| القاهرة - من حنان عبد الهادي |
تزامنا مع ثورة شباب 25 يناير الأخيرة في مصر... نتذكر رمزا من رموز الثورات.. وهو عبدالله النديم الكاتب الثائر والأديب المبدع خطيب الثورة العرابية أستاذ الأدباتية وأدباتي الأساتذة... وبرز «نديم» كأحد أهم قادة الثورة العرابية منذ تصاعد الأحداث في صيف 1881وحتى هزيمة العرابيين في سبتمبر 1882 «عند الشدائد تظهر معادن الناس» وعبدالله النديم امتحن بالشدة وراء الشدة وظل ثابتا على المبدأ مخلصا لأفكاره وقيمه... إنه من أبناء الشعب المصري تجسدت فيه جميع القيم الإيجابية في هذا البلد.
وعلى الرغم من أنه كان عند اشتعال الثورة في السادسة والثلاثين من عمره إلا أنه احتل مكانة مرموقة بين قادة الثورة لأنه كان قد اكتسب خبرة كبيرة وحقق شهرة ذائعة من خلال مشاركته في العمل العام.
ولد عبدالله النديم في الإسكندرية في 10 ديسمبر من العام 1845، في أسرة متوسطة الحال وقد لمح أبوه علامات نبوغه فألحقه بـمسجد إبراهيم بالإسكندرية ليتلقى العلوم الدينية لكن الفتى اهتم بفنون الأدب ونبغ فيها فبرع في الكتابة والشعر والزجل وتميز نديم في المناظرات المرتجلة واشتهر بروحه الساخرة.
ولم يحترف عبدالله النديم الأدب في بداية حياته العملية، لكنه اتجه إلى تعلم صنعة يتعيّش بها، فدرس فن التلغراف وكان قد دخل مصر حديثا واشتغل النديم في مكتب بنها للتلغراف ثم انتقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن الوالدة باشا أم الخديوي اسماعيل.
وكان انتقاله إلى القاهرة بداية لاختلاطه بأعلام الأدب والفن والثقافة في ذلك العصر قسم - التاريخ - أخذت شهرته تذيع بينهم إلا أن إقامته لم تطل بالقاهرة فقد اصطدم بـ خليل أغا القوي صاحب النفوذ فأمر بفصله.
رحل عبدالله النديم إلى الدقهلية وأقام في المنصورة «125 كيلو مترا شمال القاهرة» حيث افتتح متجرا هناك وخلال إقامته التي لم تستمر طويلا كان مجلسه مقصدا لرجال الأدب وطلاب العلم وبعد تجواله في عدة مدن وقرى بالدلتا عاد إلى الإسكندرية ليستقر بها، وكان ذلك في العام 1876، أي في فترة صعود الحركة الوطنية، وهناك اتصل بعناصر من جماعة - مصر الفتاة - التي كانت تطرح مشروعا للإصلاح الوطني والدستوري.
وبدأ عبدالله النديم الكتابة بانتظام في عدد من الصحف التي أصدرها أديب إسحاق وسليم نقاش... وفي سنة 1879 شارك في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية وأصبح مديرا لمدرستها كما تولى تدريس الإنشاء وعلوم الأدب والخطابة بها وأنشأ فريقا للمسرح بالمدرسة.
وقام أعضاء هذا الفريق من تلاميذ المدرسة بالاشتراك مع النديم بتمثيل بعض أعماله الأدبية الأولى التي ألفها ومنها الوطن و طالع التوفيق والعرب... ونظرا للنجاح الذي حققته مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فقد وضعت تحت رعاية الأمير عباس حلمي الذي أصبح الخديوي فيما بعد. ولقد ظهر عبد الله النديم على الساحة الأدبية والفكرية في مصر في وقت كانت البلاد تموج فيه بتيارات الإصلاح والتجديد.
وفي صيف العام 1881 أصدر صحيفة أسبوعية أسماها «التنكيت والتبكيت» انتهجت خطا وطنيا واضحا وأسلوبا أدبيا ساخرا وكان مهموما في صحيفته بقضية وحدة الوطن واستنهاض همة أبنائه للارتفاع بشأن البلاد وقد تواكب صدور الصحيفة مع أحداث الثورة العرابية فكان من الطبيعي أن ينضم عبدالله النديم إلى صفوف الثورة العرابية ويساند أهدافها الوطنية وقد وجد العرابيون فيه سندا لهم بكتاباته الوطنية الحماسية وانتقل النديم إلى القاهرة ليكون في قلب الأحداث والتقى بأحمد عرابي زعيم الثورة حيث طلب منه أن تكون صحيفته لسان حال الثورة بشرط أن يغير اسمها إلى اسم أكثر وقارا يلائم عقلية عرابي العسكرية المحافظة وأصدر عبدالله النديم صحيفة «اللطائف» من القاهرة لتحل محل «التنكيب والتبكيت»، ولتصبح لسان حال الثورة العرابية وخلال أسابيع قليلة أضحت الطائف أهم الصحف المصرية على الإطلاق وللحكاية بقية.
وتم نفيه إلى الآستانة العام 1893، وتم منعه من الكتابة ولكنه اصطدم بأحد أفراد حاشية السلطان عبد الحميد ويسمى «أبوالهدى الصيادي» مستشار السلطان وكان يسميه «أبوالضلال» وكتب فيه كتاب «المسامير» أظهر الشيطان شخصية مهزومة أمام أبو الضلال في مقدمته و9 مسامير فكان كتابه أحد نفائس فن الهجاء في التاريخ العربي.
وفي إقامته الإجبارية بتركيا تعطلت مواهبه وتوقفت، وسكت فجأة عما كان يطالب به الأدباتي الزجال الغريد والمعارض، ووجد في الأفغاني عزاء له وسلوى وفي الأمسيات كان الأستاذ والتلميذ يلتقيان تحت أشجار الحدائق التي خصصها السلطان عبدالحميد لهما، يتذكران أيام النضال وأحداث الثورة العرابية، ويطوفان على سيرة الرفاق في سيلان الذين قدم عهد المنفي بهم ويستعرضان دوحة الشباب وما كان فيها من وارف الأغصان، وعن طريق الأستاذ تعرف على وزراء وأعيان... لكن النديم لم ينس مصر، وعندما زار الخديوي عباس الثاني الآستانة طلب منه العودة إليها فأجيب طلبه سنة 1895، وفعلا قفز إلى الباخرة يغمر قلبه الحنين إلى وطنه، ولكن جواسيس عبدالحميد أبرقوا على الفور إليه، فأوقفت الباخرة وانتزع النديم منها وسيق إلى المنفى الذهبي من جديد.
وبعد أشهر... مرض النديم وتراجعت صحته، ونهش السل الرئوي صدره وأحس بدنو أجله، فأخبر أمه وأخاه في مصر واستقدمهما، ولكن الموت جذبه إليه قبل أن يصلا، فتوفي وحيدا غريبا عام 1896 دون أن يترك زوجة أو ولدا أو حطاما، وكل ما تركه سيرة عطرة وحياة حافلة.