منذ اندلاع الثورات الشعبية في البلاد العربية التي حصل بعضها على حريتها من أنظمتها الدكتاتورية، ولا يزال بعضها الآخر يجاهد ضد تعنت أنظمتها وعنادها وسوء تقديرها لحق شعوبها، وعلامات الاستفهام تكثر حول إمكانية وصول هذه الاحتجاجات الشعبية العربية إلى الأراضي السورية، ومدى قدرتها على اختراق النظام الأمني السوري الفائق العدد والعدة، والذي أثبتت ممارساته على مدى الأعوام الطويلة الماضية أنه من أكثر الأنظمة الأمنية قمعاً واستبداداً، وأن معتقلاته المنتشرة في كل بقعة من البقاع السورية تمتلئ بالآلاف من المعتقلين الذين لا تميز الأجهزة الأمنية بين توجهاتهم السياسية أو مستوى نشاطهم السياسي.
فلم يفرق الاعتقال الأمني التعسفي بين الناشطين السياسيين الذين يمارسون نشاطهم السياسي بشكل سلمي ومنظم على مدى أعوام طويلة والمعروفين بالشارع السوري بهذا النشاط، وبين المثقفين وأصحاب الرؤى والرأي والمتمرسين بعلوم السياسة والحقوق والحريات، وبين تلاميذ المدارس الذين لا يفقهون شيئاً في عالم السياسة وذنبهم الوحيد أنهم يمرون بمرحلة عمرية يسيطر عليها الحماس المفرط وغير الموجه، والرغبة الطبيعية في التمرد على المألوف ومحاولة تقليد هذا التمرد حباً في التميز، حيث وجد هؤلاء المراهقون في ثورتي تونس ومصر تمرداً على الواقع أحبوا محاكاته وتقليده فشخبطوا على الحيطان ببراءة الأطفال بعض العبارات التي استلهموها من تلك الثورات استرضاء للنزعات النفسية التي تتسم بها هذه المرحلة العمرية التي لم يستوعبها هذا النظام الأمني ولم يدرك أنه باعتقال هؤلاء التلاميذ ووضعهم تحت ضغط نفسي وجسدي إنما يختصر أعوام مراهقتهم ليحولهم إلى رجال صغار يختزنون في ذاكرتهم هذه التجربة المريرة فيكبتوا مشاعرهم ويبتلعوا غضبهم حتى تتاح لهم الفرصة للتعبيرعن حنقهم.
وكثرت التكهنات أيضاً حول موعد غضب السوريين الذين لا تختلف ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن بقية الشعوب العربية، بل ان البعض ذهب إلى الاعتقاد بأن السوريين لا يعرفون الغضب وان عرفوه فهم الكاتمون للغيظ الذين تعودوا على مر الأعوام السابقة على ابتلاع مرارتهم وأفكارهم وآرائهم وحتى أحاسيسهم، حتى وصل الأمر إلى استبعاد السوريين من قائمة الشعوب التي تعرف الغضب، وحتى السوريون أنفسهم ظنوا أن جيناتهم الوراثية الثورية قد غيرها الزمن الراكد لتصبح ساكنة أوفي أفضل الحالات تكون سالبة.
وقد حير الصمت الشعبي السوري تجاه الأحداث الثورية في الساحات العربية، جميع المراقبين للمشهد السياسي العربي، خاصة وأنه يعاني ظروفاً اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تقل سوءاً عن ظروف الدول العربية الثائرة إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق، كما أنه الشعب العربي الذي عرف منذ القدم بثوريته المتأججة، وعنفوانه الأبي، ودمه الثائر، ولعل مسلسل «باب الحارة» المشهور قد استطاع بكل بساطة أن يعبر عن حقيقة ومعدن هذا الشعب بكلمة بطل المسلسل أبو الشهاب العفوية (شكلين ما بحكي) والذي معناه أنه إما أن يصمت صبراَ وإما أن يتكلم خيراً، وأن تكلم فكلمته حازمة حاسمة لا تراجع فيها ولا تبديل.
ولم يدرك هؤلاء المراقبون، وحتى السوريون أنفسهم، بأن غضبهم آت لا محالة، ليس فقط لإسقاط نظام فاسد أفسد كل صالح، أو تغيير السياسات الأمنية كاتمة الأنفس، أو للتمرد على واقع ممل أصبح ماسخاً، أولإنقاذ وطن كان عملاقاً وتحول مسخاً، ولا حتى لتذوق طعم الحرية المنسي، أو العيش براحاً في منابر الديموقراطية، ولا ثأراً لكرامة داستها ألف مرة بساطير المخبرين، بل لأن الوطن العربي بكامله يمر بمرحلة تاريخية مهمة تَعْبُر بالشعوب العربية من عصرها الحالي إلى عصر آخر لم تعرف ماهيته بعد، لكنه من المؤكد أن الانتقال إليه سيكون بإرادة الشعوب واختيارها، كما أنها مرحلة تاريخية حتمية تفرض على الوضع الراهن متطلباتها وشروطها وسماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية الخاصة بها، فما يحصل في جميع البلاد العربية هو نتيجة طبيعية لنشأة وتطور وطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة فيها.
فهو غضبٌ وطوفان ثوري لن توقفه سدود الأجهزة الأمنية، ولن تعيقه حملات الاعتقالات التعسفية، لأنه تيار تاريخي هادر يحمل معه رياحاً عصرية نشطة قد تكون غير مواتية للبعض لكنها ستقوم بتغيير معالم السياسة في المنطقة برمتها، وبالتالي فليس مجدياً محاولة الوقوف في وجه هذه الرياح لأن جميع الأمثال والتجارب والوقائع تقول انه إذا هبت الريح العاتية فإنها لا تقتلع سوى الأشجار العالية.
ولعله من الذكاء السياسي أن يسارع النظام بإجراء الإصلاحات السياسية الحقيقية والسريعة الكفيلة بإعادة التوازن إلى الحياة العامة، وإرضاء طموح الشعب والارتقاء بمستوى معيشته، والقضاء على جميع أشكال الفساد، وكفالة حرية الرأي والتعددية وتوسيع نطاق المشاركة السياسية لتشمل جميع الأطياف السياسية.
بل انه من الذكاء السياسي الاستفادة من مجريات الأحداث في سيناريوات الثورات العربية الأخرى التي أثبتت فشل الأجهزة الأمنية بأساليبها التقليدية القمعية بالتصدي للحركات الشعبية، فهي أساليب عقيمة لن تؤتي ثمارها بعد أن انكسر حاجز الخوف في نفوس المتظاهرين وتساوى عندهم العيش بحرية أو الموت بكرامة، كما أنها لا تزيد الحكم إلا استبداداً ولا تزيد الشعوب إلا عناداً.
إن الشعب السوري صبور حليم لكن الحكمة تقول، احذر الحليم إذا غضب... فهل يهدأ السوريون بعد غضبهم؟
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com
فلم يفرق الاعتقال الأمني التعسفي بين الناشطين السياسيين الذين يمارسون نشاطهم السياسي بشكل سلمي ومنظم على مدى أعوام طويلة والمعروفين بالشارع السوري بهذا النشاط، وبين المثقفين وأصحاب الرؤى والرأي والمتمرسين بعلوم السياسة والحقوق والحريات، وبين تلاميذ المدارس الذين لا يفقهون شيئاً في عالم السياسة وذنبهم الوحيد أنهم يمرون بمرحلة عمرية يسيطر عليها الحماس المفرط وغير الموجه، والرغبة الطبيعية في التمرد على المألوف ومحاولة تقليد هذا التمرد حباً في التميز، حيث وجد هؤلاء المراهقون في ثورتي تونس ومصر تمرداً على الواقع أحبوا محاكاته وتقليده فشخبطوا على الحيطان ببراءة الأطفال بعض العبارات التي استلهموها من تلك الثورات استرضاء للنزعات النفسية التي تتسم بها هذه المرحلة العمرية التي لم يستوعبها هذا النظام الأمني ولم يدرك أنه باعتقال هؤلاء التلاميذ ووضعهم تحت ضغط نفسي وجسدي إنما يختصر أعوام مراهقتهم ليحولهم إلى رجال صغار يختزنون في ذاكرتهم هذه التجربة المريرة فيكبتوا مشاعرهم ويبتلعوا غضبهم حتى تتاح لهم الفرصة للتعبيرعن حنقهم.
وكثرت التكهنات أيضاً حول موعد غضب السوريين الذين لا تختلف ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن بقية الشعوب العربية، بل ان البعض ذهب إلى الاعتقاد بأن السوريين لا يعرفون الغضب وان عرفوه فهم الكاتمون للغيظ الذين تعودوا على مر الأعوام السابقة على ابتلاع مرارتهم وأفكارهم وآرائهم وحتى أحاسيسهم، حتى وصل الأمر إلى استبعاد السوريين من قائمة الشعوب التي تعرف الغضب، وحتى السوريون أنفسهم ظنوا أن جيناتهم الوراثية الثورية قد غيرها الزمن الراكد لتصبح ساكنة أوفي أفضل الحالات تكون سالبة.
وقد حير الصمت الشعبي السوري تجاه الأحداث الثورية في الساحات العربية، جميع المراقبين للمشهد السياسي العربي، خاصة وأنه يعاني ظروفاً اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تقل سوءاً عن ظروف الدول العربية الثائرة إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق، كما أنه الشعب العربي الذي عرف منذ القدم بثوريته المتأججة، وعنفوانه الأبي، ودمه الثائر، ولعل مسلسل «باب الحارة» المشهور قد استطاع بكل بساطة أن يعبر عن حقيقة ومعدن هذا الشعب بكلمة بطل المسلسل أبو الشهاب العفوية (شكلين ما بحكي) والذي معناه أنه إما أن يصمت صبراَ وإما أن يتكلم خيراً، وأن تكلم فكلمته حازمة حاسمة لا تراجع فيها ولا تبديل.
ولم يدرك هؤلاء المراقبون، وحتى السوريون أنفسهم، بأن غضبهم آت لا محالة، ليس فقط لإسقاط نظام فاسد أفسد كل صالح، أو تغيير السياسات الأمنية كاتمة الأنفس، أو للتمرد على واقع ممل أصبح ماسخاً، أولإنقاذ وطن كان عملاقاً وتحول مسخاً، ولا حتى لتذوق طعم الحرية المنسي، أو العيش براحاً في منابر الديموقراطية، ولا ثأراً لكرامة داستها ألف مرة بساطير المخبرين، بل لأن الوطن العربي بكامله يمر بمرحلة تاريخية مهمة تَعْبُر بالشعوب العربية من عصرها الحالي إلى عصر آخر لم تعرف ماهيته بعد، لكنه من المؤكد أن الانتقال إليه سيكون بإرادة الشعوب واختيارها، كما أنها مرحلة تاريخية حتمية تفرض على الوضع الراهن متطلباتها وشروطها وسماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية الخاصة بها، فما يحصل في جميع البلاد العربية هو نتيجة طبيعية لنشأة وتطور وطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة فيها.
فهو غضبٌ وطوفان ثوري لن توقفه سدود الأجهزة الأمنية، ولن تعيقه حملات الاعتقالات التعسفية، لأنه تيار تاريخي هادر يحمل معه رياحاً عصرية نشطة قد تكون غير مواتية للبعض لكنها ستقوم بتغيير معالم السياسة في المنطقة برمتها، وبالتالي فليس مجدياً محاولة الوقوف في وجه هذه الرياح لأن جميع الأمثال والتجارب والوقائع تقول انه إذا هبت الريح العاتية فإنها لا تقتلع سوى الأشجار العالية.
ولعله من الذكاء السياسي أن يسارع النظام بإجراء الإصلاحات السياسية الحقيقية والسريعة الكفيلة بإعادة التوازن إلى الحياة العامة، وإرضاء طموح الشعب والارتقاء بمستوى معيشته، والقضاء على جميع أشكال الفساد، وكفالة حرية الرأي والتعددية وتوسيع نطاق المشاركة السياسية لتشمل جميع الأطياف السياسية.
بل انه من الذكاء السياسي الاستفادة من مجريات الأحداث في سيناريوات الثورات العربية الأخرى التي أثبتت فشل الأجهزة الأمنية بأساليبها التقليدية القمعية بالتصدي للحركات الشعبية، فهي أساليب عقيمة لن تؤتي ثمارها بعد أن انكسر حاجز الخوف في نفوس المتظاهرين وتساوى عندهم العيش بحرية أو الموت بكرامة، كما أنها لا تزيد الحكم إلا استبداداً ولا تزيد الشعوب إلا عناداً.
إن الشعب السوري صبور حليم لكن الحكمة تقول، احذر الحليم إذا غضب... فهل يهدأ السوريون بعد غضبهم؟
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com