كانت انتفاضةً شبابيةً مصريةً تشكلت جنينياً على صفحات التواصل الاجتماعي الالكترونية، التي أصبحت الملجأ الآمن للكثير من الشباب المصري للتعبيرعن همومهم واحباطاتهم المعنوية قبل المادية، واكتمل نموها في رحم الأيام العصيبة التي هدرت فيها الكرامة الإنسانية وأصبحت تداس في كل لحظة ببساطير رجال الأمن الذين تحولوا إلى سياط بيد زمرة من جلادي الحكم الفرعوني، ورغم المحاولات المستميتة لزبانية الحكم وبلطجيته لإجهاض هذه الانتفاضة وتعسير ولادتها إلا أنهم فوجئوا لحظة مخاضها بوقوف الشعب المصري بكل أطيافه وطوائفه وتوجهاته السياسية ومدارسه الفكرية ومستوياته الاجتماعية وفئاته العمرية معها، إلى أن شاء الله أن تتم الولادة على يد هذا الشعب العظيم في ميدان التحرير ليكون المولود ثورةً شعبيةً شرعيةً مكتملة النمو، وسليمة المنطق والمطلب، وبصحة سياسية وفكرية ممتازة.
وفرح الشعب بمولودته وقرر أن يدعمها ويقدم لها كل وسائل الرعاية والاهتمام لتكون قادرة على الوقوف في وجه كل من يحاول وأدها في مهدها ممن أرسل لها في سبوعها الهدايا المحملة بقنابل المولوتوف وأكياس الحجارة والأسلحة البيضاء البدائية على ظهور الخيول والبغال والجمال، ما أدى إلى تحول الثوريين من المطالبة بإسقاط النظام إلى المطالبة بإسقاط زعيم النظام، وارتفعت الأصوات المنادية بضرورة رحيل الرئيس ورحيل رموز نظامه معه وترك البلاد لأولادها ليعيدوا إليها مجدها التليد ويستعيدوا معها مستقبلهم الوليد.
و بالمقابل صدحت الأصوات المنادية بضرورة بقاء الرئيس حتى نهاية ولايته بحجة حفظ البلاد من الفوضى السياسية والفراغ الحكومي، وضرورة وجود الرئيس للقيام بتعديل مواد الدستور سيئة السمعة والمفصلة تفصيلاً على قياس الرئيس الحالي والتي تقصر الترشيح لمنصب الرئاسة مستقبلاً على الدائرة الضيقة والمقربة جداً منه من أفراد حزبه الحاكم.
واختلف الفقهاء الدستوريون، والخبراء القانونيون بالرأي حول الضرورة الدستورية لوجود الرئيس المخول الوحيد بطلب تعديل الدستور، حسب الدستور الحالي، واتسع النقاش الدستوري بينهم وتفننوا وأبدعوا وابتدعوا في تفسير وتحليل مواد الدستور، وسيطرت هذه الشخصيات القانونية على اختلاف توجهاتها على شاشات الفضائيات المختلفة، والكل يدلو بدلوه ويعرض حججه وبراهينه ويختلف الرأي بين مؤيد لوجود الرئيس ومعارض لوجوده، وتم أخيراً تشكيل لجنة من أكبر فقهاء القانون الدستوري للقيام بتعديل الدستور بناء على قرار من رئيس الجمهورية وقد حددت مدة العمل على هذه التعديلات بشهر واحد على الأقل، رغم أنه يمكن القيام بها بساعات قليلة بناء على رأي آخر من الفقهاء الدستوريين.
ربما لسنا قانونيين، ولسنا فقهاء دستوريين، ولسنا قضاة أو حتى كتبة محامين، لكننا كمثقفين ندرك أن الثورة هي حركة تغيير شامل تقوم بها مجموعة من الأفراد للانتقال من وضع قائم إلى وضع مقبل، وبالتالي فإنها تجب ما قبلها من دساتير وأنظمة وقوانين لتفرض دستورها ونظامها وقانونها، ومن البديهي أن الثورة لا تقوم إلا لتسقط شرعية نظام سابق وتعلن شرعية نظام لاحق، فكيف والحال أنها ثورة شعبية بامتياز قامت على أكتاف الشعب المصري الذي توحد تحت لوائها دون قيادة تقوده أو إيديولوجية تسيسه، فأسقطت فعلياً شرعية النظام الحالي وأسقطت معه دستوره المليء بالعلل القانونية والدستورية.
ولعله في ثورة الضباط الأحرار أسوة حسنة في هذا المضمار، ونذكر فقط ربما تنفع الذكرى، بأنها كانت ثورة عسكرية قام بها مجموعة صغيرة من ضباط الجيش صغار السن والرتب، لكنهم تلقوا دعما قويا من الشعب المصري فاستطاعت ثورتهم أن تسقط النظام الملكي وتعلن قيام النظام الجمهوري، وتم إلغاء دستور 1923 الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت وسن دستور جديد يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة في البلاد، ولم يسجل التاريخ حدوث أي فراغ حكومي أو فوضى سياسية برحيل الملك آنذاك. وتوالت بعد ذلك الدساتير الجديدة التي سنت بعد إلغاء الدساتير القديمة، فقد ألغى دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي وحد مصر وسورية دستور 1954 أي دستور الثورة، الذي عاد العمل به بعد الانفصال وإلغاء دستور الوحدة، وسن دستور 1971 في عهد الرئيس السادات بعد إلغاء دستور الثورة، وقد عدل مرات عدة بعد تسلم مبارك الحكم ليمكن حزبه الحاكم من إحكام قبضته على حكم مصر، وليتناسب مع خطة التوريث التي كان يجري العمل على تنفيذها على قدم وساق.
فلماذا هذا التمسك بالدستور الحالي المثير للجدل، وقد عابه قانونياً الكثير من مواده المفصلة تفصيلا من ناحية وأسقطت الثورة شرعيته من ناحية أخرى، ولماذا يركز النقاش بين السياسيين والفقهاء والمشرعين على تعديل مواد بعينها كالمادة 76، والمادة 77، والمادة 88، والمادة 139، ويتم تجاهل المادة 3 من الدستور التي تنص على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين في الدستور؟».
إن هذا النقاش المفتعل ما هو إلا محاولة من النظام المهزوز لكسب بعض الوقت ليعيد ترتيب أوراقه بحيث يبقي على سلطة حزبه الحاكم بشكل ما قائمة على مستقبل مصر المقبل، وما التعديلات الدستورية التي ستأخذ وقتاً طويلاً حسب الجدول الزمني لهذا النظام إلا محاولة للالتفاف على ثورة الشعب المصري الذي قال كلمته وأعلن سيادته ومن حقه ممارسة هذه السيادة وحمايتها بدستور جديد يناسب مبادئ وقيم وظروف المرحلة الراهنة ليعبر به من عصر البغال الذي عفى عليه الزمن إلى عصر يواكب التطور الطبيعي لحياة الشعوب والأمم.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com
وفرح الشعب بمولودته وقرر أن يدعمها ويقدم لها كل وسائل الرعاية والاهتمام لتكون قادرة على الوقوف في وجه كل من يحاول وأدها في مهدها ممن أرسل لها في سبوعها الهدايا المحملة بقنابل المولوتوف وأكياس الحجارة والأسلحة البيضاء البدائية على ظهور الخيول والبغال والجمال، ما أدى إلى تحول الثوريين من المطالبة بإسقاط النظام إلى المطالبة بإسقاط زعيم النظام، وارتفعت الأصوات المنادية بضرورة رحيل الرئيس ورحيل رموز نظامه معه وترك البلاد لأولادها ليعيدوا إليها مجدها التليد ويستعيدوا معها مستقبلهم الوليد.
و بالمقابل صدحت الأصوات المنادية بضرورة بقاء الرئيس حتى نهاية ولايته بحجة حفظ البلاد من الفوضى السياسية والفراغ الحكومي، وضرورة وجود الرئيس للقيام بتعديل مواد الدستور سيئة السمعة والمفصلة تفصيلاً على قياس الرئيس الحالي والتي تقصر الترشيح لمنصب الرئاسة مستقبلاً على الدائرة الضيقة والمقربة جداً منه من أفراد حزبه الحاكم.
واختلف الفقهاء الدستوريون، والخبراء القانونيون بالرأي حول الضرورة الدستورية لوجود الرئيس المخول الوحيد بطلب تعديل الدستور، حسب الدستور الحالي، واتسع النقاش الدستوري بينهم وتفننوا وأبدعوا وابتدعوا في تفسير وتحليل مواد الدستور، وسيطرت هذه الشخصيات القانونية على اختلاف توجهاتها على شاشات الفضائيات المختلفة، والكل يدلو بدلوه ويعرض حججه وبراهينه ويختلف الرأي بين مؤيد لوجود الرئيس ومعارض لوجوده، وتم أخيراً تشكيل لجنة من أكبر فقهاء القانون الدستوري للقيام بتعديل الدستور بناء على قرار من رئيس الجمهورية وقد حددت مدة العمل على هذه التعديلات بشهر واحد على الأقل، رغم أنه يمكن القيام بها بساعات قليلة بناء على رأي آخر من الفقهاء الدستوريين.
ربما لسنا قانونيين، ولسنا فقهاء دستوريين، ولسنا قضاة أو حتى كتبة محامين، لكننا كمثقفين ندرك أن الثورة هي حركة تغيير شامل تقوم بها مجموعة من الأفراد للانتقال من وضع قائم إلى وضع مقبل، وبالتالي فإنها تجب ما قبلها من دساتير وأنظمة وقوانين لتفرض دستورها ونظامها وقانونها، ومن البديهي أن الثورة لا تقوم إلا لتسقط شرعية نظام سابق وتعلن شرعية نظام لاحق، فكيف والحال أنها ثورة شعبية بامتياز قامت على أكتاف الشعب المصري الذي توحد تحت لوائها دون قيادة تقوده أو إيديولوجية تسيسه، فأسقطت فعلياً شرعية النظام الحالي وأسقطت معه دستوره المليء بالعلل القانونية والدستورية.
ولعله في ثورة الضباط الأحرار أسوة حسنة في هذا المضمار، ونذكر فقط ربما تنفع الذكرى، بأنها كانت ثورة عسكرية قام بها مجموعة صغيرة من ضباط الجيش صغار السن والرتب، لكنهم تلقوا دعما قويا من الشعب المصري فاستطاعت ثورتهم أن تسقط النظام الملكي وتعلن قيام النظام الجمهوري، وتم إلغاء دستور 1923 الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت وسن دستور جديد يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة في البلاد، ولم يسجل التاريخ حدوث أي فراغ حكومي أو فوضى سياسية برحيل الملك آنذاك. وتوالت بعد ذلك الدساتير الجديدة التي سنت بعد إلغاء الدساتير القديمة، فقد ألغى دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي وحد مصر وسورية دستور 1954 أي دستور الثورة، الذي عاد العمل به بعد الانفصال وإلغاء دستور الوحدة، وسن دستور 1971 في عهد الرئيس السادات بعد إلغاء دستور الثورة، وقد عدل مرات عدة بعد تسلم مبارك الحكم ليمكن حزبه الحاكم من إحكام قبضته على حكم مصر، وليتناسب مع خطة التوريث التي كان يجري العمل على تنفيذها على قدم وساق.
فلماذا هذا التمسك بالدستور الحالي المثير للجدل، وقد عابه قانونياً الكثير من مواده المفصلة تفصيلا من ناحية وأسقطت الثورة شرعيته من ناحية أخرى، ولماذا يركز النقاش بين السياسيين والفقهاء والمشرعين على تعديل مواد بعينها كالمادة 76، والمادة 77، والمادة 88، والمادة 139، ويتم تجاهل المادة 3 من الدستور التي تنص على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين في الدستور؟».
إن هذا النقاش المفتعل ما هو إلا محاولة من النظام المهزوز لكسب بعض الوقت ليعيد ترتيب أوراقه بحيث يبقي على سلطة حزبه الحاكم بشكل ما قائمة على مستقبل مصر المقبل، وما التعديلات الدستورية التي ستأخذ وقتاً طويلاً حسب الجدول الزمني لهذا النظام إلا محاولة للالتفاف على ثورة الشعب المصري الذي قال كلمته وأعلن سيادته ومن حقه ممارسة هذه السيادة وحمايتها بدستور جديد يناسب مبادئ وقيم وظروف المرحلة الراهنة ليعبر به من عصر البغال الذي عفى عليه الزمن إلى عصر يواكب التطور الطبيعي لحياة الشعوب والأمم.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com