كنت في بعثة إلى جامعة ميرلاند بأميركا، وكنت أخطب الجمعة وأدعو إلى ديني ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وفى أحد المرات فاجأني أحد الزملاء قائلاً: أنا أكرهك، وانتظر أن أرد عليه بعنف. فقلت له: وأنا أحبك. قال: لا يمكن أن أكرهك وأنت تحبني! قلت له: والله أنا أحبك. فتغير الرجل وخجل من فعلته.
ودارت الأيام دورتها واقترب موعد العودة وإذا بهذا الأخ يقابلني فقلت له: هل تريد أن تقول شيئاً قبل الوداع؟ قال: نعم أريد أن أعتذر لك عما بدر منى، لقد كنت أشعر بالغيرة منك، لأنك تتكلم في الدين وتدعو الناس إلى الخير وأنا لا أستطيع أن أفعل ما تفعل، وهمّ بطبع قبلة اعتذار فبادرته أنا بها. أدركت ساعتها القيمة الغالية لذلك المعنى العظيم «كسب القلوب مقدم على كسب المواقف». د. إيهاب فؤاد.
تأملت هذا الموقف وتفكرت في أحوال الناس اليوم والأساليب التي يتعاملون بها مع بعضهم البعض سواء في اللقاءات أو الاجتماعات، أو في ميادين العلم أو العمل، ووجدت أننا نحرص أحيانا على الانتصار لحظوظ النفس حتى لو تسبب ذلك في كسر قلوب من أمامنا أو خسارتهم ولو كانوا من أقرب الناس لنا. وجال بخاطري الكلمات الجميلة التي سطرها الإمام الشافعي حين قال «ما ناظرت أحداً إلا ووددت لو أن الحق ظهر على لسانه». في تجرد واضح في البحث عن الحقيقة والالتزام بها حتى ولو جاءت من خصم أو ند. ووجدت أن من أكثر المواقف التي نخسر فيها الآخرين هي تلك الحوارات والنقاشات التي نتعصب فيها لآرائنا وأفكارنا ولا نقبل فيها آراء الطرف الآخر، حتى لو تبين لنا صحتها وصوابها. وأعتقد أننا في حاجة لمراجعة آداب الحوار والنقاش والتعرف على الأساليب التي تجعلنا نكسب قلب واحترام من أمامنا حتى ولو اختلفنا معه في الرأي أو الفكر. فجميل أن تنادي من تناظره بأحب الأسماء إليه أو بكنية اشتهر بها، أو بلقب أكاديمي يأنس بسماعه مما يشعره بأنك لا تعاديه شخصياً إنما تنقد الأفكار التي يحملها أو الآراء التي يتبناها. وكم هو لطيف اجتناب الألفاظ التي تشير إلى الاختلاف، كقولك «أنا اختلف معك»، ولو تم استبدالها بعبارة (لي وجهة نظر أخرى) لكان ذلك أفضل. ليتنا عند الحوار نبتعد عن كلمات التهييج من مثل «أنا أتحداك أن تثبت...»، أو «إذا فيك خير تأتي بالدليل» وغيرها من العبارات التي تقسي القلوب وتولد العداوات.
إن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها البعض عند الرغبة في الانتصار على الخصم هو الانتقال من نقد الأفكار إلى التجريح الشخصي والسخرية من الطرف الآخر ومحاولة كشف عيوبه، رغبة في إضعاف موقفه أو إرباكه، وحال من يفعل ذلك كحال من حطم خلية النحل في محاولته لجني العسل.
كم أتمنى عند رغبتنا في تصحيح أقوال أو أفعال الآخرين تذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما انتزع من شيء إلا شانه»، فمخطئ من ظن أن الغلظة في الطرح والشدة في القول هي التي تؤتي الثمار، ولو كان الأمر كذلك لما قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك... »، ولما قال الله تعالى لموسى وهارون « اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى... ». لقد فقه السابقون معنى الخلاف وأدبه إذ يروى أن الإمام الشافعي اختلف مع أحد العلماء في مسألة، فلقيه بعد مدة فأخذ بيده وقال «ألا يسعنا أن نبقى أخوين متحابين وإن اختلفنا في مسألة».
ونقول لكل من اختلفنا معه تذكر إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.


عبدالعزيز صباح الفضلي
كاتب كويتي
Alfadli-a@hotmail.com