حسب المنطلق الأيدولوجي نرسم مفرداتنا للتعبير عن قناعاتنا، فيمن يعتبر العولمة جزءاً أصيلاً من تطور المرحلة الحالية في بلادنا، ويربط سيادة المجتمعات وبقائها عقوداً وقروناً مقرونة بمدى التصاقها وتشربها لتلك العولمة الساحرة للألباب، بل ويصوّرها على أنها هي المخرج من التخلف والرجعية التي تفرضها الجماعات الإسلامية في مجتمعنا، وأيضاً حسب المنطلق الأيدولوجي العقدي الديني فيمن يرفضها ويسعى جاهداً لقطع الطريق على كل من يصيّرالعولمة ثقافة وحياة في واقع العباد في البلاد.
التغريب والعولمة مفردتان مترادفتان في المعنى والمفهوم، بل والمقصد والمنطلق، ولا عزاء لمن يحاول أن يلطّف الفكر التغريبي بعبارات تجميلية رقراقة!
بعيداً عن التنظير فالعولمة تعني تعلق قلبك وفكرك وحياتك بكل ما يبعدك عن هوية بلدك ومبادئ دينك فتصطبغ تدريجياً بأفكار لا منهجية شرعية لها، بل ومخالفة لأحكام الإسلام، ويستدرجونك للانسلاخ بمخالب ناعمة تحت قناع الحرية الشخصية، وتحت مظلة تلاقي الحضارات!
منذ زمن طويل وعبر ثلاثين عاما مضت وأنا أقرأ في قضايا التغريب وسلخ الهوية عن البلاد والعباد، لم أجد قائداً للرأي حصيفاً قد نادى بتشرب العولمة وقبول تغريب فكر الشباب! لم أجد صاحب مواطنة حقيقية معجب بانسلاخ المجتمعات عن أصالة هويتها العربية والإقليمية والمحلية، لم أجد صاحب فكر ممتلئ الذهن بعالمية الإسلام وشموليّته يمدح ويثني ويمجّد العولمة!
خطّان متضادّان لا يمكن أن يلتقيا ولا أن يتناغما... سيادة المجتمعات وتشرّب التغريبات! أبداً ومطلقاً ونهائياً فهذا هو الحراك التاريخي للمجتمعات كافة بين يديك، ابحث برويّة عن مجتمع ساد وفاق وتقدم وتحضّر حينما انسلخ عن منطلقه الأيدولوجي مع اختلاف مشارب الدول والمجتمعات، وحتى لو ساد مجتمع منسلخ إلا وتجده عبر قرون تقدمت قد باد وتلاشى أو هو الآن في طريقه إلى التلاشي! والدول تقاس بالقرون لا بالأعوام.
عزيزي القارئ كلمة العولمة مفردة لطيفة مطربة للاذن في مبناها ولكن في حقيقة معناها هو خطر ماحق قاصم للبلاد والعباد! العولمة يمكنك أن تدير عقلك لتصوّرها لنفسك على أنها التقنية الحديثة والتطور المعرفي، فكل من يريد أن يجرّ فكر الأمة إلى الاصطباغ بها تجده يدندن للشباب حول العلم واللحاق بالركب والتفجر المعرفي والتقني وهيا بنا لنلهث وراء كل ذلك حتى لا يتهمنا الغرب على أننا مخرّفون ومتخلّفون ورجعيّون!
عزيزي القارئ من هذه البوابة وتحت هذه المظلة يقنعون من تنطلي عليه تلك الانطلاءات الزخرفية الخاوية في جوهرها، فيبدأ شيئاً فشيئاً ينصرف إلى ما يتظاهرون به من التمدّن والمعاصرة، وزد ماشئت من المصطلحات التغريبية الوهمية!
من منطلق المخاوف على هوية البلاد عند المحافظين وشريحة المتديّنين تنتابهم ردة فعل جامحة فيمنعوا أو يتحفظوا تجاه كل جديد قادم، ويرفض بعضهم إدخاله للبيوت تحت شعار «إنه لخطر عظيم لو تعلمون»!
لا ذاك المتيّم والمحب للعولمة بسائر في طريق صحيح إذ هو يغبن ويخدع نفسه من حيث لا يدري وإن كان يدري فالخطب جلل وإن كان داعياً لعولمته فالخطب أجلّ وأعظم! ولا ذاك الرافض لكل جديد والممتنع خشية تأثير العولمة على أولاده، أيضاً ما هو بسائر نحو الصحة في تحفظاته. الأصل في المسألة أن نتعامل مع الصناعات المادية بقبول لها دون أن نسمح لغزو عقولنا بالصناعات الفكرية المخالفة لديننا والسالخة لهويتنا وذلك هو التحدي الكبير!
في مجال الدراسات الاجتماعية الميدانية دوماً يكون التركيز في مبادي الدراسة على رصد المظاهر المجتمعية التي نعتبرها مؤشرات تنبئ معدّ الدراسة بمدى طفو ذلك المظهر السلبي على سطح المجتمع.
المؤشرات لقبول الاصطباغ بالعولمة في مجتمعنا إنما هي مؤشرات رهيبة وواقع محزن! العولمة بدت في أحاديث شبابنا، العولمة مخترقة لأسواقنا وبالتالي الاختراق باد في لباس عيالنا، أولادنا هجروا المطاعم الشرقية ووجهوا قبلتهم باتجاه المطاعم الغربية، غزو العقول والبطون سوية! العولمة مكتسحة في انعدام التوازن فيما نقبل ونرفض من حضارة الغرب وفكره، بات الناس في بلادي مولعين بالمسلسلات المدبلجة، إنها رمز لاستنساخ نماذجهم المغتربة لشبابنا، صرعات التصميم للأزياء تحت شعار إبداعات الشباب في بلادي، اللغة العربية بات التندّر والتّنمدل والتمسخر بها قاب قوسين أو أدنى بل واستبدالها بلغات التغريب والعولمة بادياً في التواء الألسنة وأعجميّتها!
العولمة لا تسمح لمن يقترب منها أن يطفو على سطحها دون أن يغرق بها فهي صاحب ساحب، لا يهنأ لها ولا لدعاتها إلا أن يتبعها التابعون ويقدموا لها فروض الولاء والطاعة!
لذلك عزيزي القارئ إنه لتحد كبير لأن نمسك العصا من الوسط فلا نرفض كل جديد آت من طريق تلك العولمة ولا أن نقبلها كل القبول وإنما هي معادلة دقيقة حذرة... وكلما تعاظمت العولمة في نفوس الأجيال زادت مسؤولياتنا باتجاه تطوير خطابنا الديني لنكون جاذبين لا طاردين كي لا يتلقف شبيبتنا هؤلاء التغريبيون!

هيام الجاسم
كاتبة كويتية