| بيروت ـ من محمد بركات |
كثيرة هي أخبار قرية مجدل عنجر البقاعية (شرق) التي سكانها من أبناء الطائفة السنية ويقارب عددهم ثلاثين ألفاً. هذه القرية كانت محط الأنظار خلال الأيام الأخيرة مع حملات دهم ومطاردة قام بها الجيش اللبناني بعد مقتل ضابط ورقيب من أفراده، وضبط كمية من الأسلحة والمتفجرات داخل أحد الأبار. الأجهزة الأمنية أفادت أن هذه الكمية تملأ شاحنة بكاملها ورجحت أن تكون عائدة إلى شبان إسلاميين يخوضون حرباً غير معلنة مع الجيش منذ أعوام.
«الراي» زارت مجدل عنجر وتحدثت الى سكانها حاملة السؤال الآتي: هل تحولت البلدة معقلاً للإسلاميين المتطرفين؟
تجاور هذه البلدة الحدود اللبنانية ـ السورية، وتضم ستة مساجد وسبع مدارس، ما يجعل عدد المساجد فيها شبه مساو لعدد المدارس. معظم من التقيناهم من الرجال يرخون لحاهم، والأكثرية الساحقة من النساء ترتدي الحجاب. أما الاطفال فيركضون إلى المسجد عندما يصدح الآذان. انتماءاتها الحزبية تتوزع بين حزب «البعث» الموالي لسورية وحزب «الاتحاد» المنضوي في صفوف المعارضة إلى جانب «تيار المستقبل». الأول كونه الأكثر نشاطاً على الحدود اللبنانية ـ السورية، والثاني لأن منطقة البقاع هي مسقط مسؤوله النائب السابق عبد الرحيم مراد القريب من سورية، فيما الثالث حديث النشأة، وخصوصاً بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري العام 2005.
رئيس البلدية سامي العجمي يقول «في السبعينات كان جو القرية عروبياً، وكان الوجود الحزبي يقتصر على حركة «فتح» وحزب «البعث» بفرعه العراقي. لكن العائلات كانت الأقوى». لا يتطرق العجمي كثيراً إلى فترة التسعينات في عمر البلدة و«يقفز» فوراً إلى العام 2001». في ذلك العام بدأ التشدد يتسرب إلى بعض الشبان من دون أن يتخذ طابعاً خطيراً. لكن الأمور سرعان ما اختلفت مع اعتقال العديد من الشبان وفي مقدمهم إسماعيل الخطيب الذي توفي أثناء التحقيق معه.
موت الخطيب (36 عاماً، متزوج وله خمسة أولاد ويعمل بائعاً لأجهزة خليوية مستعملة) في زنزانته، بعد اعتقاله لأسبوع بتهمة الانتماء إلى «شبكة إرهابية تنوي تفجير مقار أمنية وقضائية وسياسية» على ما قال وزير الداخلية آنذاك الياس المر، وضع البلدة في واجهة الأحداث وجعل عائلاتها تتعاطف في شكل أو في آخر مع «الحال الاسلامية». والسبب على قول العجمي أن الخطيب «كان يشكل حالاً وطنية وقومية في موضوع الدفاع عن العراق ضد الاحتلال الأميركي، إذ قيل أنه كان يرسل شباناً إلى العراق. ولكن لم يكن عليه أي غبار في ملف أمني داخل لبنان».
ويصل العجمي «إلى العام 2006 في حرب يوليو من ذلك العام لم يحصل أي شيء، ولم يعترض الشباب الإسلاميون طريق النازحين إلى بعض القرى أو إلى سورية». ثم ينتقل إلى «السابع من مايو 2008 يومها، أحدث إقفال طريق المطار والسيطرة على بيروت (من جانب «حزب الله») رد فعل لدى الشباب والرجال، وأصابت العدوى أشخاصاً من خارج القرية».
محمد العجمي أحد المسؤولين المحليين في «تيار المستقبل» وعضو بلدية مجدل عنجر يوافق على ما يقوله رئيس البلدية ويضيف «كان عدد الشبان الإسلاميين يراوح بين 15 و20 كحد أقصى وأعمارهم لا تتجاوز 25 عاماً. لم يكونوا منظمين ويمكن القول أنهم شكلوا حالاً فردية تؤيد فكرة مشتركة. ولكن بعد أحداث مايو 2008 حصدوا كثيراً من التعاطف وازداد عددهم. فبعض المترددين قرروا الانضمام إليهم بسبب الأجواء الطائفية المشحونة».
لا ينكر محمد أن هؤلاء «من الجيل الذي تعرّف إلى الإسلام الجهادي عبر الإنترنت وليس عبر أحزاب، علماً أن معظمهم أبناء أسر فقيرة ومفكّكة ويعانون مشكلات اجتماعية واقتصادية ويهملون مدارسهم وعاطلون عن العمل».
ويروي أن «أحدهم تركه والده مع اشقائه ووالدته قبل 20 عاماً وتزوج امرأة أخرى، فاضطرت الأم إلى العمل في المنازل. وهناك آخر والده عاطل عن العمل. قد يكون الأمر بالنسبة إليهم نوعاً من الهروب إلى الأمام، لكن الأمر يقتصر على حالات فردية لا تستقطب تعاطفاً من أهالي البلدة، فنحن مع المؤسسات والأجهزة الأمنية الرسمية». ويذكر بأن القرية «فيها ضباط كبار وقضاة معروفون ومحامون لامعون ورجال أعمال مقتدرون».
«كل الناس يخطئون»
لا ينبذ أهالي القرية المتورطين في إطلاق النار على الجيش، بل يدعون إلى تفهمهم باعتبارهم مغرراً بهم ومساعدتهم قبل فوات الأوان. تلك هي حال الشيخ إبراهيم عبد الفتاح الذي يقول «كل الناس يخطئون، وإذا تعاملنا مع المخطئ بما يستحق يكون تعاملاً عادلاً ولكن إذا زادت العقوبة عن اللازم يكون ذلك ظلماً. قبل عامين قتل شابان أثناء عملية دهم للجيش، وقبل أعوام قتل الخطيب. هذا كله تراكم وولد رد فعل».
وهل يعتبر ذلك تعاطفاً معهم يجيب بحزم «كلا، بدليل أن الجيش يجول في البلدة ولا يعترضه أحد بل يتعاون معه الجميع. ولكن من حق الناس ان يطمئنوا. الملاحقون اليوم كانوا يجولون في البلدة ولا يؤذون أحداً، ولو أرادت الدولة اعتقالهم لفعلت ذلك من دون ضوضاء وبسهولة». ويكرر الشيخ عبد الفتاح أن «تطرف هؤلاء الشباب سببه أنهم فقراء جداً، والتضييق على الناس يجعلهم يتمردون أكثر. أحد الشبان مثلاً قتل من أجل حفنة دولارات لأنه كان يهرب علب التبغ إلى جانب عمله النهاري».
وعن كيفية انهاء هذه الدوامة يقول رئيس البلدية «وجهاء البلدة سلّموا بعض المطلوبين العام الماضي بعد اتصالات أمنية وسياسية وروحية. سلمنا 15 شاباً تراوح تهمهم بين حيازة أسلحة وإطلاق نار وظهور مسلّح، ومعظمهم صدرت بحقهم أحكام مخففة. هناك ثلاثة أو أربعة شبان لم يسلموا أنفسهم، وهؤلاء تتهمهم الأجهزة الأمنية بإطلاق النار على الضابط والرقيب قبل أيام. هناك اليوم تعاون كامل بين أهل القرية والقوى الأمنية، ونأمل أن نتمكن من لقاء الشباب لنصل معهم إلى نتيجة».
ويروي كيفية مقتل الضابط والمجند كالآتي: «توجهت الشرطة العسكرية لإبلاغ محمود محمد عجاج بإجراء قانوني بحقه لأنه هرب من الخدمة في الجيش، ولأن أخاه واحد من الثلاثة الذين لم يسلموا أنفسهم، فحصل تبادل لإطلاق النار بين الطرفين وقتل من قتل».
لكنّ مصدراً أمنياً مطلعاً يروي الحادث بطريقة أخرى «لم يحصل إطلاق نار، واللذان قتلا لا علاقة لهما بالتبليغ. ما جرى هو اغتيال لأنّ الضابط كان في زيه المدني والأرجح أنه لم يكن في دوامه الرسمي».
بعض من يرصدون أحوال مجدل عنجر يتخوفون من أن تكون الأحداث الموسمية فيها مرتبطة بسياق أكبر، وخصوصاً أنها تزامنت مع تحرك «محور» باب التبانة ـ جبل محسن في طرابلس (الشمال) بين الطائفتين السنية والعلوية، وووقوع جريمة قتل في بلدة حوش الحريمي البقاعية. ومن هؤلاء إمام البلدة الشيخ محمد عبد الرحمن الذي يخشى أن «يكون التلكؤ أو التهاون في كشف الجناة أمراً مقصوداً لتطويع البلدة وإدخالها في نفق مظلم، وخصوصاً بعد توقيف بعض الشباب الذين لا علاقة لهم بما جرى. وهكذا يدخل الأبرياء السجن فيما المجرمون يسرحون ويمرحون». ونسأله: تطويع البلدة تمهيداً لماذا؟ فيجيب «لما ينتظره الوطن وأنتم أدرى». لا يقصد عبد الرحمن فتنة بين السنة والشيعة بل «فتنة سنية ـ سنية كما حصل في حوش الحريمي وطرابلس واليوم مجدل عنجر. هذا ما نخشاه في غياب الدولة والجيش، والمطلوب التصدي لكل من تسول له نفسه اللعب بالنار».
وعن رأيه في «الثقافة الدينية» للشباب الإسلاميين يقول «انهم يافعون كون أعمارهم لا تتجاوز 25 عاماً، ولا نعتقد أن لهم ارتباطاً خارج الحدود لأننا نعرفهم وتربوا بيننا. كما أنهم لا يتمتعون بقاعدة علمية ولا فقهية، فأكثرهم لم يتجاوز المرحلة المتوسطة». ويضيف «أعتقد أن دافعهم هو جنون العظمة وابتغاء البطولة. لقد تضخمت لديهم فكرة الجهاد إلى حد أنهم يريدون أن يجعلوا العالم كله مجاهداً ضد الباطل والظلم. لكننا نؤكد أننا نواجه عدواً واحداً هو الإسرائيلي الذي يجب أن تنصب في سبيل دحره كل القوى. أما أن يتحول الجهاد إلى الداخل كما حصل أخيراً فهذه جريمة نكراء نستنكرها بشدة، فلا أحد في البلدة، كبيراً كان أم صغيراً، إلا أصابه الضر والسوء والحزن».
«إسلاميو» مجدل عنجر إذاً لا يزيد عددهم على ثلاثين ورغم ذلك «يوصمون» قرية غير متطرفة بانتمائهم. القرية ترفض أن تنبذ أبناءها المتورطين في قتل عسكريين أحدهما ضابط، لكنّها ليست مستعدة للعيش في صراع مع الأجهزة الأمنية والجيش وتجهد للبحث عن مخرج. المهم ألا تتحول بدورها واحداً من صناديق البريد المحلية والإقليمية، وألا يصبح أهلها «وقوداً» لهذا «البريد».