| بيروت ـ من ريتا فرج |
أسوة بـ «خوش آمديد» الإيرانية استقبل لبنان الرسمي والشعبي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بعبارة «هوش غالدينيز» Hosgel dinz التي تعني بالعربية «أهلاً وسهلاً». **تركيا العائدة إلى الشرق عبر استراتيجية «تصفير» الخلافات مع دول الجوار والسعي إلى التقريب بين دول الشرق الأوسط، تعمل منذ وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم على جبهات عدة، مستخدمة النهج البراغماتي الذي يقربها من قضايا العالم العربي من جهة ومن أولوياتها الغربية من جهة أخرى.
وتأتي زيارة أردوغان للبنان لتحمل أكثر من مؤشر سياسي واستراتيجي، ولكنها تتقاطع مع ترقب صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال رفيق الحريري واحتمالاته التفجيرية، مع ما سيصدر من تسويات سورية ـ سعودية يفترض أن تجنب اللبنانيين الوقوع في المحظور.
أردوغان الذي سبق أن زار بيروت خلال انتخاب رئيس الجمهورية ميشال سليمان في مايو 2008 يحاول في زيارته العام 2010 إيصال رسائل عدة أبرزها التخفيف من حدة التوتر السياسي الناشئ من المحكمة الدولية، من دون أن يصل الأمر كما يؤكد بعض المعنيين بالشأن التركي إلى حدود المبادرة، في انتظار ما ستؤول اليه معادلة «سين ـ سين».
التقى أردوغان المسؤولين اللبنانيين، وتوجه إلى منطقة عكار في الشمال لافتتاح مدرسة في الكواشرة، البلدة اللبنانية الوحيدة التي يتكلم قاطنوها اللغة التركية، ووقع اتفاقاً للتجارة الحرة بين بيروت وأنقرة، وافتتح مستشفى لمعالجة الحروق في صيدا بجنوب لبنان. وقد حمل جدول أعماله دلالات متشابكة، وإن بدت استراتيجية «تصفير» الخلافات أكثر هدوءاً، باعتبار أن ايران تجهد بدورها لمعالجة الملفات المستعصية وتلاقي الجهود التركية كما أكد السفير الإيراني في لبنان غضنفر ركن آبادي بعد لقائه رئيس البرلمان نبيه بري.
لكن المفارقة أن تركيا وإيران تخوضان «صراعاً خفياً» على سياسة التوكيل إثر الانسحاب الأميركي من العراق، والغياب المدوي للعرب الكبار عن قضايا العالم العربي. والأهم أن أزمة الخلافة المرشحة للتصاعد في السعودية بعد الوعكة الصحية التي تعرض لها الملك عبد الله بن عبد العزيز، قد تتيح دوراً أكثر فاعلية لكلتا الدولتين، وخصوصاً أن الساحة اللبنانية تشكل مختبراً لأبرز التحولات في الشرق الأوسط، ما يعني أن دخول تركيا على خط التسويات رغم عدم خبرتها العميقة في الملف اللبناني مقارنة بالثلاثي السوري، السعودي، والإيراني، سيتيح مجالاً أوسع لها، ولاسيما إذا انشغلت الرياض بأزمة النظام، وتعرضت طهران لضربة عسكرية إسرائيلية أو أميركية على خلفية ملفها النووي.
كيف يمكن مقاربة زيارة رجب طيب أردوغان للبنان من الناحية الاستراتيجية، وأي دور لانقرة في الملف اللبناني، وإلى أي مدى يساهم دخول تركيا على خط التسويات في الحد من النفوذ الإيراني في لبنان، وهل الوسطية التي نادت بها الاستراتيجية التركية قادرة على تجنيب لبنان منزلق الحرب الأهلية وتداعياتها الإقليمية؟ هذه الأسئلة وغيرها حملتها «الراي» إلى خبيرين في الشؤون التركية هما الكاتب السياسي ميشال نوفل والدكتور محمد نورالدين.

رأى الكاتب السياسي ميشال نوفل أن زيارة رئيس الوزراء التركي للبنان أتت في إطار احترام التوازنات العربية، لافتاً إلى أن السياق العربي ـ الإقليمي دفع القيادة التركية إلى تقديم مبادرتها. وشدد على أن انقرة لا تنافس دمشق، بل تسعى إلى سد الفراغ في المشروع العربي.
• ما قراءتك السياسية والاستراتيجية لزيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للبنان في هذا التوقيت تحديداً؟
في الدرجة الأولى يجب أن ننتبه إلى السياق العربي والإقليمي الذي تجري في إطاره هذه الزيارة، نظراً إلى حرص أنقرة على احترام التوازنات العربية والتوازنات الإقليمية في أي تحرك تُقدم عليه في المنطقة، انطلاقاً من الحرص على عدم إثارة أي بلبلة وعلى أن تكون أي مبادرة تركية في إطار من التشاور مع الدول العربية المعنية في الأزمة اللبنانية. إذاً السياق العربي ـ الإقليمي الذي تجري فيه الزيارة يقوم على طلب المساعدة التركية في حل الملف اللبناني، بدليل أن مبادرة أردوغان هذه المرة سبقتها اتصالات ومشاورات مع دمشق، ونحن نعرف كم أن أنقرة حريصة على التنسيق الدائم والمستمر في شأن أي عمل أو تحرك تقوم به في لبنان مع سورية، والرأي التركي له احترامه عند السوريين. تركيا أجرت أيضاً اتصالات مع السعودية، وهذا ما فعلته كذلك مع القيادة المصرية. السياق الإقليمي- العربي يقدم نوعاً من الحاضنة للمبادرة التركية، وفي الوقت نفسه، هناك استدعاء لهذا الحضور التركي للدخول إلى الأزمة اللبنانية، ونلحظ فاعلية هذا الدور عبر دخول تركيا في التفاصيل وتقديم شيء ملموس لمنع انفجار الوضع على خلفية قضية المحكمة الخاصة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري أو ملف شهود الزور. وقد علمنا أن أردوغان دخل في تفاصيل قانونية دقيقة في محادثاته مع المسؤولين، ما يعني أن الدور التركي سيكتسب فاعلية في أي تسوية مثمرة كونه على مسافة واحدة من الجميع. وهناك وجه آخر للزيارة هو الوجه الإقليمي، فهي تعكس صعود الدور التركي في الشرق الأوسط لتعويض التراجع العربي على مستوى التوازنات الإقليمية، وهذا الدور يتوازن إيجاباً مع صعود الدور الإيراني.
• خريطة زيارة أردوغان وطريقة استقباله في المؤسسات الرسمية تختلفان عن الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني. هل يشي ذلك بوجود رؤيتين متناقضتين تتحكمان في القوى السياسية اللبنانية؟
لا أعتقد أن هناك رؤيتين متناقضتين، هناك رؤيتان مختلفتان يمكن أن تكتملا بفعل الدور التركي الذي يدخل دائماً كوسيط في أي نزاع إقليمي. طبعاً، هو منحاز في القضايا الأساسية مثل القضية الفلسطينية إلى الحقوق العربية وإلى تسوية سلمية تعيد هذه الحقوق وتضع حداً للهمجية والعدوان الإسرائيليين. في شكل عام يهدف الانخراط التركي في الشرق الأوسط إلى إقامة التوازن وقطع الطريق على تفكيك المنطقة وعلى اضعاف الدول العربية. الأتراك لا يدخلون إلى العالم العربي بهدف سرقة شيء من العرب، إنما يعملون على استعادة الدور العربي والخطر الذي يهدده بسبب الفراغ الإقليمي الراهن.
• الدور التركي حديث في لبنان فهل تستطيع أنقرة منافسة سورية على الملف اللبناني باعتبار أنها أكثر حضوراً في المجتمع الدولي؟
أنقرة لا تنوي منافسة دمشق بل تتحاور معها، وتطور العلاقات السورية ـ التركية في المرحلة الأخيرة يحمل مؤشرات شديدة الأهمية. الرؤية الجيوسياسية التركية ترى في دمشق البوابة لشؤون المنطقة، وليس ثمة تنافس بل تشاور وتنسيق، ومن المستحيل أن تتحرك تركيا على مستوى ملف الأزمة اللبنانية إذا كانت في حال من التعارض مع سورية.
•تطرح اليوم مسألة الشراكة التركية ـ العربية ـ الإيرانية. في حال قيامها هل في إمكانها الإجابة عن التحولات الإقليمية التي أعقبت الانسحاب الاميركي من العراق، وأين موقع لبنان من هذه الشراكة؟
بعد ما جرى في العراق وأخطار التفكك في النظام العربي، وبعدما رأينا ما يحدث في السودان واليمن من توجهات انفصالية قد تعمم على بقية الدول العربية، فإن هذه المؤشرات تمس بتركيا مباشرة لأنها يمكن أن تشجع أكراد تركيا على الانفصال. في ضوء هذا المشهد الإقليمي السلبي، يفترض أن يكون هناك استجابة عربية لما طرحه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في «قمة سرت»، لجهة انشاء هيئة إقليمية للحوار العربي مع دول الجوار وفي الدرجة الأولى إيران وتركيا. الدور العربي لم يعد فاعلاً ويعاني أزمة ويجب اصلاحه، وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن تركيا وإيران أصبحتا في قلب المعادلة العربية وفي قلب التوازنات الإقليمية. وعليه، يجب أن نقرب وجهات النظر وندور الزوايا للتقريب بين العرب وايران من جهة وتفعيل دور العرب على المستوى الإقليمي من جهة أخرى. العرب اليوم ليس لهم أي حضور في ملفات المنطقة الأساسية، بدليل أنه عندما طرح ملف المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، حضرت الدول الكبرى الغربية إضافة إلى الصين وروسيا في غياب العرب، علماً بأن هذا النزاع يجري على أرضهم. هناك توازن بين إيران والسعودية خصوصاً في المسألة العراقية، ولكن المطلوب إصلاح الفكر السياسي العربي كي يمتلك رؤية جديدة حيال إيران والتعاون معها. فهذا الجار الذي تتخوف منه دول الخليج تحديداً أصبح له ثقله، وخصوصاً في الملف الفلسطيني - الإسرائيلي. لبنان اليوم ليس لاعباً اقليمياً، بل يعكس توازنات المنطقة وتنعكس عليه كل التيارات الأساسية، ويمكننا أن نقول أن التسوية الحاصلة في الملف العراقي يمكن أن تشهد مثالاً في لبنان، على قاعدة التوازن الآني بفعل تغير موازين القوى.
دور ايجابي لتركيا
أكد الدكتور محمد نورالدين أن زيارة أردوغان للبنان أتت في إطار التنسيق الإقليمي مع كل من السعودية وسورية وإيران، موضحاً أن الحضور التركي يستدعي توطيد العلاقات مع الدول المعنية بالملف اللبناني. ولفت الى أهمية البعد الاقتصادي لزيارة رئيس الوزراء التركي.
• زيارة أردوغان للبنان تقاطعت مع استحقاقات لبنانية مرتقبة في مقدمها القرار الاتهامي. هل تركيا قادرة على الاضطلاع بدور تهدئة بين القوى اللبنانية؟
تركيا قادرة على أداء دور إيجابي في الأزمة اللبنانية في ظل شرطين أساسيين: الأول، استمرار علاقتها الجيدة مع سورية وايران والسعودية، والثاني، استمرار بقائها على مسافة واحدة من كل الأطراف اللبنانيين، وأعتقد أن هذين الشرطين تحققا ما يوجد ثقة من الجانب اللبناني بالدور التركي، ويفتح نافذة للأمل كلما شهد الوضع أي توتر. ولكن يجب الإشارة إلى أن الدور التركي ليس بديلاً من الأدوار السورية والإيرانية والسعودية ولا يمكنه أن يكون ذلك، بل هو دور مساعد ومكمل ما يستدعي عدم المبالغة في الرهان على دور حاسم لأنقرة في المسألة اللبنانية.
• كان لافتاً ما أدلى به السفير الإيراني في لبنان حين أشار إلى جهود تركية ـ إيرانية لتسوية ملف المحكمة الدولية. هل يندرج هذا التصريح في إطار التعاون بين البلدين حول الملف اللبناني؟
يبدو مما أدلى به أردوغان لصحيفة «السفير» اللبنانية أن هناك اختلافاً في مقاربة القرار الظني. فأردوغان يدعو إلى انتظار صدور القرار ليبنى على الشيء مقتضاه، وهذا ينسجم مع موقف «قوى 14 مارس»، لكنه أيضاً يدعو إلى عدم تسييس المحكمة الدولية. في تقديري أن تركيا لا تملك الركائز المادية في لبنان لكي تحدد إرادتها في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبقى تقرير مصير الخلاف بين اللبنانيين رهن المساعي السورية السعودية والإيرانية، ولا أعتقد أن لهذا الأمر علاقة مباشرة بأي ملف خلافي بين تركيا وأي دولة عربية أو إسلامية أخرى.
•أنقرة اليوم تعتمد في استراتيجيتها الخارجية على ممارسة دور الوسيط ولا سيما في ما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. هل تركيا قادرة على تخفيف الاحتقان الدولي حيال «حزب الله»؟
- لا يمكن أي دولة وخصوصاً تركيا في مقاربتها الجديدة لمشكلات الشرق الأوسط أن تتعامل مع كل قضية على أنها شأن منعزل في ذاته عن مشكلات المنطقة، من أفغانستان إلى شرق المتوسط، فالملفات مترابطة مثل حجارة الشطرنج، بحيث لا يمكن نقل حجر من مكان إلى آخر إلاّ عبر النظر إلى ما يمكن أن يترك نقله من تداعيات على الأحجار الأخرى. ولا أعتقد أن ملف «حزب الله» يمكن فصله عن الملفات الأخرى في العراق أو فلسطين، ولا عن التوجهات الخارجية والأدوار الإقليمية لكل من سورية وإيران. لذا، لا يمكن انقرة أن تتخذ موقفاً مستقلاً بشأن «حزب الله» والاتهامات الموجهة إليه من دون أن تاخذ في الاعتبار مجمل علاقتها مع دمشق وطهران. ورغم أن لتركيا علاقات جيدة مع الغرب وإدارة باراك اوباما تحديداً، إلا أن المرجعيات الأساسية في الملفات الداخلية اللبنانية، ومنها ملف المحكمة الدولية، تتصل مباشرة بالمرجعيات السياسية للمجموعات اللبنانية الموزعة بدورها بين سورية وإيران والسعودية.
• الدور التركي في لبنان حديث العهد نسبياً، كيف يمكن مقارنته مع مجمل الحضور التركي المستجد على الساحة الإقليمية؟
الدور التركي المستجد في لبنان لا يمكن فصله عن مجمل الدور التركي في الشرق الأوسط، ومع أن هذا الدور يركز أساساً على الدول الكبرى مثل سورية والعراق والسعودية وإيران وجزئياً مصر، إلا أنه لا يمكن أن يستثني لبنان من هذا الاهتمام في ظل وجود حدود برية للبنان مع دولة واحدة هي سورية. سياسة تركيا في الانفتاح والتكامل الاقتصادي مع جوارها الجغرافي القريب تحتم عليها أن تضع لبنان في دائرة اهتماماتها ومصالحها. من هنا، الرغبة التركية في أن يؤسس مجلس اقتصادي أعلى يضم تركيا وسورية والأردن ولبنان. اقتصادياً، يمكن القول إن تركيا في إمكانها أن تفرض حضوراً ملحوظاً في ظل النهضة الصناعية التي تمر بها، وهي ميزة تجعل ميزان التجارة الخارجية لتركيا يميل لمصلحتها على حساب اقتصادات الدول المجاورة، ولا سيما سورية والعراق ولبنان. أما سياسياً فالحضور التركي في لبنان رهن بعلاقات انقرة مع دول الجوار اللبناني، وبقدر ما تتقدم العلاقات التركية مع هذه الدول يمكن أن تجد تأثيراً لها في لبنان والعكس صحيح.
• في ظل أزمات الحكم التي تمر بها بعض الدول العربية ومن بينها السعودية ومصر، هل يتيح هذا الأمر مساحة أرحب لتركيا لممارسة دور أكثر فاعلية في ملفات المنطقة خصوصاً الملف اللبناني؟
مشكلة الدور التركي في مرحلة «حزب العدالة والتنمية» تكمن في قادته السياسيين الذين أعطوا أولوية للعلاقة الجيدة مع جوارهم الجغرافي المباشر، مثل سورية والعراق وإيران، وهذا لا يعني إهمال الدوائر الجغرافية الأخرى. ومشكلة تركيا أنها اليوم تنسجم أكثر مع أجندة القوى الإقليمية الممانعة، وهذا في تقديري حال دون بناء علاقات ثقة كاملة بين تركيا وبعض الدول العربية مثل السعودية. لا شك أن شخصية الملك عبد الله بن عبد العزيز الأكثر انفتاحاً تساهم في ردم بعض الثغر، لكن هذا الأمر لا يستقيم في السياسة لوقت طويل، فالعلاقات بين الدول تحتاج إلى وقت طويل لتتخذ طابعاً مؤسساتياً وتركيا تدرك ذلك جيداً، وتعلم أن بعض الأنظمة العربية تحتاج إلى مزيد من الاستقرار لتبني معها شبكة من العلاقات المتينة.