| كتب المحرر الثقافي |
الشاعر الباحث ابراهيم الخالدي... حينما يتناول مسألة تخص الأدب خصوصا في شكلها التراثي، فان بحثه يكون متحركا في اتجاهات عدة، وعلى هذا الأساس جاءت محاضرته - التي ألقاها في رابطة الأدباء مساء الأربعاء الماضي تحت عنوان «الرجز والحداء بين الفصحى والعامية»، وقدمها الباحث نايف بن مطيع- باحثة عن الكثير من المدلولات الشكلية والضمنية المتعلقة بموضوع محاضرته.
كي يوضح في استهلال المحاضرة أن «الحداء»... أغنية راعي الابل اذ يسوقها الى المراعي العشيبة، ويرشدها الى الموارد العذبة، ويحثها على الاسراع في سيرها.
وأن رحلة الحداء بدأت في أدبنا العربي، واستمر حتى يومنا هذا فتياً غضاً، وان تعددت أنواعه، وتنوعت أغراضه، وتمازجت صنوفه.
كما أن «الحداء»، أهزوجة الفرسان على صهوات خيلهم، وأغنيتهم النافرة بالحماسة والرجولة، وحكاية الدم والقتام، وشرارة التزاوج بين السنابك والحصى.
وتعريفه في عهود البداوة الأخيرة... على أنه النمط الشعري الوارف الألوف الذي أعاد الشعر الى ثوبه الفضفاض، وشروطه المتساهلة، وحضنه الواسع، فأنشده حتى من لم يكن يهتم بقول الشعر، ومن لا يتقنه، وصار بحق أغنية العرب الشمولية التي لا يترنم بها الشعراء وحدهم، فشملت كل راجز، وقارض!!
وقال الخالدي: «من المعتقد أن الحداء هو أول ما عرف العرب من فنون الشعر، وأن غناءه هو أول ما عرفوه من ضروب الغناء!».
وأضاف: «كان العرب في الجاهلية لا يعدّون الرجز من بحور القصيد اللائقة بالمحترفين لقرض الشعر كالكامل، والبسيط، والطويل، وكانوا يفرقون بين القريض القصيد، وبين الرجز».
واضح أن بحر الرجز كان الغالب على نظم الحداء منذ الجاهلية، وبطريقة مقاربة لما كان سائداً في بادية الجزيرة العربية حتى وقت قريب، فينقل صاحب الأغاني عن ابن حبيب قوله: «كانت العرب تقول الرجز في الحرب، والحداء، والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى».
وفي ما يخص أشهر الجاز أوضح الخالدي أن ابن قتيبة الدينوري يجزم في كتابه «الشعر والشعراء»، أن الأغلب العجلي: «هو أول من شبّه الرجز بالقصيد، وأطاله، وكان الرجز قبله انما يقول الرجل منه البيتين أو الثلاثة اذا خاصم أو شاتم أو فاخر»، وقال عنه الآمدي: «هو أرجز الرجّاز، وأرصنهم كلاماً، وأصحّهم».
وبدأ الحداء في فلوات البادية، وهو «اكتشاف» عربي مُضري كما وردت عن ذلك الأخبار، وكان وجود الحادي من أساسيات القوافل المرتحلة عبر الصحراء، وأهم أدوات الرعاة الحاذقين، وأجمل فنون الغزاة المحاربين.
وذكر الخالدي أن النبي «صلى الله عليه وسلم» أقرّ العرب على حداء ابلهم، وأراجيزهم يوم الحرب، وذلك بأدلة لا يخالطها الشك.
واستمر الحداء في العصور التي تلت عهد النبي «صلى الله عليه وسلم»، وظلت أصداء الرجز تتردد في الفتوحات والمعارك الكثيرة التي خاضها المسلمون، وفي الفتن التي حدثت بينهم.
واستمر الحداء والرجز في العصر الأموي مع استمرار الفتوحات، والمعارك، وصار للرجز شعراء متخصصون في هذا العصر يفدون على الخلفاء، ويمدحونهم بأراجيزهم.
وما اشتهر حادٍ في صدر الاسلام مثل سلام الحادي، الذي كان يضرب المثل بحدائه، وكان من خاصة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
وفي العصر العباسي دخل الرجز مجالاً جديداً من خلال ولوجه بوابة التعليم، فسرعان ما اكتشف العلماء سهولة هذا البحر، وقربه في السلاسة من الكلام العادي، وكثرة زحافاته، وعلله ما مكن من جعله قالباً لما يريدون من كلام، فاستخدموه في تأليف منظومات شعرية عرفت بالأرجوزات أو الأراجيز العلمية، وتنوعت موضوعاتها في معظم العلوم، خصوصا علوم الدين، واللغة، وبقية العلوم الأخرى، وذلك لتسهيل حفظها على المتعلمين، والتغني بها، واستذكارها وقت الحاجة.
كما تحدث الباحث عن حداء الخيل... الذي قيل في الغالب من قبل فرسان لم يعرفوا بنظم الشعر، ولكنهم كانوا يرتجلون البيت والبيتين في ساحة الوغى.
ورغم أنه قد يتبادر الى الذهن أن حداء الخيل في الأساس له غرض رئيسي هو بث الحماس في نفوس المقاتلين الا أن سهولته على النظم، وسلاسته في القول والسماع شجعت الشعراء على استخدام هذا النمط في أغراض أخرى بعضها ظل يدور في مناخات النزال والحروب كالفخر بالنفس والقبيلة، والتهديد، والتحذير، وصف الانتصار على الأعداء وأحداث المعارك، وطلب النجدة واجابتها، وتشعب بعضها نحو مناخات مقاربة كالمدح، والهجاء، والدعاء، والنقائض، والمساجلات والرثاء، والتغزل بالمحبوبة وقت الحرب، وابتعد بعضها عن هذه المناخات، فوجدنا أمثلة من حداء الخيل في النصح والحكمة والاستئذان والشكوى والدعاء، والغزل الصرف، والمداعبة.
كم أن «الهوبال» و«العوبال»... ضربان متقاربان من الشعر البدوي يعيدان الحداء الى علاقته القديمة بالابل، فيرتجل راعي الابل أبياتاً قليلة العدد خفيفة الوزن ليطرب نفسه، وابله، ومنه ما يقال عند ورود الماء.
وغالباً ما يكون هذا الضرب على وزن خفيف: (مستفعلن مستفعل)، وهي تتخذ من الشطر الواحد وحدة مستقلة بقافية ثابتة، وليست على نظام الشطرين.
وأشار الخالدي الى الفنون المقاربة للحداء في بعض الأقاليم مثل الحجاز، واليمن، والعراق، وبلاد الشام، ومصر، وبلاد المغرب، والحداء في الشعر المعاصر.
وختم الخالد بحثه بأحديات الشيخ سالم المبارك الصباح حاكم الكويت التاسع المتوفى سنة 1921م، ليقرأ أحدية قالها في معركة الجهراء:
يا ربعنا ضاع الجميل
معروفنا... كلٍّ نساه
ما يسلم الاّ من يعيل
واللي سكت كلٍّ وطاه
يا ربعنا.. ضاع الدليل
والصبر مدري وش وراه
الشاعر الباحث ابراهيم الخالدي... حينما يتناول مسألة تخص الأدب خصوصا في شكلها التراثي، فان بحثه يكون متحركا في اتجاهات عدة، وعلى هذا الأساس جاءت محاضرته - التي ألقاها في رابطة الأدباء مساء الأربعاء الماضي تحت عنوان «الرجز والحداء بين الفصحى والعامية»، وقدمها الباحث نايف بن مطيع- باحثة عن الكثير من المدلولات الشكلية والضمنية المتعلقة بموضوع محاضرته.
كي يوضح في استهلال المحاضرة أن «الحداء»... أغنية راعي الابل اذ يسوقها الى المراعي العشيبة، ويرشدها الى الموارد العذبة، ويحثها على الاسراع في سيرها.
وأن رحلة الحداء بدأت في أدبنا العربي، واستمر حتى يومنا هذا فتياً غضاً، وان تعددت أنواعه، وتنوعت أغراضه، وتمازجت صنوفه.
كما أن «الحداء»، أهزوجة الفرسان على صهوات خيلهم، وأغنيتهم النافرة بالحماسة والرجولة، وحكاية الدم والقتام، وشرارة التزاوج بين السنابك والحصى.
وتعريفه في عهود البداوة الأخيرة... على أنه النمط الشعري الوارف الألوف الذي أعاد الشعر الى ثوبه الفضفاض، وشروطه المتساهلة، وحضنه الواسع، فأنشده حتى من لم يكن يهتم بقول الشعر، ومن لا يتقنه، وصار بحق أغنية العرب الشمولية التي لا يترنم بها الشعراء وحدهم، فشملت كل راجز، وقارض!!
وقال الخالدي: «من المعتقد أن الحداء هو أول ما عرف العرب من فنون الشعر، وأن غناءه هو أول ما عرفوه من ضروب الغناء!».
وأضاف: «كان العرب في الجاهلية لا يعدّون الرجز من بحور القصيد اللائقة بالمحترفين لقرض الشعر كالكامل، والبسيط، والطويل، وكانوا يفرقون بين القريض القصيد، وبين الرجز».
واضح أن بحر الرجز كان الغالب على نظم الحداء منذ الجاهلية، وبطريقة مقاربة لما كان سائداً في بادية الجزيرة العربية حتى وقت قريب، فينقل صاحب الأغاني عن ابن حبيب قوله: «كانت العرب تقول الرجز في الحرب، والحداء، والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى».
وفي ما يخص أشهر الجاز أوضح الخالدي أن ابن قتيبة الدينوري يجزم في كتابه «الشعر والشعراء»، أن الأغلب العجلي: «هو أول من شبّه الرجز بالقصيد، وأطاله، وكان الرجز قبله انما يقول الرجل منه البيتين أو الثلاثة اذا خاصم أو شاتم أو فاخر»، وقال عنه الآمدي: «هو أرجز الرجّاز، وأرصنهم كلاماً، وأصحّهم».
وبدأ الحداء في فلوات البادية، وهو «اكتشاف» عربي مُضري كما وردت عن ذلك الأخبار، وكان وجود الحادي من أساسيات القوافل المرتحلة عبر الصحراء، وأهم أدوات الرعاة الحاذقين، وأجمل فنون الغزاة المحاربين.
وذكر الخالدي أن النبي «صلى الله عليه وسلم» أقرّ العرب على حداء ابلهم، وأراجيزهم يوم الحرب، وذلك بأدلة لا يخالطها الشك.
واستمر الحداء في العصور التي تلت عهد النبي «صلى الله عليه وسلم»، وظلت أصداء الرجز تتردد في الفتوحات والمعارك الكثيرة التي خاضها المسلمون، وفي الفتن التي حدثت بينهم.
واستمر الحداء والرجز في العصر الأموي مع استمرار الفتوحات، والمعارك، وصار للرجز شعراء متخصصون في هذا العصر يفدون على الخلفاء، ويمدحونهم بأراجيزهم.
وما اشتهر حادٍ في صدر الاسلام مثل سلام الحادي، الذي كان يضرب المثل بحدائه، وكان من خاصة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
وفي العصر العباسي دخل الرجز مجالاً جديداً من خلال ولوجه بوابة التعليم، فسرعان ما اكتشف العلماء سهولة هذا البحر، وقربه في السلاسة من الكلام العادي، وكثرة زحافاته، وعلله ما مكن من جعله قالباً لما يريدون من كلام، فاستخدموه في تأليف منظومات شعرية عرفت بالأرجوزات أو الأراجيز العلمية، وتنوعت موضوعاتها في معظم العلوم، خصوصا علوم الدين، واللغة، وبقية العلوم الأخرى، وذلك لتسهيل حفظها على المتعلمين، والتغني بها، واستذكارها وقت الحاجة.
كما تحدث الباحث عن حداء الخيل... الذي قيل في الغالب من قبل فرسان لم يعرفوا بنظم الشعر، ولكنهم كانوا يرتجلون البيت والبيتين في ساحة الوغى.
ورغم أنه قد يتبادر الى الذهن أن حداء الخيل في الأساس له غرض رئيسي هو بث الحماس في نفوس المقاتلين الا أن سهولته على النظم، وسلاسته في القول والسماع شجعت الشعراء على استخدام هذا النمط في أغراض أخرى بعضها ظل يدور في مناخات النزال والحروب كالفخر بالنفس والقبيلة، والتهديد، والتحذير، وصف الانتصار على الأعداء وأحداث المعارك، وطلب النجدة واجابتها، وتشعب بعضها نحو مناخات مقاربة كالمدح، والهجاء، والدعاء، والنقائض، والمساجلات والرثاء، والتغزل بالمحبوبة وقت الحرب، وابتعد بعضها عن هذه المناخات، فوجدنا أمثلة من حداء الخيل في النصح والحكمة والاستئذان والشكوى والدعاء، والغزل الصرف، والمداعبة.
كم أن «الهوبال» و«العوبال»... ضربان متقاربان من الشعر البدوي يعيدان الحداء الى علاقته القديمة بالابل، فيرتجل راعي الابل أبياتاً قليلة العدد خفيفة الوزن ليطرب نفسه، وابله، ومنه ما يقال عند ورود الماء.
وغالباً ما يكون هذا الضرب على وزن خفيف: (مستفعلن مستفعل)، وهي تتخذ من الشطر الواحد وحدة مستقلة بقافية ثابتة، وليست على نظام الشطرين.
وأشار الخالدي الى الفنون المقاربة للحداء في بعض الأقاليم مثل الحجاز، واليمن، والعراق، وبلاد الشام، ومصر، وبلاد المغرب، والحداء في الشعر المعاصر.
وختم الخالد بحثه بأحديات الشيخ سالم المبارك الصباح حاكم الكويت التاسع المتوفى سنة 1921م، ليقرأ أحدية قالها في معركة الجهراء:
يا ربعنا ضاع الجميل
معروفنا... كلٍّ نساه
ما يسلم الاّ من يعيل
واللي سكت كلٍّ وطاه
يا ربعنا.. ضاع الدليل
والصبر مدري وش وراه