اقرأ وتابع ما شئت أن تتابع، اعمل مسحاً شاملاً حول إبداعات الشباب في بلادي، ناظر حولك تكاثر المعارض لأي منتج فني حرفي أنتجه شاب أو شابة في بلادي، ما الذي تلاحظه في عروض الشبابيين؟
ضع في اعتبارك أنهم هم الصف الثاني الذي سيتولى التصدر لبناء الوطن بعد الرعيل الأول الذي سينقضي لا محالة، تأتيني رسائل على هاتفي النقال مثل غيري من الناس، أقرؤها وإذا هي دعوات من هنا وهناك لزيارة المعرض الفلاني وغيره، كلها منتجات يدوية فنية اختزلت عقول شبابنا في ما يظنون أنه إبداعا وما هو على الحقيقة بإبداع وحتى لو فرحنا به وأطلقنا عليه تجاوزاً أنه تميز وإبداع فلا يمكن أن نقبل أن تنتشر في أواسط الشبابيين حصر مفهوم الإبداع في صناعات مبتكرة أو غير مبتكرة في ما هو استهلاك مادي فني حرفي صرف!
عزيزي القارئ أنا لا أقلل من قيمة ما يجتهدون به، بل إن في معاجم اللغة يطلقون على كل ما هو جديد إبداعاً، وكل ما هو ليس بجديد حينما يتم تطويره وتحسينه فإنه عند اللغويين أيضاً إبداع...
أنا أعلم ذلك يقيناً، في المقابل أنا أتأمل السر، قل عنه خفيّاً إن شئت! في كون الشباب قد انحصرت إبداعاتهم في الحرفية والمهارات اليدوية، بينما الصناعة الفكرية والثقافية لا تجد لها ذكراً ولا وجوداً وإن كان فإنما هو قليل في نادر!
تساءل معي عزيزي القارئ لماذا نفتقد إبداعات فكرية وثقافية خلاقة بين الشباب؟! لماذا الكل يتوجه نحو الإبداع في أصناف الأكل والآيس كريم ونوعيات الكاكاو والعصائر، وتزيين الصحون للاستقبالات النسوية، وفرشات استعدادات المتزوجات للولادة، وفي تصميم الأزياء والملابس، وغير ذلك من اختزال لعقول شبابنا وإهدار ثروتهم العقلية فيما لا يضيف للمجتمع شيئا مطلقاً، لماذا هذا الاختزال، وهل هو مقصود أم عفوي، هل لأننا نفتقر لنماذج الإنجاز المتميز نجد أنفسنا نفرح بكل مقبل؟ بل وثقافة الأسر تصفّق وتطبّل لابنها أو لفتاتها إن هي أجادت في الاشتراك بمعرض لعرض بضاعتها الإبداعية!
أنا في تصوري أن المبدع هو من يضيف لمجتمعه على غير مثال سابق، نحن بصراحة لا نريد نسخاً مكررة تقليدية تدور في صندوق مألوفات الناس، حتى لو انبهر به المنبهرون، حتى لو التقفه الملتقفون، لنسأل أنفسنا دوماً هل جديد ذاك الشاب مما يضيف ويساهم في تنمية البلاد ويغير ثقافات الناس، هل هو من الصناعة العلمية التنموية التي تخدم بناء الشخصية الكويتية نحو الانضباط بحق المواطنة، هل أضافت شيئاً لتخليصنا من آفات اللهث وراء حقوقنا والإعراض عن تأدية ماعلينا من واجبات؟
أنا أتوقع أن كثيرين سيخالفونني الرأي ولا ضير من ذلك فالعصف الفكري والتفكير بصوت مرتفع لا نسأم منه أبداً، بل إنه احدى وسائل التفكير الإبداعي الذي ينتج فكراً جديداً لبلادنا، لنحمي به شبابنا، أنا أدرك أن الإبداع الفكري والثقافي هو بلا شك أصعب وأكثر جهداً وبذلاً من الإبداع على المستوى الفني والحرفي، والكل يدرك أن الإبداع في مجال الثقافة يحتاج إلى ثروة كبيرة من العلم وسعة الأفق وقواعد للتفكير مغايرة يحملها المبدع ويتميز بها عن غيره من الناس، ونحن نؤمن أن الإبداع الفكري قد يحتاج لأعوام من العمر حتى ينضج وتتبلور ثمرته.
نحن لا نطمح إلى أن نرى بين شبابنا مفكرين ولا قادة للرأي، وإن كنت أتلمس ذلك في القليلين عن قرب، عامل الزمن مهم في بنائه للمتميزين فكرياً، ولكن لا أقل من أن نشهد في أواسطهم كاتباً مبدعاً، مؤلفاً لأدب قصصي، شاعراً مبهراً، مدرباً تنموياً، داعياً غير تقليدي بلغة خطابه الديني، عريفاً منظماً ومنظّراً متميزاً، متحدثاً مفوّهاً مؤثراً، قائداً في صالونه ومنتداه لتطوير الشباب مثله، صاحب حركة تجديدية تنتشل الناشئة من حمأة التشويش التقني...
يبدو حسبما تنامى لسمعي أن هناك مجموعات مجتهدة في هذا المجال من الإبداع الفكري ولست متعجلة في نضجها، وأنا أتروى في أن أكحّل ناظري وعقلي بحصاد ثمرتها، ولكن تلك الصرعة المكتسحة هي في الحقيقة مخيفة!
سألت أستاذي الذي يدرسني مادة (الإبداع في حل المشكلات) هل لأن الناس في مجتمعاتنا الشرقية متعطشة لحركة النهضة والخروج من عقدة أننا دول نامية، هل هذا التعطش يجعلهم يستقبلون كل جديد للشباب بالتطبيل والتزمير والافتخار، مع أنها إبداعات بسيطة لا ترقى المجتمعات بها، أم أن تلك البسائط هي حقاً إبداعات تستحق الإشادة والتشجيع له؟
لا أخفيك عزيزي القارئ فلقد استغرب أستاذي من سؤالي ويبدو، مع كامل تقديري له، أنه أيضاً يدور مع الدائرين في ركب التعطش للنظر بعين الاعتبار لكل صناعة منتج شبابي جديد!
نحن لا نريد أن نكون كالنعامة في دفن رأسها وإبراز كتلة جسدها أمام الناس، نحن لا نريد أن نسمي الأشياء بغير مسمياتها ونأسف كل الأسف أن الإعلام يتقصّد تقصداً تسليط الضوء على بسائط الإبداع وكثير من الناس يستقبلون دون مجهرية في ما يرسل لهم، لذا تجد التركيز واضحاً على فتاة صممت لها فستانا سميناه إبداعاً، وشاب خلط أنواع العصائر على بعضها تنادينا بتميزه، وألصقت فتاة فصوصاً أيّاً كان نوعها على حذاء وغيره من أنواع الصنادل اعتبرناه إنجازاً، طاولة يباع عليها منتجات خشبية من شباب هللنا وصفقنا له!
معذرة عزيزي القارئ كثير من الناس في بلدي عطشى بسبب عمق الإحباط في نفوسهم لذا فمن يكن مغتماً يفتش عن شيء يلهيه ويسعده. الناس في بلدي عاجزة عن الأخذ بيد التنمية الكبرى لذا فهي فرحة بإبداعات لا أقدر أن أطلق عليها تنمية صغرى!
أعتقد جازمة أن كثيراً منا بحاجة إلى إعادة تأهيل للمدخلات الفكرية والثقافية نحو مفهوم الجد والجدة والاجتهاد الإبداعي حتى نضمن استثمارات فكرية ذات إبداعات تنويرية.

هيام الجاسم
kalam61@windowslive.com