث والدراسة وتوصلت من وراء أبحاثها إلى معادلة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس وصنع القنبلة الذرية من مواد قد تكون في متناول الجميع وبالتالي لا تكون الدول الغنية فقط مثل أميركا هي صاحبة الحق في امتلاك المعرفة والقوة. هذه المعادلة كان من شأنها أن تقلب موازين القوة رأسا على عقب، فالنحاس متوافر في معظم دول العالم خصوصا الفقيرة ولو تم استخدام ذراته في مجال الطاقة النووية لأمكن للجميع الاستفادة من هذه الطاقة، هذه المعادلة لم تلق قبولا من الغرب ومن الدول المتقدمة التي لا ترغب في حصول غيرها على التكنولوجية النووية فبدأت حربها على المعادلة وصاحبتها.
وقد لفت انتباهها اهتمام إسرائيل بامتلاك الأسلحة النووية وانفرادها بها، وكان هذا بمثابة التأكيد على فكر سميرة في أهمية مجاراة التقدم والحصول على ميزة التسلح بنفس أسلحتهم، خاصة بعد ما عاصرته من مأساة القنبلة النووية التي أسقطها الأميركيون على كل من مدينتي هيروشيما وناجازاكي العام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد هذه الحرب شجعت العديد من الباحثين الشباب على البحث والدراسة في الخارج ومعرفة جميع أسرار الذرة، وعندما انهزمت الجيوش العربية في حرب 1948 أدركت أن إسرائيل بما لديها من إمكانات يمكنها أن تنتج الأسلحة النووية بدعم من أميركا فعملت على إنشاء هيئة الطاقة الذرية في مصر في ذات العام وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل بثلاثة أشهر فقط. وكانت دائما ما تدعو إلى مجاراة التسليح النووي.
ولم يكن تفكيرها منحصرا فقط في الاستخدام العسكري للطاقة الذرية بل كانت ترى في العلاج الذري والإشعاعي الأمل الأكبر في علاج أخطر الأمراض وتحديدا السرطان.
سمات شخصية
كانت سميرة مولعة بالقراءة. وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث في مصر... وكانت الكتب التي حرصت على اقتنائها خليطا من كتب الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة التي لعبت دورا في حياة شعوبها. وتأثرت الدكتورة سميرة بإسهامات المسلمين الأوائل ولها مقالة عن محمد الخوارزمي ودوره في إنشاء علوم الجبر.
ولها عدة مقالات أخرى من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية.
النهاية الغامضة
زارت الدكتورة سميرة الولايات المتحدة الأميركية عدة مرات اطلعت خلالها على العديد من الأسرار النووية شديدة الحساسية ودخلت مفاعلات نووية هي الأحدث في العالم، ولم يكن ذلك سوى جزء من مخطط لاستقطابها والاستفادة من عبقريتها أو لإثنائها عن أبحاثها الهادفة لتمكين الجميع من امتلاك الطاقة النووية.
وفي العام 1952 استجابت إلى دعوة للسفر إلى أميركا وأتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأميركية، تلقت عروضا لكي تبقى في أميركا وتحصل على الجنسية لكنها رفضت وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في 15 أغسطس، وتم ترتيب كيفية وصولها ونقلها إلى المعامل عن طريق الهاتف وكان من المقترض أن يحضر إليها باحث هندي شاب ليقلها بالسيارة وفي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت شاحنة ضخمة فجأة لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادٍ عميق، وقفز سائق السيارة واختفى إلى الأبد.
بعد مقتل العالمة الشابة وهي في بداية المشوار ثارت شكوك عديدة حول مقتلها، خصوصا أن الغرب أظهر عداء واضحا لها ولأبحاثها التي تهدد سيطرته على الطاقة النووية.
وأوضحت التحريات أن السائق كان يحمل اسما مستعارا وأن إدارة المفاعل لم تبعث بأحد لاصطحابها، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الحادث كان مدبرا، وربما وقف الموساد الإسرائيلي خلفه أو أن جهات أميركية هي التي دبرت الأمر برمته، خصوصا أن الرسائل التي كانت تبعثها إلى مصر تشي بطموحها غير المحدود في مجال الذرة.
في آخر رسالة لها كانت تقول: «لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية في أميركا وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان وسأستطيع أن أخدم قضية السلام»، حيث كانت تنوي إنشاء معمل خاص لها في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة. وإن كانت الدلائل تشير - طبقا للمراقبين - إلا أن «الموساد الإسرائيلي» هو الذي اغتالها، جزاء لمحاولتها نقل العلم النووي إلى مصر والوطن العربي في تلك الفترة المبكرة.
خصَّ الله - سبحانه وتعالى - بعض البشر بمواهب تميزهم عن غيرهم جعلتهم يبدعون في مجال من المجالات، فعلى مر التاريخ أبدع العباقرة - على مختلف أعمارهم - في شتى مجالات الحياة سواء العلمية أو العسكرية أو الفنية...
ونبغ عباقرة - لم يبلغوا سن العشرين - وبرعوا في تقديم خدمات جليلة للبشرية واختراعات مميزة كان لكثير منها دور كبير في تغيير مسار الحياة المدنية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ماذا عن حياة عباقرة تحت العشرين وكيف تربوا، وكيف عاشوا، وكيف بزغت مواهبهم، وكيف تحدوا الصعاب وتغلبوا عليها؟
«الراي» تغوص - من خلال هذه السلسلة - في بحار العباقرة الصغار لتسليط الضوء على ابتكارات هؤلاء واختراعاتهم المميزة التي أفادت ولاتزال تفيد البشرية إلى يومنا هذا منذ أن كانت مجرد فكرة في أذهانهم إلى أن خرجت إلى النور ومراحل تطورها. لكن هذه الحلقات ليس الغرض منها التسلية والترفيه في نهار شهر الصيام، لكنها دروس بليغة، نتعلم منها كيف نكتشف الموهبة ونرعاها ونقدم هذه النماذج المشرفة لأبنائنا الصغار كى يستفيدوا منها ويتخذوا من هؤلاء العباقرة قدوة لهم... وحلقة اليوم تحكي عن سميرة موسى الباحثة في علوم الذرّة:
هي واحدة من أشهر الباحثات في علم الذرة في العالم العربي، استطاعت بأبحاثها المذهلة أن تتوصل إلى أسرار لا حصر لها عن الطاقة النووية، وتنبأ لها أستاذها عالم الذرة المصري الشهير الدكتور علي مصطفى مشرفة بمستقبل علمي رائع بعد أن لمس عبقريتها الفذة أثناء دراستها في كلية العلوم.
إنها الدكتورة سميرة موسى أو العبقرية الصغيرة التي برعت - قبل أن تكمل العشرين - في أبحاثها عن الذرة وتطبيقاتها وتوصلت إلى نتائج كانت ستغير مجرى التاريخ لوخرجت إلى النور، وأبهرت العالم وخاف الغرب منها بعد أن توصلت إلى معادلة لانتاج الطاقة النووية من ذرات المعادن الرخيصة مثل النحاس خوفا من أن يتمكن العرب من انتاج السلاح النووي.
لذا كان لابد من التخلص من هذه العبقرية الصغيرة والقضاء على هذا الحلم قبل أن يري النور، وبالفعل نجح الموساد في اغتيالها قبل أن تتم عامها الخامس والثلاثين. ولكن رغم ذلك ستبقي سميرة موسى في ذاكرة العرب باعتبارها أصغر عبقرية في مجال الذرة.
النشأة
في قرية «سنبو الكبرى» بمركز زفتى بمحافظة الغربية - وسط دلتا مصر- ولدت الطفلة سميرة في الثالث من شهر مارس من العام 1917، وكان والدها ذا مكانة اجتماعية مميزة بين أهل القرية وكان من الميسورين، وعلى منزله كان يتوافد الكثير من المثقفين المصريين لمناقشة أوضاع بلادهم السياسية.
وسط هذا الجو نشأت الطفلة وتفتح وعيها السياسي منذ الصغر، وعندما كانت في مراحل عمرها الأولى لاحظ كل من حولها قدرتها الفائقة على الحفظ وتذكر الأشياء، فإذا حضرت مناقشة ما أو استمعت لحديث معين كانت تتذكره كاملا وبدقة لفتت إليها الأنظار كما تعلمت القراءة والكتابة في سن مبكرة جدا وحفظت أجزاء من القرآن الكريم وكانت تقرأ الصحف بطلاقة مذهلة وتستوعب كل ما تقرأه.
أيقن والدها أن ابنته تتمتع بعبقرية نادرة وأنها سيكون لها شأن في المستقبل، فاهتم بها وحرص على تعليمها رغم أن المجتمع المصري في ذلك الوقت كان يحرم الإناث من التعليم ويقصره على الرجال فقط... وقع الأب في حيرة من أمره فهو لا يجد مدرسة تقبل ابنته ثم جاء الفرج بفضل نضال عدد من السيدات المصريات من أجل إعطاء البنات الحق في التعليم ومنهن صفية زغلول وهدى شعراوي ونبوية موسى، وبدأ تعليم البنات في مصر فالتحقت الطفلة سميرة بالمدرسة وبدأت تخطو أولى خطواتها نحو المجد... ومنذ اليوم الأول لها في المدرسة لاحظ كل المدرسين والناظر ذكاء الطفلة الحاد.
لم يتردد الأب في الانتقال مع صغيرته إلى القاهرة وافتتح فندقا صغيرا في منطقة الحسين ليحصل منه على الأموال... والتحقت سميرة بمدرسة قصر الشوق الابتدائية وفيها تفوقت بشكل لافت للنظر وكانت دائما صاحبة المركز الأول، ثم التحقت بمدرسة بنات الأشراف الثانوية التي أسستها وأدارتها الناشطة السياسية آنذاك نبوية موسى.
بدأت سميرة الاهتمام بالفيزياء والعلوم المتصلة بالذرة والرياضيات وعشقت التجارب العملية، وكان المعمل الموجود في المدرسة بدائيا إلى حد بعيد، ففكرت في الانتقال إلى مدرسة أخرى توفر لها معملا تجري فيه تجاربها، وعندما علمت نبوية موسى بالأمر قررت شراء معمل جديد وجهزته بأحدث الأجهزة والمعدات. ومن وقتها أصبح هذا المعمل هو المكان المفضل للعبقرية الصغيرة وفيه ابتكرت معادلات كيميائية جديدة وتوصلت إلى نتائج مبهرة.
سميرة ومشرفة
في العام 1935 حصلت سميرة موسى على شهادة التوجيهية ـ «الثانوية العامة حاليا» ـ وكان ترتيبها الأول كالعادة وكانت من أولى المصريات اللاتي يحصلن على هذه الشهادة من خلال الانتظام في الدراسة فلم يكن مسموحا لهن بحضور الامتحانات إلا من خلال المنازل.
واختارت الالتحاق بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وتفجرت طاقاتها وظهرت عبقريتها الفذة في وضوح تام، حيث كانت تنتهز أي فرصة لدخول المعمل والقيام بتجاربها الخاصة فيه وتدون كل ملاحظاتها في نوتة صغيرة كانت لا تفارقها.
وكانت لسميرة أنشطة سياسية واجتماعية عديدة، حيث شاركت في ثورات ومظاهرات الطلاب، وفي مشروع « القرش» الذي هدف إلى جمع قرش واحد من كل فرد بغرض إنشاء مصنع للطرابيش، وكان الدكتور علي مشرفة أحد المشرفين على هذا المشروع.
الطاقة الذرية
لم تتوقف سميرة عند مرحلة علمية بل كانت تسعى دائما إلى أن ترتقي نحو المزيد من العلم والمعرفة، فحصلت على شهادة الماجستير في التواصل الحراري للغازات، وأعقبت ذلك بالسفر في بعثة إلى بريطانيا وقامت بدراسة الإشعاع النووي، وحصلت على الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة.
مكثت سميرة ببريطانيا «3» سنوات وأنهت رسالة الدكتوراه في سنتين فقط، وفي السنة الثالثة عكفت على البحث والدراسة وتوصلت من وراء أبحاثها إلى معادلة تمكن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس وصنع القنبلة الذرية من مواد قد تكون في متناول الجميع وبالتالي لا تكون الدول الغنية فقط مثل أميركا هي صاحبة الحق في امتلاك المعرفة والقوة. هذه المعادلة كان من شأنها أن تقلب موازين القوة رأسا على عقب، فالنحاس متوافر في معظم دول العالم خصوصا الفقيرة ولو تم استخدام ذراته في مجال الطاقة النووية لأمكن للجميع الاستفادة من هذه الطاقة، هذه المعادلة لم تلق قبولا من الغرب ومن الدول المتقدمة التي لا ترغب في حصول غيرها على التكنولوجية النووية فبدأت حربها على المعادلة وصاحبتها.
وقد لفت انتباهها اهتمام إسرائيل بامتلاك الأسلحة النووية وانفرادها بها، وكان هذا بمثابة التأكيد على فكر سميرة في أهمية مجاراة التقدم والحصول على ميزة التسلح بنفس أسلحتهم، خاصة بعد ما عاصرته من مأساة القنبلة النووية التي أسقطها الأميركيون على كل من مدينتي هيروشيما وناجازاكي العام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد هذه الحرب شجعت العديد من الباحثين الشباب على البحث والدراسة في الخارج ومعرفة جميع أسرار الذرة، وعندما انهزمت الجيوش العربية في حرب 1948 أدركت أن إسرائيل بما لديها من إمكانات يمكنها أن تنتج الأسلحة النووية بدعم من أميركا فعملت على إنشاء هيئة الطاقة الذرية في مصر في ذات العام وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل بثلاثة أشهر فقط. وكانت دائما ما تدعو إلى مجاراة التسليح النووي.
ولم يكن تفكيرها منحصرا فقط في الاستخدام العسكري للطاقة الذرية بل كانت ترى في العلاج الذري والإشعاعي الأمل الأكبر في علاج أخطر الأمراض وتحديدا السرطان.
سمات شخصية
كانت سميرة مولعة بالقراءة. وحرصت على تكوين مكتبة كبيرة متنوعة تم التبرع بها إلى المركز القومي للبحوث في مصر... وكانت الكتب التي حرصت على اقتنائها خليطا من كتب الأدب والتاريخ وخاصة كتب السير الذاتية للشخصيات القيادية المتميزة التي لعبت دورا في حياة شعوبها. وتأثرت الدكتورة سميرة بإسهامات المسلمين الأوائل ولها مقالة عن محمد الخوارزمي ودوره في إنشاء علوم الجبر.
ولها عدة مقالات أخرى من بينها مقالة مبسطة عن الطاقة الذرية.
النهاية الغامضة
زارت الدكتورة سميرة الولايات المتحدة الأميركية عدة مرات اطلعت خلالها على العديد من الأسرار النووية شديدة الحساسية ودخلت مفاعلات نووية هي الأحدث في العالم، ولم يكن ذلك سوى جزء من مخطط لاستقطابها والاستفادة من عبقريتها أو لإثنائها عن أبحاثها الهادفة لتمكين الجميع من امتلاك الطاقة النووية.
وفي العام 1952 استجابت إلى دعوة للسفر إلى أميركا وأتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأميركية، تلقت عروضا لكي تبقى في أميركا وتحصل على الجنسية لكنها رفضت وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في 15 أغسطس، وتم ترتيب كيفية وصولها ونقلها إلى المعامل عن طريق الهاتف وكان من المقترض أن يحضر إليها باحث هندي شاب ليقلها بالسيارة وفي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت شاحنة ضخمة فجأة لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادٍ عميق، وقفز سائق السيارة واختفى إلى الأبد.
بعد مقتل العالمة الشابة وهي في بداية المشوار ثارت شكوك عديدة حول مقتلها، خصوصا أن الغرب أظهر عداء واضحا لها ولأبحاثها التي تهدد سيطرته على الطاقة النووية.
وأوضحت التحريات أن السائق كان يحمل اسما مستعارا وأن إدارة المفاعل لم تبعث بأحد لاصطحابها، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الحادث كان مدبرا، وربما وقف الموساد الإسرائيلي خلفه أو أن جهات أميركية هي التي دبرت الأمر برمته، خصوصا أن الرسائل التي كانت تبعثها إلى مصر تشي بطموحها غير المحدود في مجال الذرة.
في آخر رسالة لها كانت تقول: «لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية في أميركا وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان وسأستطيع أن أخدم قضية السلام»، حيث كانت تنوي إنشاء معمل خاص لها في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة. وإن كانت الدلائل تشير - طبقا للمراقبين - إلا أن «الموساد الإسرائيلي» هو الذي اغتالها، جزاء لمحاولتها نقل العلم النووي إلى مصر والوطن العربي في تلك الفترة المبكرة.