| نادين البدير |
كالجو السائد صارت الحياة. كالطقس. كالمناخ الذي انقلب. فصل صيفي يمتد طوال العام. بلا خريف. بلا شتاء، نحن نعشق الصيف والربيع، وتولع دواخلنا بالخريف والشتاء. بكل الفصول، الشتاء قارس رغم ذلك ورغم وصف الخريف بالكئيب ورغم أشجار الشتاء العارية وألوانه الرمادية المعتمة لكننا مولعون بالتغيير الذي يحدث، عندما تتحول الدنيا إلى عجوز طاعنة. بدواخلنا هوى لتلك العجوز الشتوية، العجوز تشعرنا بالأمان، تشعرنا بالدفء. نرتدي الصوف ونحتمي في منازلنا أمام المواقد. يلتف الأطفال حول الجدة لتخبرهم حواديتها، ويتجمع الأقارب سوية أكثر من أي وقت من السنة فليس هناك الكثير من خيارات التنزه في فصل البرد، لم نعد نشهد هذا الشتاء التقليدي، بعد أن ارتفعت حرارة الجو وصرنا نعيش فصلا أو فصلين، صار طقسنا كحياتنا مكونة من فصل واحد. هو فصل الشباب. أما الكهولة فشطبها هوسنا بالجمال والشباب من القاموس الزمني. لا أحد يريد أن يصبح عجوزا. ليس هناك امرأة تريد الاعتراف بأن عمرها قد تعدى الستين، كلهن يردن العودة مراهقات، يرتدن عيادات التجميل المنتشرة في العالم العربي، ينفخن ويشفطن ويقضين على أجمل فصول العمر.
من الصحي والجميل أن تعتني المرأة بنفسها فتبقى محافظة على وجه نضر وجسد ممشوق ونظام غذائي منتظم يعكس رقي حياتها، لكن من القبيح أن تمارس اضطهادنا فتفقدنا مشهدها الدافئ في الستين أو السبعين. وما الضرر لو جمعت الجسد الأنيق مع إبقاء علامات السن كما هي. لما يجهدون لاختراع كريمات إخفاء علامات السن؟
ما عيب تلك العلامات؟ ولماذا هي عدو لدود؟ كيف لا نفاخر بعلامات وجودنا في الدنيا، بعدد سنواتنا على الأرض؟
أتناقش مع أصدقاء عن فقداننا لنموذج جدتنا القديمة التي زينت علامات السن وجهها ولم تحاول يوماً إخفاءها. اتفقنا جميعاً أننا افتقدناها كامرأة تشعرك نظرة منها أن الدنيا كلها تقف إلى جانبك.
مشهد كبار السن مريح، ملمسهم باعث على الدفء، مشهدهم يبث الأمان والطمأنينة بالنفس ويبعد القلق. فالحياة مديدة وهناك أشياء كثيرة بانتظارنا، هناك أمور أخرى سنقوم بها غير التنافس والتسابق على الأرشق والأحلى، هناك مستقبل سيكون حافلا بالمنجزات، حافلا بالحكمة، مشهدهم يذكرك بألا تنشغل بتوافه المشاكل فمسألة عدم انسجامك مع الدنيا هي مسألة طبيعية موقتة عائدة لصغر سنك وحداثتك بها، كل ذلك سينتهي وسيصبح ماضيا، وسيحل محله هدوء وسكون وانسجام أبدي مع الدنيا. انظر لغالبية كبار السن وستجد في قسماتهم ذلك التصالح العجيب مع الحياة بمحاسنها ومساوئها. دليله علامات التقدم في الوجه التي شوهها مصممو الوجوه فسموها (تجاعيد) ستفهمك تلك العلامات أمورا كنت تجهلها عن الدنيا
لكننا اليوم لم نعد نراهم كثيراً (على الأقل في بعض المناطق) فالستيني يصبغ شعره كل يوم حتى لا يشيخ مطلقاً، والستينية لا تشيب ووجهها ملأته العمليات بطريقة تحيرك إذ توحي بتصميم إنساني جديد صنعه الأطباء، خلق غير طبيعي تحتاج لمدة طويلة كي تستوعبه وتتعامل معه بأريحية دون أن تتفحص التواءاته وانتفاخاته المبتذلة كلما نظرت إليه.
عمليات التجميل كشفت لنا أن نسبة مخيفة غير راضية عن شكلها الخارجي وغير واثقة منه،كشفت عن كراهية لا محدودة للتقدم في العمر وخوف حقيقي منه لماذا يخافون الصعود والتقدم؟
لأنهم لا يشعرون بالأمان. لا شيء في بلداننا العربية مصمم للمتقدمين في السن، كل شيء متوافر لأجل الشباب فقط وكأن من يصل الستين قد انتهى وقته الافتراضي وأصبح غريباً أو فائضاً في بلدان أخرى متقدمة ستجد أن كل ما بالحياة من مرافق مستعد لاستقبال العجوز حتى سنواته التسعين وحتى ما فوق المئة... كل شيء متوافر لرجل وامرأة التقاعد.ليس لديهم خوف من ولوج هذا العمر المتأخر بل بإمكانهم التباهي به. فكل ما أنجزوه بسنواتهم السابقة ستظهر نتائجه اليوم وستنتهي حياتهم وهم في قمة هرم العمر، وعلى العكس هنا. إذ لا شيء مهيأ لسنوات التقاعد. البعض يموت نفسياً ويسقط نحو قاعدة الهرم عند الستين وآخرون في السبعين حتى لو كانوا نشطاء فيزيائياً. رغم أن العجوز الحقيقي برأيي هو فاقد القدرة على العطاء. عاجز عنه. وفق هذا التعريف ستجد أن العجائز يملأون الأرجاء العربية. عجائز في العشرين وفي الثلاثين يهملون أجسادهم ويرفضون تشغيل عقولهم. هل هناك كريمات لإزالة علامات الكسل والتجعد والتأخر عن التفكير؟
في الغرب تقود امرأة سبعينية أو ثمانينية دراجتها وتدور في أنحاء المدينة بقمة نشاطها. وقد تتطوع بإحدى الجمعيات. ويبدأ السياسي المتقاعد رؤية مختلفة للحياة ويقرر خوض مشوار جديد وهو في الثمانينات. ونحن نقول للمتقدم في العمر (أحسن خاتمتك) فنوجعه كل يوم بتذكيره أنه على مشارف الموت. نعيب على امرأة طاعنة تفكر بحيوية، ونتساءل عن دورها بعد أن كبر أبناؤها وتزوجوا جميعاً. لذلك هي لا تريد أن تشيخ، لكني أريدها أن تشيخ ليزداد جمال المكان، أريدها أن تعلن الخريف لنرى الألوان النادرة التي لا تظهر سوى بهذا الفصل الفنان، أريدها أن تعلن كل فصول العام لتتحقق العدالة ويصبح تعريف الجمال قرارها الخاص لا قرار التجار والأطباء
حيث أكتب مقالي الآن لا تعيش نسبة كبيرة من كبار السن، فالغالبية هم من الشباب والشابات. المكان الذي يخلو من كبار السن أو يخلو من مقومات الحياة المناسبة للكبار مكان مخيف. لا تثقوا به أبداً.


كاتبة وإعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com