لا يختلف اثنان أن النقدَ الأدبي فن من الفنون المهمة التي ترتبط بإبداعاتِ الكُتّابِ ونتاجِ أقلامِهم، وهو أشبه بلحظاتٍ من التماس بين الفكر والروح تستندُ إلى معايير واضحة تَتَجلّى عنها خُلاصاتٌ يلْمَسُ بها الناقدُ موضعَ الضعفِ في النص لِيَصِفَ للكاتبِ العلاجَ ويَدُلَّهُ على الاتجاه السليم لقلمه، ومهما تشعَّبتْ أعمال الناقد وأنشطتُهُ فإنه بِجُملةِ أعمالِهِ يُضيفُ ملاحظات وإرشادات تُثري المكتبةَ العربية وتُرشدُ الكُتّابَ إلى طرق الإبداع المختلفة، فماذا لو حاد الناقدُ بِمُهِمَّتِهِ إلى طريق تميلُ به عن جادة النقد؟ وماذا يعني أنْ يصلََ الناقدُ في ميوله إلى حالة ممقوتة يدخُلُ بها بابَ التَّشْكيك في مِهَنِيَّةِ الكاتبِ ويعتمدُ بها على حَدْسه أو مَحْضِ افتراضِهِ! ولعل هذا الميول في أداء الناقد ينعكسُ سلباً على الوسط الأدبي خاصة والنتاجِ الثقافي عامة؛ فبدلاً من أن يأخذَ الناقدُ بزمام الأداء الإبداعي للكاتب نحو إشراقاتِ النفسِ فإنَّهُ، للأسف، في مثل هذه الحال ينشُرُ بقصدٍ أو دونِ قصدٍ نوعاً من الاضطرابِ في ساحات الأدب.
ولو تتبعْنا ما يبرزُ من نتاجٍ في المجال المرئيِّ مثل السينما والتلفزيون وفي المجال المسموع مثل الإذاعة سنلاحظُ أنَّ الأدبَ العربي رافدٌ أساسٌ في صِياغَتِهِ، وللناقد في هذا الجانب مهمة حساسة تُشبه مهمة الجرّاح الذي يُمْسِكُ المِشْرَطَ بيدٍ والدواء بيدٍ أخرى، وليستْ مُهمة الناقد أن يَفتح الْجَرحَ ويترُكَه ليبحثَ عن آخَر! إن أداءَنا المتْقَن في هذه الحرفة يتطلَّبُ منا مِهَنِيَّةً عاليةً في ممارساتِنا اليومية تجاهَ كَمٍّ كبير من الأعمال الأدبية وهذه الْمِهَنِيَّةُ التي نتَطَلَّعُ لوجودِها بشكل أفضل يلْزَمُنا أنْ نبتعد فيها عن الارتجال والابتذال في أداء الناقد، مع الحذر من التسرع ِ في الحُكمِ على النص دون الاستناد إلى معاييرَ فنية تضمن جودة الأداء وسلامة النتيجة، ويدفعُ كلُّ ذلك بِجُملةِ الأداء الأدبي والثقافي إلى مزيد من الموضوعية في تحليل النص وأكثَرَ حيادِيَّةً في إبداء الرأي، بعيداً كُلَّ البعد عن النقد من أجل النقد!
النقد فن من فنون الابتكار في عالم الأفكار، وهو أداة في يد صاحبه يمكنه من خلال مهارته أن يُنشئ أرضيات جديدة للكتابة، ويفتح للعقل مدارك لا نهاية لها، كما هو سلاح لا يجدر أن يصل إليه إلا مَنْ يجيد استخدامه؛ فماذا لو وصل هذا السلاح إلى مَنْ لا يجيد التعامل معه؟! نعم حين يلبس المحرر أو الصحافي أو مراسل الصفحة الثقافية لباسَ الناقد الأدبي ربما يكون اللباس واسعاً عليه فضفاضاً حول جسمه فيتعثر به ويكون حائلاً بينه وبين أداء مهامه؛ وربما ينقل مراسل الصفحة الثقافية حدثاً ثقافياً أو فعاليةً أدبية مستخفاً بوظيفته في غفلة منه عن دوره المتوقَّع منه، وخلافاً للدقة في النقل فخوض فيما لا يجيد الخوضَ فيه؛ قيامُ بعض مراسلي الصفحات الثقافية بنقل ما يدور في الساحات الثقافية على مزاجهم الخاص وأخذ الأخبار الثقافية إلى مكاتبهم وإجراء عملياتٍ جراحية لاستئصال بعضها وإبقاء أُخرى أمرٌ لا تقبله مِهَنيَّةُ العمل في البيئة الثقافية وترفضه الأمانة الصحافية والتي يُتَوقَّعُ من العامل فيها أن يكون مثلاً أعلى لغيره في النبل والنزاهة في نقل الخبر بصورة أدبية محايدة! كلُّ ذلك يجري تحت مسمى الاختلاف في وِجهات النظر أو من باب النقد الأدبي، فليس كل مراسل صفحة ثقافية هو ناقد أدبي! وليس كل أديب أو شاعر أو قاص هو ناقد! كثير من أهل الهمَّة في عالم الأدب في وطننا العربي يتقاسمون الأملَ بأنْ تُلقيَ الثقافةُ أعباءَها وتلفظَ المتسلقين فيها قبل أن تلفظ أنفاسها بما فيها من دخلاء، نحن في أمسِّ الحاجة لثورة حقيقية؛ ثقافية لا سياسية يتحرر فيها النقد من عوالِقِهِ نحو نقد يقوم على معايير يمكن ضبطها بعيداً عن العفوية من جهة وبعيداً عن آلية مُتَكَلَّفةٍ ومحتكرة تستند إلى عناوين نقدية غير واضحة.


علي سويدان
كاتب وأكاديمي سوري
Swaidan9@hotmail.com