حققت ثورة الشباب المصري أهدافها، وبغمضة عين قلبت جميع الموازين السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أرض المحروسة، وتحررت مصر من حكم فردي ونظام فاسد أكل أخضر البلاد ويابسها، وجلس على كرسيه يجتر ما ابتلعه على مدى أعوام طويلة، وحققت بأيام قليلة ما كان يصعب تحقيقه خلال الأعوام السابقة من عمر هذا النظام.
وأذابت حرارة الثورة الثلوج فبانت خفايا المروج، وفي ليلة وضحاها تعرى التاريخ وطافت على الوجه فضائح النظام وزبانيته وانتشرت رائحة الفساد التي أزكمت الأنوف وأغثت النفوس، ومع تصاعد الأحداث انكشف المستور الذي كان مستوراً صادماً ومحبطاً وما كان له أبداً أن يكون مستورأ، وبإمساك أول خيط للفساد توالت الخيوط فإذا بها تشكل شبكة عنكبوتية التفت على مقدرات الشعب وثرواته التي غرز فيها العديد من العناكب الفاسدة إبرهم ليمتصوا خيراتها ويكنزوها في حساباتهم المتناثرة في مختلف البنوك المحلية والعالمية جيدة السمعة وسيئتها.
ولعل ما ظهر من بواطن الأمور استفز الشعب المصري بكل فئاته، وأحس بمدى تغييبه عن الساحة السياسية، وتهميشه في الخطط الاقتصادية، وإغراقه في هموم لقمة العيش، فهب الكثير منهم يطالب بحقه المسلوب، وإعادة ماله المغصوب، ورغم مشروعية المطلوب، ووجوب محاكمة كل من مد يده للمال العام ليضعه في الجيوب، ورغم الاتفاق العام حول أهمية إعادة هذه الثروات المنهوبة لبناء مصر الحديثة، إلا أن الاختلاف في طريقة المطالبة، والمبالغة في ردود الأفعال الانفعالية وغير المدروسة أدى إلى حالة من الفوضى المرتدة التي يصعب التكهن بحدودها إذا لم يتم السيطرة عليها.
فمهاجمة مقار أمن الدولة في مدن ومحافظات مصرية عدة بعد أن قام ضباطها بإتلاف أهم ملفاتها السرية، ونثر أوراقها في مهب الريح ليلتقطها من يعرف قيمتها أو لا يعرف، لم تكن خطوة موفقة من بعض الشباب المصري الذي أعماه الغضب عن أهمية كل قصاصة ورق في هذه المقار التي تحتوي على خزائن أسرار الدولة وعلى كواليس التاريخ المصري، والتي من المفترض أن نحافظ عليها ليس للتعتيم أو التستر بل لتحليلها ودراستها لمعرفة كيف كانت تدار دفة السياسة في مصر، ومن الذي يديرها فعلياً وإلى أين كان يوجهها، وهو ما يفيد لاحقاً في تعقب الأخطاء السابقة ومحاصرتها والقضاء على توابعها قبل أن يكون لها موضع قدم في طريق المستقبل السياسي المصري.
والخوف الأكبر من أن تطغى تفاصيل الحياة الخاصة لبعض فئات الشعب المصري على الخطوط العريضة والأهداف الأساسية التي قامت لأجلها ثورة يناير، فتسرق مكتسباتها التي لم تتبلور أبعادها بعد، وتسرق فرحتها التي لم تكتمل حتى الآن، فها هي مشكلة طائفية تظهر على الساحة المصرية بين المسلمين والمسيحين الذين لم ننس بعد صلاتهم معاً في جمعة المسلمين وأحد الأقباط، بسبب قصة حب عادية تحصل كل يوم وفي كل مكان في العالم بين شابين من دينين مختلفين، لكن أن تكون أرض مصر مسرحاً لهذه القصة وفي هذا التوقيت من عمر الثورة، يعني أن تتفاعل الأمور بأكثر مما تحتمل، وتتسارع الأحداث بغير منطق، لتتحول من قصة حب وود إلى قصة بطش وثأر، وأن يذهب ضحيتها عدد من الشباب المصريين الذين كانت مصر بأمس الحاجة إليهم وهي تتهيأ لاستقبال نهار جديد.
كما أن المظاهرات الفئوية والاعتصامات المؤسساتية والاحتجاجات العشوائية هنا وهناك، أضافت عبئاً ثقيلاً على كاهل الثورة التي كان من المفترض أن يتركز تحركها على المقومات الرئيسة التي ترتكز عليها الدولة في قيامها كالدستور وتشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس الجديد وسن القوانين والتشريعات المناسبة للمرحلة المقبلة، إلا أن الانتباه قد شُدَ قسراُ إلى مطالبٍ ثانويةٍ كانت ستتحقق آلياً عند تحقيق المطالب الأساسية، وتشتت جهود المجلس الأعلى للقوات المسلحة المنوط به ترجمة مطالب الثورة إلى نص تُوضع فيه النقاط على الحروف ليُقرأً ببلاغة، وأصبح شغله الشاغل محاولة سد جميع الثغرات في الوقت نفسه، وأن يحافظ على مسافة واحدة بينه وبين جميع الأطراف مما جعله يفقد توازنه في بعض المواضع فيتراخى في بعضها ويتشدد في بعضها الآخر.
كل ما يحدث الآن في مصر من أمثال هذه المواقف ربما تكون رد فعل طبيعي عند قيام الثورات، لكن استمراء هذه الأفعال والمبالغة فيها، تحول كل نقطة نظام إلى فوضى عارمة يهدم إزميلها ما يحاول المعول بناءه، وأن سرقة ثورة الشباب المصري من قبل المستفيدين من هذه الفوضى أصبح قاب قوسين أو أدنى إن لم يعد الشعب إلى وعيه الذي كان وحده كفيلاُ بنجاح الثورة، وربما على شباب الثورة الآن العمل أكثر من أي وقت آخر على ردم الحفر التي يحاول البعض حفرها في طريق الثورة لإسقاطها، وأن تدشين حملات توعية سياسية واجتماعية وسلوكية للشارع المصري قد أصبح ضرورة ملحة الآن للعبور إلى الغد المرتقب، فخلق الثورة أسهل بكثير من حمايتها من الاغتيال.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com
وأذابت حرارة الثورة الثلوج فبانت خفايا المروج، وفي ليلة وضحاها تعرى التاريخ وطافت على الوجه فضائح النظام وزبانيته وانتشرت رائحة الفساد التي أزكمت الأنوف وأغثت النفوس، ومع تصاعد الأحداث انكشف المستور الذي كان مستوراً صادماً ومحبطاً وما كان له أبداً أن يكون مستورأ، وبإمساك أول خيط للفساد توالت الخيوط فإذا بها تشكل شبكة عنكبوتية التفت على مقدرات الشعب وثرواته التي غرز فيها العديد من العناكب الفاسدة إبرهم ليمتصوا خيراتها ويكنزوها في حساباتهم المتناثرة في مختلف البنوك المحلية والعالمية جيدة السمعة وسيئتها.
ولعل ما ظهر من بواطن الأمور استفز الشعب المصري بكل فئاته، وأحس بمدى تغييبه عن الساحة السياسية، وتهميشه في الخطط الاقتصادية، وإغراقه في هموم لقمة العيش، فهب الكثير منهم يطالب بحقه المسلوب، وإعادة ماله المغصوب، ورغم مشروعية المطلوب، ووجوب محاكمة كل من مد يده للمال العام ليضعه في الجيوب، ورغم الاتفاق العام حول أهمية إعادة هذه الثروات المنهوبة لبناء مصر الحديثة، إلا أن الاختلاف في طريقة المطالبة، والمبالغة في ردود الأفعال الانفعالية وغير المدروسة أدى إلى حالة من الفوضى المرتدة التي يصعب التكهن بحدودها إذا لم يتم السيطرة عليها.
فمهاجمة مقار أمن الدولة في مدن ومحافظات مصرية عدة بعد أن قام ضباطها بإتلاف أهم ملفاتها السرية، ونثر أوراقها في مهب الريح ليلتقطها من يعرف قيمتها أو لا يعرف، لم تكن خطوة موفقة من بعض الشباب المصري الذي أعماه الغضب عن أهمية كل قصاصة ورق في هذه المقار التي تحتوي على خزائن أسرار الدولة وعلى كواليس التاريخ المصري، والتي من المفترض أن نحافظ عليها ليس للتعتيم أو التستر بل لتحليلها ودراستها لمعرفة كيف كانت تدار دفة السياسة في مصر، ومن الذي يديرها فعلياً وإلى أين كان يوجهها، وهو ما يفيد لاحقاً في تعقب الأخطاء السابقة ومحاصرتها والقضاء على توابعها قبل أن يكون لها موضع قدم في طريق المستقبل السياسي المصري.
والخوف الأكبر من أن تطغى تفاصيل الحياة الخاصة لبعض فئات الشعب المصري على الخطوط العريضة والأهداف الأساسية التي قامت لأجلها ثورة يناير، فتسرق مكتسباتها التي لم تتبلور أبعادها بعد، وتسرق فرحتها التي لم تكتمل حتى الآن، فها هي مشكلة طائفية تظهر على الساحة المصرية بين المسلمين والمسيحين الذين لم ننس بعد صلاتهم معاً في جمعة المسلمين وأحد الأقباط، بسبب قصة حب عادية تحصل كل يوم وفي كل مكان في العالم بين شابين من دينين مختلفين، لكن أن تكون أرض مصر مسرحاً لهذه القصة وفي هذا التوقيت من عمر الثورة، يعني أن تتفاعل الأمور بأكثر مما تحتمل، وتتسارع الأحداث بغير منطق، لتتحول من قصة حب وود إلى قصة بطش وثأر، وأن يذهب ضحيتها عدد من الشباب المصريين الذين كانت مصر بأمس الحاجة إليهم وهي تتهيأ لاستقبال نهار جديد.
كما أن المظاهرات الفئوية والاعتصامات المؤسساتية والاحتجاجات العشوائية هنا وهناك، أضافت عبئاً ثقيلاً على كاهل الثورة التي كان من المفترض أن يتركز تحركها على المقومات الرئيسة التي ترتكز عليها الدولة في قيامها كالدستور وتشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس الجديد وسن القوانين والتشريعات المناسبة للمرحلة المقبلة، إلا أن الانتباه قد شُدَ قسراُ إلى مطالبٍ ثانويةٍ كانت ستتحقق آلياً عند تحقيق المطالب الأساسية، وتشتت جهود المجلس الأعلى للقوات المسلحة المنوط به ترجمة مطالب الثورة إلى نص تُوضع فيه النقاط على الحروف ليُقرأً ببلاغة، وأصبح شغله الشاغل محاولة سد جميع الثغرات في الوقت نفسه، وأن يحافظ على مسافة واحدة بينه وبين جميع الأطراف مما جعله يفقد توازنه في بعض المواضع فيتراخى في بعضها ويتشدد في بعضها الآخر.
كل ما يحدث الآن في مصر من أمثال هذه المواقف ربما تكون رد فعل طبيعي عند قيام الثورات، لكن استمراء هذه الأفعال والمبالغة فيها، تحول كل نقطة نظام إلى فوضى عارمة يهدم إزميلها ما يحاول المعول بناءه، وأن سرقة ثورة الشباب المصري من قبل المستفيدين من هذه الفوضى أصبح قاب قوسين أو أدنى إن لم يعد الشعب إلى وعيه الذي كان وحده كفيلاُ بنجاح الثورة، وربما على شباب الثورة الآن العمل أكثر من أي وقت آخر على ردم الحفر التي يحاول البعض حفرها في طريق الثورة لإسقاطها، وأن تدشين حملات توعية سياسية واجتماعية وسلوكية للشارع المصري قد أصبح ضرورة ملحة الآن للعبور إلى الغد المرتقب، فخلق الثورة أسهل بكثير من حمايتها من الاغتيال.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com