تعاني معظم الدول العربية من البيروقراطية في أغلب مؤسساتها الحكومية ابتداء من قمة الهرم وحتى القاعدة، والجمهورية العربية السورية تعاني كأخواتها من هذه الآفة الخطيرة التي إن لم تغير مسيرة التقدم من الأمام إلى الخلف فإنها على الأقل تبقي الوضع القائم قائماً على حاله التعيس لأعوام طويلة تحسب من عمر الشعوب وكأنها أيام معدودة.
وقد سيطرت هذه البيروقراطية على طريقة المعالجة السياسية للأوضاع المتوترة في الشارع السوري، ولم يفلح أصحاب القرار في الرئاسة السورية من التخلص من الاعتياد السلبي على ممارسة البيروقراطية حتى في أهم اللحظات الحرجة التي تتطلب تحركاً سريعاً يضمن احتواء ايجابياً للأحداث المتلاحقة التي تشهدها الساحة السورية.
فقد كرس الخطاب الرئاسي الأخير الذي تناول الأزمة السورية، كما أسماها، مفهوم البيروقراطية وذلك عندما أكد أن الدراسات التي تتناول حزمة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية، معتقلة في أدراج مجلس الشعب وتنتظر أمراً بالإفراج عنها وإبصار النور منذ عام 2005، وذلك مرهون بترتيب الأولويات التي كان آخرها مصلحة الوطن والمواطن.
كما وصف الخطاب إعلان إلغاء حالة الطوارئ التي ترزح تحتها البلاد منذ العام 1962، باعتباره أول المطالب الشعبية التي ينادي بها الشعب السوري، بأنه إجراء يتطلب السرعة لكن ليس التسرع، ورغم إدراكنا الفرق بين المفهومين إلا أننا لم نعرف مستوى السرعة المناسبة التي يرى السيد الرئيس اعتمادها لوضع هذا الإجراء موضع التنفيذ، كما لم يحدد المدى الذي تتحول السرعة عنده إلى نوع من التسرع.
ورغم تقديرنا لحرص النظام السوري على عدم التسرع باتخاذ إجراءات قد يكون لها رد فعل عكسي عند تنفيذها عملياً، إلا أن عدم التسرع لا يعني البتة التعامل ببطء عليل مع المستجدات المتلاحقة والأحداث المتسارعة خاصة إذا كانت تنزف دماً وتزهق أرواحاً، فمن الطبيعي أن الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد تحتاج إلى إجراءات استثنائية لرأب الصدع واحتواء الأزمة، وحزمة من الإصلاحات السياسية التي تتناسب سرعتها مع سرعة حركة الجموع الجامحة إن لم تكن أسرع، بل أنه من المفيد سياسياً للنظام الحالي أن يسرع بالقيام بالإسعافات السياسية الأولية لإنقاذ الشارع السوري من نزف شريانه الشعبي، وأن يضع أصبعه على الجرح ويداويه بسرعة بدل أن ينكأه ببطء.
لقد عانى الشعب السوري على مدى أعوام طويلة من التباطؤ في إنجاز كل الإصلاحات التي تصب بمصلحته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالقوانين الإصلاحية السياسية تدرس منذ أعوام بتثاقل قاتل، فتشكل لها اللجان وتعقد لها المؤتمرات وتزور أدراج جميع المسؤولين ويصدح بها الإعلام السوري ليل نهار، لكنها تبقى رسماً على ورق وريشة في مهب الريح، كما أن القوانين الاقتصادية ليست بأفضل حال فهي تفصل تفصيلاً على مقاس المسيطرين على الاقتصاد السوري، وإما أن تكون طاردة للاستثمارات الخارجية ببيروقراطيتها التي لا تتناسب مع متطلبات الأسواق الاقتصادية العالمية، أو أنها جاذبة لأطماع اقتصادية تنعش أرصدة المستفيدين وترهق جيوب المواطنين، لكن يمكن تعديلها إذا اقتضت المصلحة المالية لهؤلاء المستفيدين وبوقت قياسي يخرق الفارق بين السرعة والتسرع.
هذا التباطؤ في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لاستقامة الحياة السورية بمختلف نواحيها، تحول بنظر الشعب المرهق إلى تجاهل متعمد لكل مطالبه المشروعة التي بدأ صوتها يعلو على استحياء منذ أعوام، فكان هذا التجاهل بمثابة الشاحن الذي شحن النفوس بالرغبة الحقيقية للانضمام لمصاف الدول المتقدمة التي لا تقل مقوماتها عن مقومات دولة كسورية عريقة الحضارة، وفيرة الخير، غنية بالثروات الطبيعية، متنوعة الثقافات والديانات والطوائف المتجانسة، وقد تحولت هذه الرغبة المشروعة إلى تمرد على الواقع البيروقراطي الذي يعيشه المجتمع السوري فانقلب الاستحياء إلى انتفاضة شعبية جريئة تطالب بالإسراع في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، لتصطدم مرة أخرى بفلسفة عدم التسرع فتتأجج غضباً وينتشر صداها في أرجاء البلاد كانتشار النار في الهشيم.
إن معالجة الوضع الراهن في مختلف أنحاء سورية يحتاج أولاً إلى وعي عقلاني كامل من أصحاب القرار السياسي بالتطورات النفسية والعقائدية والمعنوية التي طرأت على الشعب السوري بمختلف أطيافه وطوائفه، والتي تفرضها المرحلة التاريخية الجديدة ورياح التغيير القادمة على بلاد الشرق الأوسط عامة والوطن العربي خاصة، كما تحتاج إلى توفر النية الصادقة بإعطاء هذه التطورات حق قدرها والتعامل مع الشعب السوري الجديد بروح جديدة ونظرة موضوعية تتناسب مع هذه التطورات، والإسراع بتنفيذ مطالب الشعب الطبيعية والمشروعة والتي أصبحت شرطاً أساسياً للعيش بالمرحلة التاريخية الجديدة، بل من واجب النظام السوري إذا أراد أن يحافظ على كيانه بعيداً عن تبعات الزلزال الحاصل الآن، الإسراع في كف أيدي أجهزة الأمن عن المواطن السوري والتعامل معه من منطلق آدمي لأن الشعب السوري الآن يعمل بسرعة عالية الوتيرة لإثبات استحقاقه الحياة الحرة الكريمة، ولن يقبل بعد اليوم تهميشه وتجاهله والتباطؤ بتحقيق مطالبه.


مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com