اعداد د. أحمد سامح
 لماذا يحظى مرض السكري بالعديد من الكتابات؟ نحن نختار اجابة بسيطة حينما نقول: نكتب كثيرا في مرض السكري لترشيد الناس وتوعيتهم بأعراض المرض وكيفية الوقاية منه وعلاجه - وهي اجابة صحيحة ولكنها قاصرة!
إذ انه في المقابل يمكن كذلك ان يقال ان كثرة الكتابة في اي موضوع ليست بالضرورة دليلا فقط على اهميته وانما ايضا على كثرة مشاكله التي لم تحسم امره ويكثر فيها الجدل وابداء الرأي.
ومرض السكري من هذه الامراض المهمة التي مازالت تثير الكثير من المشاكل من دون حلول ناجعة رغم النجاح الكبير في السيطرة الجيدة على سكر الدم نحو المستوى الطبيعي.
وبالرغم من ان مرض السكر قد عرف من قديم الزمان وعاش مع الانسان آلاف السنين كما هو ثابت من المخطوطات القديمة الا ان انتشاره قد طفر طفرة كبيرة في العصر الحديث حتى انه تصدر مع مرض تصلب الشرايين قائمة الامراض الوبيلة التي تهدد صحة وحياة الانسان خاصة في المجتمعات الاكثر تحضرا كما اصبح لا يستثنى من وجوده مجتمع او اقليم جغرافي بامتداد الكرة الارضية.
فما الذي حدث وما الذي تغير؟ الاجابة في الدراسات المقبلة مضمونها ان الذي حدث والذي تغير من حضارة العصر الكثير مما كان له اثر بالغ على اجسامنا.
ونبدأ في حكاية وقصة مرض السكري منذ اقدم العصور ومنذ اقدم وصف له وصل الينا من عهد قدماء المصريين إذ تحوي بردية «ايبرس» الطبية الشهيرة وهي اقدم دائرة معارف طبية معروفة اكثر من 800 وصفة لشتى الامراض الداخلية والعناية بالصحة من حوالي 3500 سنة.
وجاء في الوصفتين الخامسة والوصفة المئة وسبعة وتسعون وصف لحالة مريض السكري وكذلك علاج المرض في هذا الزمن السحيق.
ثم بعد ذلك نحكي قصة اكتشاف جزر لانجرهانز في البنكرياس التي تعزز هرمون الانسولين وذلك الهرمون الذي يجب أن نطلق عليه هرمون الحياة.
عرف مرض السكري منذ اقدم العصور واقدم وصف له وصل الينا من عهد قدماء المصريين إذ تحوي بردية ايبرس الطبية الشهيرة - وهي اقدم دائرة معارف طبية معروفة اكثر من 800 وصفة لشتى الامراض الداخلية والعناية بالصحة منذ حوالي 3500 سنة وجاء في الوصفتين رقم 5 ورقم 197 ما يلي:

اكتشاف مرض السكري
«اذا فحصت مريضا بمنطقة اعلى البطن ووجدت جسمه ضامرا كالمسحور واذا فحصته ولم تجد مرضا في بطنه بل وجدت حنوت «ربما المقصود بكلمة حنوت المصرية القديمة افرازات البول» جسمه مثل العسل فقل انه مصاب بتحلل داخلي وعلاجه هيما نيت «خام الحديد» وبذر الكتان والحنظل - يتعاطاه كل صباح لمدة اربعة ايام حتى يروي ظمأه ويتخلص من التحلل الداخلي».
«لاحظ الاشارة الى ضمور الجسم والعطش والعسل وهي الاعراض الرئيسية لمرضى السكري.
والعسل اشارة الى مرض السكري في جميع المخطوطات الطبية القديمة التي جاءت بعد حضارة مصر القديمة بل ان الاسم اللاتيني الحالي يحمل ايضا وصف البول بالعسل».

ديابيتس ميلليتس
diabetes mellitus
ومع ازدهار الاسكندnية في الحضارية الاغريقية الرومانية في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد اعطى الطبيب المعروف «اريتايوس» الاسم الاغريقي لمرض السكري الذي مازال يستعمل حتى اليوم وهو «diabetes mellitus».
الكلمة الاولى «ديابيتس» تعني تدفق (المقصود البول) والكلمة الثانية «ميلليتس» تعني العسل ويصبح المعنى المقصود تدفق او جريان البول من الجسم كالعسل.
وصف اعراض المرض عند الفراعنة
اذا كانت الحضارة المصرية اول الحضارات الانسانية التي تركت لنا وراءها اثرا نهتدي به فإن بردية ايبرس التي كشفها العالم «ايبرس» العام 1872 في الاقصر وقدرو عمرها بنحو 1500 سنة قبل الميلاد «اي 3510 سنوات» تصف لنا مرضا يعاني فيه المريض من عطش شديد وبوال متكرر ربما كان على الاغلب هو مرض السكري وكذلك ذهبت بردية «هيرست» العام 1350 قبل الميلاد وبردية «ابردين».

وصف اعراض المرض عند الهنود
اهل الهند - على ما يبدو - كان لهم بالمرض خبرة وربما كان مرض السكري عندهم اكثر شيوعا لهذا كانوا يسمون مريض السكري بالرجل الذي يبول عسلا لأن الذباب كان يتراكم عليه ولعل احدهم قد حاول ان يتذوقه فوجدوه حلو المذاق.
وفي ذلك الزمان كان عندهم طبيب مشهور يدعونه «اتريا» من أطباء القرن السادس قبل الميلاد ترك لنا اثرا في المراجع المعروفة «السنسكرتيه» باسم «آداب فيديك» وعلى درب الطبيب الهندي الاول «ايريا» جاء طبيب اكثر حداثة منه اسمه «شاراكا» في القرن الثاني بعد الميلاد.
ومن بعده جاء الطبيب المشهور «سوسروتا» في القرن السادس بعد الميلاد فأعطى اسم بول العسل «اميد هوميها Medhumeha» اذ وجد للبول طعما حلوا فإذا ما لامسته الاصابع فإنها تلتصق به.
لقد كتب عنه الطبيب سوسروتا «ان المرض يصاحبه عطش شديد مع ضعف في العضلات ولصاحبه رائحة كريهة انه يصيب الاغنياء بأكثر مما يصيب الفقراء والبدينون هم اغلب مرضاه والاقلية هم النحيفون».
واسماه الصينيون وطبيبهم المشهور «تشانج توكينج» بنحو 200 سنة قبل الميلاد مرض العطش.
وتحدث عن مأساة العطش الذي يصاحبه كثرة التبول.
لم يزد الاطباء على وصف الطبيب المصري القديم شيئا ذا قيمة بل انه طوال العصر الوسيط ايام ازدهار الطب العربي كانت الوصفات العلاجية لا تختلف عن وصفة اطباء مصر القديمة التي كانت على الارجح تفعل فعلها بفقدان المريض لشهيته واجباره على الامتناع عن الطعام ولعلها كانت تعاكس امتصاص السكريات من الامعاء ايضا.
ولم يكن بالمستطاع غير ذلك - اي اضافة اي جديد طوال آلاف السنتين- طالما كانت اسباب المرض خافية وبعيدة عن التصور.
وعلى اي حال لم يكن مرض السكري يمثل مشكلة كبيرة لندرته بالقياس الى أمراض غزو الجسم بمختلف الجراثيم والطفيليات.

اكتشاف جزر لانجرهان المفرزة للأنسولين
وفي العصر الحديث وبالتحديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جاء العلامة الفرنسي العظيم «كلود برنارد» مؤسس علم وظائف الاعضاء في صورته الحديثة واكتشف في بحوثه عن التنظيم الكيميائي داخل جسم الانسان مفهوم الافرازات الداخلية «الهرمونات» التي تلعب الدور الرئيسي في هذا التنظيم.
وبدأ الباحثون في الكشف عنها باستئصال الاعضاء الداخلية واحدا بعد الآخر وبيان ما يسفر عنه غيابها من خلل.
وقد كان العالم الروسي «ينكوفسكي» أول من بين ان استئصال البنكرياس في الحيوان يؤدي الى ارتفاع السكر في الدم وظهور اعراض مرض السكر ومنها التبول الشديد والهزال، ولما كان البنكرياس قد عرف حتى هذا الوقت بانه يقوم فقط بافراز عدد من الخمائر الفعالة في هضم الطعام والتي يصبها في قناة تنتهي في جزر الامعاء التي تلي المعدة مباشرة.
استنتج «كلود برنارد» ان سبب حدوث ارتفاع السكر بعد استئصال البنكرياس هو انه ينتج مادة خفية «هرمون الأنسولين فيما بعد» تساعد على انقاص السكر في الجسم.

اكتشاف هرمون الأنسولين
لقد جاء حل هذا اللغز باكتشاف ان المسؤول عن هذا الانتاج هو خلايا متخصصة متناثرة على هيئة جزر في النسيج المفرز لخلايا الهضم داخل البنكرياس.
وتعرف بجزر لانجرهانز نسبة الى مكتشفها الطبيب الالماني بول لانجرهانز» في العام 1869 أي أن البنكرياس يمثل في الواقع عضوين مختلفين تماما في الوظيفة ولكن ملتحمين في نسيج واحد من الناحية التشريحية.
بيد ان كلا من هذين العضوين في البنكرياس مكمل لعمل الاخر بخلايا خمائر الهضم تحول المواد السكرية الى وحداتها البسيطة ليسهل امتصاصها من الامعاء لتصل الى الكبد وهرمون الانسولين يتعامل مع السكر بعد امتصاصه كمنظم لحركته داخل الانسجة سواء بالتخزين او الاحتراق.
ولم يمض وقت طويل حتى تمكن الطبيب الباحث الشاب «بانتنج» من تورنتو في كندا في العام 1921 من استخلاص هرمون الانسولين من البنكرياس وبيان اثره الساحر في انقاص سكر الدم واختفاء أعراض المرض الحادة.
ولقد كان ذلك من الاحداث الطبية المدوية عندئذ واستحق صاحبها جائزة نوبل بعد ذلك.

اكتشاف أدوية السكر
بدأت بعد ذلك صناعة الانسولين المستخلص من بنكرياس البقر والغنم والاسماك الكبيرة والخنازير وارتفعت معه امال مرضى السكري عاليا واختفت آلامهم من الاعراض الحادة.
وبقي الانسولين هو العقار الوحيد لعلاج مرض السكري حتى العام 1942 حين لعبت الصدفة دورها، فقد لاحظ طبيب فرنسي ان مركبا من مركبات السلفا الذي اعطه لعلاج مريض بالتيفود قد تسبب في انقاص السكر في الدم الى مستوى خطير، وعلى اساس هذه الملاحظة تكثفت الدراسات وتكالبت شركات الدواء على صناعة العديد من العقاقير المشابهة وهي التي تستعمل حاليا عن طريق الفم لانقاص السكر.
ومع ذلك يبقى الكثير الذي ينتظر الكشف عنه في مرض السكري وفي المستقبل القريب تلوح امكانية تطبيق عدة مكتشفات مهمة مثل اختراع البنكرياس الصناعي والعلاج بالجينات الوراثية وزرع خلايا بيتا في البنكرياس.