قرار الكونغرس الأميركي المعنون بأنه غير ملزم بتقسيم العراق قرار يكشف لنا أن الأميركيين فاض بهم الكيل من تحمل تبعات احتلالهم وحدهم للعراق. فرغم مشاركة دول كثيرة في التعاون بالدعم المادي للاحتلال، إلا أن تبعات الاحتلال على الأرض جسيمة وتداعياتها على العسكرية الأميركية خطيرة جداً، إذ اجتمعت تصريحات المسؤولين العسكريين الأميركيين على خطورة الوضع في العراق.فقد صرح الجنرال جيمس كونواي في كلمة ألقاها أمام مركز الأمن الأميركي الجديد، الإثنين16 أكتوبر بأنه «يشعر بالقلق إزاء القدرة على خوض حروب في دول أجنبية»، إذ أصبحنا «أثقل كثيراً مما كنا عليه من قبل بعد الحرب على العراق». وقد اعترف الجنرال ريكاردو سانشيز - في تصريحات صحافية - بأن القادة السياسيين الأميركيين يتسمون «بضعف الكفاءة والفساد»، مضيفاً: «أن هؤلاء القادة السياسيين كانوا سيواجهون محاكمة عسكرية بتهمة التقصير في أداء الواجب لو كانوا يعملون في صفوف الجيش».وتابع سانشيز: «إن أفضل ما تستطيع قوات الاحتلال الأميركية القيام به في الوقت الراهن هو تجنب الهزيمة».وقد تأثرت العسكرية الأميركية بشدة وارتفع عدد القتلى الأميركيين وعاد شبح فيتنام للظهور، وقد تأثر الداخل الأميركي شعبياً وسياسياً أيضاً، إذ كثرت وتضاعفت الأصوات المطالبة بالانسحاب، وانهزم الجمهوريون في الكونغرس وفاز الديموقراطيون المطالبون بجدولة الانسحاب.لذلك كان لا بد للمحتل الأميركي أن يخرج من الكابوس، ولقد فشلت جميع الخطط لهزيمة المقاومة المسلحة داخل العراق:1 - عن طريق إشعال الحرب الطائفية والعرقية.2 - عن طريق زرع الخلافات والشقاق بين فصائل المقاومة.صحيح أن الحرب الطائفية اندلعت ولم تتوقف وأن الخلافات اشتعلت وقتل العراقيون بعضهم البعض، لكن لم تتحقق النتائج المرجوة، إذ لم تتوقف المقاومة للقوات الأميركية.فكان لا بد من الخروج من كابوس العراق الذي يبدأ بقرار تقسيم العراق فهو ليس كما يظن البعض مخرجاً من الأزمة العرقية والطائفية للداخل العراقي، بل هو مخرج وخطة للإدارة الأميركية، وذلك للآتي: أولاً: التقسيم تم إعداده عملياً على أرض الواقع عبر إعطاء الأكراد المعاونين للاحتلال مطلق الحرية في الشمال العراقي وتشجيعهم والسكوت على تهجير العرب والتركمان من الشمال العراقي، وتكوين كيان منفصل سياسياً في كردستان «شمال العراق»، وإنشاء برلمان منفصل، وانتخاب رئيس، وعلم مستقل عن العراق، وإدارات مستقلة عن جنوب ووسط العراق تماما.أما الجنوب العراقي فقد عمد الاحتلال على تقوية نفوذ المتعاونين والسكوت على وقائع قتل غامضة، وإطلاق العنان للتصريحات باستقلال الجنوب، وقد أصبح الجنوب تحت سيطرة الميليشيات ومنها «جيش المهدي».أما الوسط العراقي فهو أكبر ضحية والمتضرر الأكبر من مخطط التقسيم، حيث تتمركز فيه المقاومة ويشتد فيه الصراع، وقد عمد المحتل إلى تكوين حلفاء له وتقديمهم إلى الإعلام وتقويتهم بالدعم المالي والعسكري ليكونوا أولاً في مواجهة المقاومة، وهم الذين تم إعدادهم للمشاركة في لعبة التقسيم.ثانياً: التقسيم لم يكن وليد اليوم، بل هو خطة قديمة فعلتها الولايات المتحدة قي صراعها مع الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، إذ عمدت إلى إشعال وتغذية النعرات العرقية وتقويتها للانفصال بحيث لا يبقى كيان قوي متحد فتفككت تلك الدول إلى دويلات، وهي خطة وضعت مسبقاً للعراق ولبعض الدول العربية لتفتيت المنطقة العربية وليتأمل القارئ ما يحدث في السودان في الجنوب ودارفور.ثم ما يحدث في الصومال، ثم ها هو لبنان على طريق التقسيم، وما يحدث حتى في فلسطين المحتلة من انقسام بين التيار الإسلامي والعلماني «حماس» في غزة و«فتح» في الضفة كان وراءه مخطط «أميركي - صهيوني» عبر تقوية التيار العلماني «فتح» وإمداده بالسلاح والمال فحدث الاقتتال الداخلي، ثم الانقسام وحتى الآن تلك الدول هي الظاهرة على سطح الأحداث وما خفي كان أعظم.ثالثاً: إعلان التقسيم يعني إعلان تكوين دويلات يتم إمدادها بالدعم العسكري تتولى هي التصدي للمقاومة وتخفف العبء على القوات الأميركية، ومن ناحية أخرى إعلان التقسيم سوف يدفع طوائف كثيرة وطنية تنادي بوحدة العراق وترفض تقسيم العراق إلى التصدي لطائفتها التي ارتضت التقسيم وتندلع حروب أهلية تخفف من ضغط المقاومة على القوات الأميركية المحتلة.رابعاً: تكوين دويلات في هذه المنطقة الحساسة سوف يدفع بدول الجوار إلى حلبة الصراع وأتون النار الذي طالما ابتعدت عنه، وتركت القوات الأميركية المحتلة وحدها تواجه القتل.فطالما طلبت الإدارة الأميركية من الدول العربية والإسلامية المساهمة في التواجد العسكري داخل العراق، ولكنها دائماً كانت تخاف وترفض، وإقامة دولة في الجنوب يعني أن المنطقة المحيطة بها سوف تشهد قلاقل.وبالتالي سوف تدخل دول عربية حلبة النار العراقية التي طالما وقفت تتفرج عليها وتشاهدها على شاشات الأخبار. أما تكوين دولة كردية في الشمال فسوف يقوي أحلام الأكراد بإنشاء دولتهم الكردية الكبيرة الممتدة داخل إيران وتركيا وسورية، وهو ما يشغل تلك الدول ويقلقها ويدفعها إلى النزول إلى حلبة الصراع سريعاً، وظهر التحالف «السوري - التركي» سريعاً، ودخل الأتراك سريعاً حلبة الصراع وقاموا بعمليات عسكرية ظاهرها ضد حزب «العمال الكردستاني»، وحقيقتها ضد الطموح الكردي في الأراضي التركية، وهو دخول علني وسريع للأتراك في حلبة النار العراقية بعد صمت وسكون طويل.خامساً: لماذا حتى الآن القرار غير ملزم ولم يوافق عليه الرئيس الأميركي سريعاً مع أنه مخطط مرسوم؟ الإجابة: إن إقامة الدويلات الطائفية والعرقية محفوف بالمخاطر على المصالح الأميركية.والإدارة الأميركية تعيش حالة تخوف من تنامي القوة الإيرانية في المنطقة، وهي لن تفرض التقسيم إلا بعد الانتهاء من الملف النووي الإيراني تماماً.وأخيراً قرار تقسيم العراق هو إعلان ضعف أميركي على القدرة على المواصلة وحدهم في دفع فاتورة الاحتلال، ورغبة أميركية في تقسيم «كابوس العراق» على الجميع وإدخال المنطقة كلها حلبة الصراع لإضعافها لتفكيكها وإعادة تقسيمها من جديد، ولكن يبقى ذلك كله رهن قص شريط الافتتاح رسمياً.

ممدوح إسماعيل

محامٍ وكاتب مصري elsharia5@hotmail.com