منذ اندلاع ثورة الياسمين التونسية وجملة «لسنا تونس» أصبحت تردد كثيراً على ألسنة المسؤولين الحكوميين على اختلاف مستوياتهم وفي مختلف البلاد العربية وكأنهم اتفقوا عليها وهم من الاتفاق براء، كما سارعت معظم الحكومات العربية لرفض أي مقارنة تعقد بين الحالة التونسية والأحوال في بلادها معتبرة أياها بأنها حالة ثورية شعبية فريدة وغير معدية.
لكن يبدو أن لهؤلاء نظرة قاصرة لا تعرف أن تقرأ الواقع قراءة واعية لتستنبط من أحداثه الدروس والعبر، فقد انتشرت العدوى بعد أيام قليلة من الثورة التونسية واتسع مدى تداعياتها على الوضع العربي، وبدأت مظاهرات الغضب تشب في مواقع مختلفة من الوطن العربي، وارتفع صوت المطالبات بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد أن كان همساً، وأصبح الشباب العربي يعبر عن تذمره من واقعه المرير بطرق مختلفة منها الانتحار حرقاً باعتباره الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة في تونس، وفي خضم هذه التطورات المتسارعة في حركة الساحة الشعبية العربية، والسرعة في وتيرة الأحداث الغاضبة يمطرنا هؤلاء المسؤولون بوابل من التحليلات العقيمة والتبريرات الواهية التي تقلل من أهمية تحرك الشارع واتجاهاته المقبلة، وتسطح من قدرته على تحريك المياه الآسنة في قنوات الحياة عامة، فيصفه البعض بالابتزاز السياسي الذي تلجأ إليه بعض الجهات والأحزاب المعارضة للوصول إلى مكتسبات خاصة ببرنامجها الحزبي، ويصفه البعض الآخر بأنه تقليد أعمى غير مدروس واستغلال للطاقة الشبابية ومحاولة استنساخ فاشلة للثورة التونسية، لكن الجميع باختلاف وصوفهم يختم حديثه بالجملة الأكثر تداولاً الآن « نحن لسنا تونس».
لكن مالذي لا يجعل البلاد العربية كتونس من وجهة نظر مسؤولينا الأكارم، وما الذي يجعل تونس حالة فريدة يرون أنها وليدة الصدفة وغير قابلة للتكرار؟ كلنا تونس، فكما حكمهم دكتاتور أتى من مؤسسة أمنية حاملا معه ما تعلمه من مختلف أساليب الترهيب والإرهاب الأمني إلى كرسي الحكم ليقبع على قلوبهم ثلاثاً وعشرين سنة كانت عجافا على شعبه نعيما على أسرته، فإنه أيضاً لم تخل بعض البلاد العربية من ديكتاتوريين حكموها بمنطق العسكر وسياسة الضرب بيد من حديد لمدة تزيد على الثلاث والعشرين التونسية بكثير، فتحولت هذه البلاد بفضلهم من بلاد الفكر والغنى والجمال إلى بلاد القهر والفقر والإذلال.
وكما عاش الشعب التونسي بين قنابل موقوتة من البطالة والفقر والقمع الفكري والسياسي وحبس الحريات وكبت الأفواه وحمل العصا لمن عصى، فإن الشعوب العربية أيضاً تعيش بحقول من الألغام السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرديئة والقابلة للانفجار بأي لحظة، والحال ليس بأفضل منها في تونس فالفقر هو الوضع الغالب لمعظم الشعوب العربية إلا من رحم ربي، والبطالة هي المصير الحتمي للسواد الأعظم من الشباب العربي الذي تتحطم أحلامه وطموحاته على صخور المحسوبيات والوساطات، والمعتقلات العربية تزخر بكل ذي رأي متفتح أوصاحب فكرة نيرة أوحامل نبراس حر، والديموقراطيات العربية في الدرك الاسفل من الممارسة والانجاز، وأغنية سمجة تذاع من القصور الرئاسية العربية لتنام شعوبها على أنغامها نوماً مغناطيسياً.
لكن يبدو أنه قد انقلب السحر على الساحر وما عاد للأغنية سحرها، فقد شبعت تلك الشعوب من النوم على هامش الزمن، وبدأت تفتح عينيها على أفق أوسع من آفاق واقعها وتتطلع لحياة أكثر كرامة وحرية، وأصبح لزاماً على الحكومات العربية أن تعيد النظر في سياستها المديدة العمر التي ما عادت تؤتي ثمارها، وألاّ تتهاون بانتفاضة شعب نائم يصحو على عضة جوع، وعليها أن كانت حريصة على استقرار بلادها وأمنها وحتى حكمها أن تعيد صياغة المعادلة السياسية، وأن تتجنب المقبل الغامض بالعمل على تغيير الحاضر المعلوم، وأن تجد الحلول المناسبة لكل القضايا السلبية التي يعاني منها الشارع العربي، وأن تصلح ما أفسدته الأيام السابقة وتعيد ما نهبته الأيدي السارقة، وأن تنظف المؤسسات الحكومية من كل مظاهر الفساد السياسي والاستغلال الإداري وسطوة النفوذ، وأن توقف نزيف المال العام واستباحة خيرات البلاد.
كما عليها أن تسارع بتشخيص الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنخر في عظام المجتمعات العربية منذ أعوام طويلة، وإيجاد العلاج المناسب ليداوي علتها والذي قد يختلف من بلد عربي لآخر، فلكل بلد علاجه الخاص الذي يتناسب مع طبيعة المرض ودرجة تطوره ومدى تقبل العلاج، لكن بالتأكيد أن آخر العلاج هو الكي الذي لجأت إليه تونس بعد أن فتك بها المرض ولم ينفع معه علاج، والذي قد تلجأ إليه بقية الشعوب العربية إذا أعياها التعب، ألسنا كلنا كتونس؟
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com
لكن يبدو أن لهؤلاء نظرة قاصرة لا تعرف أن تقرأ الواقع قراءة واعية لتستنبط من أحداثه الدروس والعبر، فقد انتشرت العدوى بعد أيام قليلة من الثورة التونسية واتسع مدى تداعياتها على الوضع العربي، وبدأت مظاهرات الغضب تشب في مواقع مختلفة من الوطن العربي، وارتفع صوت المطالبات بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بعد أن كان همساً، وأصبح الشباب العربي يعبر عن تذمره من واقعه المرير بطرق مختلفة منها الانتحار حرقاً باعتباره الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة في تونس، وفي خضم هذه التطورات المتسارعة في حركة الساحة الشعبية العربية، والسرعة في وتيرة الأحداث الغاضبة يمطرنا هؤلاء المسؤولون بوابل من التحليلات العقيمة والتبريرات الواهية التي تقلل من أهمية تحرك الشارع واتجاهاته المقبلة، وتسطح من قدرته على تحريك المياه الآسنة في قنوات الحياة عامة، فيصفه البعض بالابتزاز السياسي الذي تلجأ إليه بعض الجهات والأحزاب المعارضة للوصول إلى مكتسبات خاصة ببرنامجها الحزبي، ويصفه البعض الآخر بأنه تقليد أعمى غير مدروس واستغلال للطاقة الشبابية ومحاولة استنساخ فاشلة للثورة التونسية، لكن الجميع باختلاف وصوفهم يختم حديثه بالجملة الأكثر تداولاً الآن « نحن لسنا تونس».
لكن مالذي لا يجعل البلاد العربية كتونس من وجهة نظر مسؤولينا الأكارم، وما الذي يجعل تونس حالة فريدة يرون أنها وليدة الصدفة وغير قابلة للتكرار؟ كلنا تونس، فكما حكمهم دكتاتور أتى من مؤسسة أمنية حاملا معه ما تعلمه من مختلف أساليب الترهيب والإرهاب الأمني إلى كرسي الحكم ليقبع على قلوبهم ثلاثاً وعشرين سنة كانت عجافا على شعبه نعيما على أسرته، فإنه أيضاً لم تخل بعض البلاد العربية من ديكتاتوريين حكموها بمنطق العسكر وسياسة الضرب بيد من حديد لمدة تزيد على الثلاث والعشرين التونسية بكثير، فتحولت هذه البلاد بفضلهم من بلاد الفكر والغنى والجمال إلى بلاد القهر والفقر والإذلال.
وكما عاش الشعب التونسي بين قنابل موقوتة من البطالة والفقر والقمع الفكري والسياسي وحبس الحريات وكبت الأفواه وحمل العصا لمن عصى، فإن الشعوب العربية أيضاً تعيش بحقول من الألغام السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرديئة والقابلة للانفجار بأي لحظة، والحال ليس بأفضل منها في تونس فالفقر هو الوضع الغالب لمعظم الشعوب العربية إلا من رحم ربي، والبطالة هي المصير الحتمي للسواد الأعظم من الشباب العربي الذي تتحطم أحلامه وطموحاته على صخور المحسوبيات والوساطات، والمعتقلات العربية تزخر بكل ذي رأي متفتح أوصاحب فكرة نيرة أوحامل نبراس حر، والديموقراطيات العربية في الدرك الاسفل من الممارسة والانجاز، وأغنية سمجة تذاع من القصور الرئاسية العربية لتنام شعوبها على أنغامها نوماً مغناطيسياً.
لكن يبدو أنه قد انقلب السحر على الساحر وما عاد للأغنية سحرها، فقد شبعت تلك الشعوب من النوم على هامش الزمن، وبدأت تفتح عينيها على أفق أوسع من آفاق واقعها وتتطلع لحياة أكثر كرامة وحرية، وأصبح لزاماً على الحكومات العربية أن تعيد النظر في سياستها المديدة العمر التي ما عادت تؤتي ثمارها، وألاّ تتهاون بانتفاضة شعب نائم يصحو على عضة جوع، وعليها أن كانت حريصة على استقرار بلادها وأمنها وحتى حكمها أن تعيد صياغة المعادلة السياسية، وأن تتجنب المقبل الغامض بالعمل على تغيير الحاضر المعلوم، وأن تجد الحلول المناسبة لكل القضايا السلبية التي يعاني منها الشارع العربي، وأن تصلح ما أفسدته الأيام السابقة وتعيد ما نهبته الأيدي السارقة، وأن تنظف المؤسسات الحكومية من كل مظاهر الفساد السياسي والاستغلال الإداري وسطوة النفوذ، وأن توقف نزيف المال العام واستباحة خيرات البلاد.
كما عليها أن تسارع بتشخيص الأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنخر في عظام المجتمعات العربية منذ أعوام طويلة، وإيجاد العلاج المناسب ليداوي علتها والذي قد يختلف من بلد عربي لآخر، فلكل بلد علاجه الخاص الذي يتناسب مع طبيعة المرض ودرجة تطوره ومدى تقبل العلاج، لكن بالتأكيد أن آخر العلاج هو الكي الذي لجأت إليه تونس بعد أن فتك بها المرض ولم ينفع معه علاج، والذي قد تلجأ إليه بقية الشعوب العربية إذا أعياها التعب، ألسنا كلنا كتونس؟
مها بدر الدين
كاتبة سورية
maha_bader424@yahoo.com