| نادين البدير |
في خطاب شهير، قال جون كيندي لمواطنيه: «لا تسألوا ماذا قدمت لكم أميركا بل ماذا قدمتم لها». الوطنية هناك مختلفة عن الوطنية بعالمنا القصير، الوطنية بعالمهم تتطلب من الفرد تقديم الكثير مما يستطيع الوطن استيعابه والسماح به... تتطلب المشاركة في الوطن وبمؤسساته وجمعياته الأهلية، بتقديم الأفكار، بالخلق، بالنقد، بالتركيز على الفكر الفردي لا الجماعي. بتنمية روح الثقة والمسؤولية بين الصغار، بمنح الجميع الحرية الشخصية التي تكفل لهم تكوين حياتهم بالطريقة التي يحددها الفرد لا المجموع. تلك الحريات الواسعة والمشاركة الواجبة تدفع المواطن حتماً لمطارحة وطنه الغرام.
عندنا يطلب الوطن شيئا مختلفاً، يطلب منك الكثير مما لا يمكنك تقديمه إلا في حالة واحدة، حين تخصي عقلك وتتحول لأحد غلمان سيدك الوطن، يغتصبك متى شئت أنت وكل أهل دارك... الوطنية تحتم أن تصمت وألا تتدخل بشؤون المكان الذي يطلق عليه وطن، فلا تحق لك المشاركة بصناعته، والحريات المسموحة قدرها صفر. السيد الوطن يحرمك من أساسيات الحياة ورفاهيتها، يحبسك، ينهال عليك ضرباً، لأنك حاولت التدخل بالشأن الأعلى، فما أنت سوى مارق على أرضه، ولك فقط حق التدخل بشأنك الحقير المتعلق بأكلك وملبسك، السيد الوطن يهين وعيك البشري ثم يأمرك بأن تموت لأجله. كيف وقعنا بحب الوطن؟ وطن لا نشارك به، لا نعرف عنه شيئاً. متى قبلنا أن نموت لأجله؟!
تفكر أعداد في الهجرة أو تحلم بعقد عمل في الخارج رغم الحديث عن الحب الكبير، يتعذرون بأن مقصد سفرهم مادي لا أكثر. وما ان تلوح فرصة الاستقرار بمكان، أي مكان، حتى يغدو الوطن صوراً وذاكرة عن الحي والمدرسة والشارع والأم والعائلة وأشياء جميلة ليست بشعة. لا أحد يريد الاعتراف بأنه عاش الغربة في وطنه، بذكريات مرهقة. فقط أحاول معرفة نوع العلاقة العاطفية التي تربطني بالوطن.
ركز على أي بلدة عربية صغيرة، على أي مجتمع أو وطن عربي، ستجد منحى العلاقة يسير باتجاه واحد، حب من طرف واحد. أخْذ دون عطاء أو نذر يسير من العطاء، كالأمن، يضمن استمرارك بالبقاء على قيد الحياة لتأليف المزيد من أشعار التغزل بالوطن وتلحين أكبر عدد من أغاني عشقه ومجده وخلوده. تخدم المكان بكل جوارحك لأجل أهداف الولاء والانتماء والتضحية... إلخ، تهب المكان كل شيء ولا تنتظر منه شيئا. وحين لا يعطيك، وحين لا تشعر بحبه لك أو إحساسه بوجودك، تعلل أنانيته بانشغاله وبتغليبه مصلحة المجموع على مصلحة الفرد. هذا هو تفسير عدم فهمك لتطاوله بتهميشك. إلى سكان وساكنات الأوطان العربية... ما طبيعة العلاقة التي تربطكم بالأوطان؟
احتمالات تقسيم السودان عما قريب تدفع للتساؤل عن معنى الوطن ومغزى الدفاع عن بقية الحدود العربية. حين ينقسم السودان سيتخلى أهل الشمال عن حب وطن الجنوب والعكس صحيح. إذن يمكن للوطن أن يتغير، ويمكن لمشاعرنا أن تتبدل، فتمنح لوطن جديد. ردود أهالى قرية الغجر الرافضة خروج المحتل الإسرائيلي تثير التساؤل عن تعريف الوطن. أهالي القرية يعرفون ماذا سيقدم لهم بالمقابل... ليس هناك تعليم، اقتصاد متردٍ، دولة لا سيادة لها، تناحر أهلي، طائفية. بواقعية ودون شعارات شمطاء: ما الذي سيشدهم للمكان؟ (البدون) الذين يسكنون الخليج وترفض دول الخليج منحهم جنسياتها، يعيشون دون أي مقومات حياة حتى إنهم ممنوعون من استخراج شهادة وفاة أو زواج أو ميلاد، ممنوعون من التعليم، ومن العلاج، ومن أي ضمان. باختصار يعيشون على الهامش كالمنبوذين في الهند، لكن منهم من ذهب لأوروبا ومختلف العالم. فتحت لهم المدارس والجامعات وحصلوا على مناصب وظيفية وحكومية وأكاديمية، ومُنحوا جنسيات عالمية (محترمة)... فأين هو وطنهم الحقيقي؟
هكذا كثير من العرب رحلوا عن ديار تعمها المصلحة العليا واستوطنوا ديارا تهتم بتفاصيل حياتهم الصغيرة كأولوية أساسية. سيجيبونك بأنهم من جذور عربية، وستجد بداخلهم عشقاً واحداً هو عشق الوطن الذي اختارهم واختاروه، لا الوطن الذي شعروا بأنه مجبر على استيعابهم ولم يتوان عن تذكيرهم قط بأنهم عالة عليه. أريد وطنا يحتويني. يحميني. يقدم لي الغذاء والصحة وقسطا جيدا من التعليم، أرى مستقبلي معه، طاعنة لها ضمانها، يزيح عني الخوف والقلق.
وطني يرفض أن يراني طفلة بالخامسة، تقف منتصف الليل أبيع الورد للخارجين من الحانات. وطني يرفض أن يراني متشرداً يسكن علب الصفيح بأحد الشوارع الخارجة على التنظيم. وطني لا يرتضي لأطفاله المشاركة بأعباء الاقتصاد.
وطنى يقبلني كما أنا. يستوعب جنوني وأحلامي وإبداعاتي. الأهم أنه يحترمني. وطني يحبني. لا يخون حين تكره وطنك أو تعمل ضد صالحه، يطلقون عليك عميلا أو خائنا، وتتم معاقبتك. لكن هو يخون.
كم وطناً عربياً وقع بغرامي مثلما وقعت بغرامه؟
كم وطناً عربياً أشعرني بانتمائه لي؟
كم وطناً عربياً استعد للقتال لأجلى؟
كم وطناً عربياً سيبكي إن تركته ورحلت؟
نعرف أننا نرحل دائما ونطيل البعاد ولا نذكره وقف يوماً يلوح لنا ولو من بعيد.
توهمنا أنه يصيح. لم يكن السيل دمعاً. كان سراب الوطنية يجري على خدوده المنتفخة من شقائنا.
من زاوية متعبة... نحن مخلصون لحدود صنعها استعمار. خرج المحتل من الأرض بعد أن رسمها وحددها. قال لنا: هذا وطنك، وذاك وطنك.
المستعمر القديم حدد لنا وجهة ولائنا وحدود انتمائنا.
إذا صادفنا في حياتنا أرضاً غير الأرض التي فرضها علينا الجد الأكبر، لا نرتبط معها بتاريخ أو لغة أو عرق أو أي قومية، لكنها فتحت لنا أذرعها ومدت لنا كل العون، وهبنا أناسها الكثير ومازالوا يعطوننا الأكثر. ارتباطنا بهم روحياً حقيقياً لا قومياً خيالياً. فما اسم هذا المكان الجديد؟
هل نملك الشجاعة للاعتراف بأننا أخيراً وجدنا وطن روحنا ونصفنا الآخر؟


كاتبة وإعلامية سعودية
nadinealbdear@gmail.com