| نادين البدير |
هذا أكثر من تحملنا. قتلى في تونس بسبب البطالة، قتلى آخرون في مصر باعتداء نفذه شاب كشفت التحريات أنه يعاني البطالة. البطالة ستقتل كل شيء، فصاحبها لا يملك ما يخسره لذا ينهي حياته دون تردد، كذلك المواطن العربي الذي انتحر لأنه عاطل عن العمل منذ سنوات، وكبقية الشباب المنتحرين الذين تستغلهم الجماعات المسلحة لتنفيذ اعتداءات لم تكن لتنجح بإنهائها لولا وجود شباب متأزم فاقد الأمل والعمل والهوية وكل شيء.
البطالة صارت أحد الأعمدة المشغلة للإرهاب، فليس سهلاً على فرد يتمتع بوظيفة محترمة ودخل شهري جيد ومنزل مريح وعمل دائم وقدر من التعليم والثقافة والتربية الحضارية، ليس سهلا عليه أن يتخلى عن كل هذا وينتحر. لكن غالبية الشباب العربي لا يملك ما سبق. يعيش في الصفيح ولا يعمل ولا يملك أي دخل ولم يكمل تعليمه ولم يتلق أي تربية من أي نوع حيث نشأ بعيدا عن مفهوم العائلة، أما مبادئه وأفكاره، فالشارع قد تولى المهمة. هو لا يملك منزلا ليدافع عنه ويحميه. فماذا لديه ليذود عنه؟ وما الذي يخشى خسارته؟ لا أتحدث فقط عن الماديات بل حتى المحسوسات. هل فهم معنى الكرامة؟ عزة النفس؟ الذكاء؟ الرجولة؟ الكبرياء؟ كيف سيتلقى هذه المبادئ بين القبور وفي الشوارع؟
تصلني رسائل كثيرة من شبان مختلفي الجنسيات العربية، يطلبون المساعدة في البحث عن وظيفة، يروون حكايات ومآسي واصفين عدم قدرتهم على التحمل. رسائلهم طويلة غير مقتضبة، تشرح الكثير من البؤس. أعمارهم يانعة وعقولهم عجوزة وانشغالاتهم تبعث على التشاؤم. حال الشباب العربي تغير من النقيض إلى النقيض. الشاب الذي كان منشغلا بالسياسيين ومناطحة أعظم المفكرين،كان مستعداً لأي تظاهرة وأي إضراب في سبيل الحرية والديموقراطية، اليوم لا شأن له بتلك الرفاهيات القديمة. همه أن يأكل ويداري رقعات ثيابه الممزقة. أما السياسة فلتترك لمن يملك فراشا يستلقي عليه ليسرح بملكوت الحكم والدولة والفلسفة.
من أين يأكل الناس؟ كيف يعيشون؟ ماذا يطبخون على الغداء؟ من أين ينفقون؟
تسير في شوارع العواصم العربية التليدة فتجد امرأة افترشت الطريق وبيديها طفلتها ذات الخمس أو الثلاث سنوات بمنتصف الليل الحالك تتسول وتطلب الرحمة مستعينة ببراءة طفلتها. تكمل سيرك فتجد أطفالا تركوا المدارس للعمل في المقاهي والحانات للمشاركة بتنمية الاقتصاد الوطني المنتهي منذ سنين، يتجولون في حياة الليل بين أبناء وبنات الليل، هؤلاء ماذا سيتعلمون وكيف سيصبحون؟
كل ذلك يحدث في بلدان هي الأكثر قدرة على جذب السياحة تاريخياً وأثرياً وجغرافياً. لكنها لا تجذب الكثير لأنها تفتقد للثقافة التي تؤهلها للتعامل مع الأمور بذكاء وحنكة ووطنية وإخلاص، الأنظمة منشغلة بالقضايا العربية الكبرى ولا علاقة حميمية تربطها بالداخل أو بسياحة الداخل. كل ذلك في الوقت الذي استطاعت الدول المتقدمة أن تستفيد به من قطاع السياحة لتقضي على البطالة. فاسبانيا وحدها يدخلها حوالي 60 مليون زائر سنوياً. اسبانيا استغلت مسجد الحمراء الذي بناه العرب لتجذب الأنظار والزوار ولو أنه بقي مع العرب لجذب ربع العدد المذكور أو أقل بكثير وربما وجدناه خرابة للنفايات والحيوانات الضالة وربما تحول لوكر لمروجي المخدرات.. أما مالطا الجزيرة الصغيرة جداً فتجذب وحدها 23 مليون سائح وهلم جرا بقية الدول التي فهمت أهمية السياحة للاقتصاد الوطني وللمجتمع أيضاً
ليس لديهم موارد نفطية لكنهم لم يعلنوا النهاية. ساعدتهم بذلك نقاط السياحة المختلفة، ساعدهم تحضرهم بالحفاظ عليها، فمن كل زاوية قديمة صنعوا مجداً سياحياً جديداً وعند كل مجد وقف شبان وشابات يعملون وينفقون من عملهم على تحصيلهم الجامعي. تشعر باهتمامهم في السياحة لحظة وصولك للمطار. كل شيء حولك يجذبك ويعرفك بالمكان وأهم مقاصده الأثرية والتاريخية والمحلية. كيف تبدو السياحة في العالم العربي؟
غش في سيارات التاكسي وتعامل مختلف مخصص للخليجيين وأسعار متفاوتة غير محددة وإهمال تام للمناطق الأثرية وللأبنية القديمة وفقدان استراتيجيات وخطط لتطوير السياحة ورقيها والأهم عدم وجود ثقافة السياحة بين الجمهور نفسه إذ لم تدخل حتى اليوم ضمن النسيج الاجتماعي والثقافي، كما أن هناك عقبة الأوضاع الأمنية المذبذبة في عدد من الدول العربية السياحية. مصر التي تملك ثلث آثار العالم لا يدخلها أكثر من 12 مليون سائح سنوياً رغم أخبار الاكتشافات المستمرة التي تنهال على مسامعنا يومياً، لبنان على قدر السمعة الباهظة التي يمتلكها سياحياً لا يرتاده أكثر من مليوني سائح سنوياً وأقصى حلم للمغرب الجميل هو الوصول إلى عشرة ملايين سائح فقط لم يتمكن من تحقيقها إلى اليوم. أما تونس الخضراء التي تشهد الاضطرابات وحظر التجوال فكل التحليلات تؤكد أن نسبة السياحة ستنخفض بشكل مريع بسبب الأوضاع الأمنية.
الأراضي العربية جميلة للغاية، شمسها مشرقة طوال العام، فصولها متنوعة وأجواؤها متعددة وآثارها غنية. تجمع الجبل والوادي والصحراء والبحر والمحيط والنهر والغابة وكل مكونات الطبيعة.. وبدلاً من استغلالها لتوظيف أبنائها وبناتها في الأخذ والعطاء، تترك تلك الموارد العظيمة وتوجه الانشغالات لنواح أخرى بعيدة عن خدمة الذات قريبة من تدميرها.
فمتى سيستيقظ وزراء السياحة العرب للمساهمة في إيقاف البطالة وإيقاف الإرهاب وإيقاف الغضب الشعبي المتعارم؟
الفقراء سيثورون. ثورات كثيرة كان محركها الأول الفقر المدقع، بعضه تحول لحقد طبقي فغدت ثورة جياع لا علاقة لها بأي مبادئ من حريات أو ديانات وإن اتخذتها كشعارات.
ثورة الجوع تأكل الأمن وتهدد الجميع. ثورة الجياع تكره الجميع، انتفاضة البطالة تكره العائلة المستقرة، تكره الخباز وصانع الحلوى، وتكره رفاهية الأغنياء ودفء البيوت وعطف الأمهات وحنان الآباء. ولا سبب يمنع غيظها من أن يتفجر ليقتل كل ذلك الحب.


كاتبة وإعلامية سعودية
nadinealbdear@gmail.com