| كتب عبدالله متولي |
«علمتني الحياة كيف أغفر للمسيء، وكيف أحب الذين يخاصمونني، فأنا لا أريد أن أختزل حقداً وأنا مقبل على الله تعالى».
هذه كلمات للمفكر الإسلامي الكبير الدكتور عبدالصبور شاهين، جاءت رداً على سؤال: ماذا تعلمت من الحياة؟ لمقدم برنامج «علمتني الحياة» الذي أذاعته قناة «المحور» المسجل في العام 2009 وأعادت بثه ليلة الاثنين 28/9/2010 بعد رحيله بيوم... فقد غيبه الموت يوم الأحد 27/9/2010، بعد حياة حافلة بالعطاء امتدت لـ 82 عاماً، خاض خلالها معارك طاحنة في الدفاع عن الدين وأثرى كذلك المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب والمؤلفات.
وفي الحوار نفسه سأله مقدم البرنامج: ما الذي تخافه على الأمة؟
فأجاب: أخاف عليها من الزعامات الفاشلة التي هي زعامات فساد ومنكر!
وسأله ثانية: لماذا لم تحصل على جائزة الدولة التقديرية؟
فأجاب: لأن هذه الأمور تحتاج الى مشاورات ومداخلات وهذا ليس من طبيعتي.
وسأله مقدم البرنامج عن أمانيه، فقال: أمنيتي أن أتمم تفسير القرآن على المنبر، لذلك لما منعت من اتمام المسيرة على منبر مسجد عمرو بن العاص، قمت ببناء مسجد لاتمام مسيرتي مع القرآن.
وقال المرحوم الدكتور عبدالصبور شاهين في سياق حواره مع برنامج «علمتني الحياة»: عندما اجتمعت مع ضياء الحق في باكستان قلت له انني أحب باكستان لأنها تمتلك قنبلة ذرية، فقال الجنرال المسلم: بل لأنها تمتلك قنبلة اسلامية، وكان هذا الحوار علنياً، بعدها اغتالت أميركا الرئيس ضياء الحق هو ومن كان معه في طائرته.
وقال أيضاً: الحمد لله ترجمت عشرين كتاباً من الفرنسية الى العربية على رأسها «دستور الأخلاق في القرآن» للدكتور محمد عبدالله دراز، وقد فاقت طبعاته العشرين، وقد قال لي ابن الدكتور دراز: إن أبي - رحمه الله - قد استعصت عليه ترجمة رسالته من الفرنسية الى العربية.
وتابع: لقد بلغت مؤلفاتي سبعين كتاباً ما بين تأليف وترجمة وتحقيق.
هذه مقتطفات من آخر حوار تلفزيوني أذيع للراحل الكبير الدكتور عبدالصبور شاهين - رحمه الله تعالى - قصدت أن أبدأ به الحديث عنه لتكون المقدمة هي بعض أقواله التي تشير بشكل كبير الى شخصيته والتي أثير حولها بعض الجدل، واختلف معه كثيرون في أمور فكرية ومنهجية، لكن اختلافهم معه لم يفقدهم احترامهم لشخصه، وتقديرهم لعلمه وفكره، وتراثه ومنهجه الدعوي.
فقد توفي رحمه الله مخلفاً إرثاً فكرياً جديراً بالبحث والتحقيق والدراسة بعد حياة حافلة بالعطاء والدعوة وأيضاً بالمعارك الفكرية، ما جعل القاصي والداني يشهد له بأنه كان صاحب مواقف وآراء، لم يحد عنها يوماً، وقد دفع ثمن مواقفه التي لم ترق الى البعض، فكان استبعاده من الخطابة بمسجد عمرو بن العاص بعد ثلاثة عشر عاماً ظل يصدح فيه بالحق، ولا يخشى لومة لائم... وكان توفيفه عن الخطابة على خلفية موقفه من آراء الدكتور نصر حامد ابوزيد عندما رفض ترقيته الى درجة أستاذ في كلية الآداب بجامعة القاهرة في العام 1993، منتقداً آراء أبوزيد التي خرجت عن اجماع الأمة والمتعلقة بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
فحين قدم أبوزيد ابحاثه بعنوان «نقد الخطاب الديني» للحصول على درجة الاستاذية للجنة تكونت من أساتذة جامعة القاهرة برئاسة الدكتور عبدالصبور شاهين الذي رفض الأطروحات في الابحاث المقدمة حول القرآن الكريم.
وكتب أبوزيد آنذاك مطالباً بالتحرر مما دعاه بـ «هيمنة القرآن» قائلاً: «وقد آن أوان المراجعة والانتقال الى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً قبل أن يجرفنا الطوفان» على حد تعبيره...
واتهم شاهين في تقريره أبوزيد بالعداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة لرفضهما. والهجوم على الصحابة وإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم، والدفاع عن الماركسية والعلمانية وعن سلمان رشدي وروايته «آيات شيطانية».
وكما كان للراحل الكبير موقف صلد مع نصر ابوزيد، قوبل كتابه «أبي آدم» بعاصفة من الجدل انتهت بدعوى تفريق بينه وبين زوجته اقامها الشيخ يوسف البدري، كما كان الراحل اقام دعوى حسبة ضد ابوزيد حصل بمقتضاها على حكم قضائي بالتفريق بينه وبين زوجته.
وعن هذه القضايا علق الكاتب الاسلامي جمال سلطان في حديث لشبكة الاعلام العربية «محيط» قائلا: لم يخسر الراحل الدكتور عبدالصبور شاهين اي معركة فكرية دخلها، فمن الناحية العلمية كان موقفه هو الصحيح دائما، فقد كان واضحا في معاركه اتباع نصر حامد ابوزيد، فكل ادعاءات جماعة نصر ايديولوجية لا تستند لاي ادلة علمية حقيقية على النقيض من ادلة شاهين الذي انصفته المحكمة ووقفت بجانبه.
وعن ابرز معاركه الفكر الخاصة بكتاب «أبي ادم» يقول سلطان: ان الراحل اجتهد بشكل قابل للحكم عليه بالصواب او الخطأ، فقد اقتحم منطقة من الصعب ان يحسم العلماء الجدل فيها بدليل قاطع مما اثار انزعاجهم لكني ارى ان ما فعله الشيخ يوسف البدري كان مبالغا فيه الى حد كبير، واذكر ان الراحل شاهين حين كان يذكر مؤلفاته لايشير الى هذا الكتاب وكأنه يعتذر ضمنيا عن تأليفه.
واضاف سلطان ان الراحل عبدالصبور شاهين قامة فكرية كبيرة في مصر والعالم الاسلامي خلال النصف قرن الماضي، فقد ترك مؤلفات اثرت المكتبة الاسلامية كما تخرج على يديه رموز ممن يحملون مشاعل الفكر الآن في مصر وخارجها، وقد خسرت الساحة الاسلامية برحيله شخصية ذات افق واسع حيث كان يدرك جميع ابعاد الخريطة الثقافية في مصر والمنطقة العربية والاسلامية فضلا عن انه يعد رمزا للمفكر الجسور الذي يقتحم مناطق شائكة ولايعبأ بتحرشات الآخرين ضده ويقدم رؤية قومية ومعتدلة بشكل مؤثر.
ومن عجائب الاقدار ان الدكتور عبدالصبور شاهين لقي ربه، عشية لقاء ثقافي جمع حشدا من دعاة العلمانيين واليساريين في مصر لتأبين نصر حامد ابوزيد، والذي لقي ربه في الخامس من يوليو الماضي.
كان الراحل مهموما بقضايا المسلمين في شتى بقاع المعمورة وفي مقدمتها قضية القدس ولم يكن غافلا عنها، وكان دائما يردد ان حلها في ايدي الحكام العرب والمسلمين الحاليين، الذين يصرون على التفاوض مع سلطات الاحتلال وغض الطرف عن سلام المقاومة، تلك الالة الفعالة التي ينبغي لها ان تجاور سلاح السياسة.
يذكر ان المفكر الراحل اول من اشترك مع زوجته في تأليف كتاب، اذ اخرجا معا موسوعة «امهات المؤمنين» و«صحابيات حول الرسول» في مجلدين.
شاهين و«مالك بن نبي»
يعتبر الدكتور عبدالصبور شاهين رحمه الله تعالى هو من عرف تبرات المفكر الاسلامي الكبير الجزائري «مالك بن نبي» ونقل مؤلفاته من الفرنسية الى العربية، والذي يعتبره شاهين صاحب مشروع اصلاحي ونهضوي يستحق الدراسة...
لذلك سنطرق الى كيفية بداية العلاقة بين شاهين «وبن نبي» والمواقف المشتركة بينهما، ومدى استفادة «بن نبي» من الحركات الاسلامية الاصلاحية التي كانت منتشرة في عصره.
من خلال عرض لاجزاء من حوار اجراه معه احد تلاميذه والمقربين منه الدكتور وصفي ابوزيد الباحث بمركز الوسطية التابع لوزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، وعن قصة تعرف شاهين بالمفكر الاسلامي «مالك بن نبي» يقول رحمه الله تعالى:
تعرفت به في ظروف تعتبر أقسى ما يواجهه شاب في حياته، فقد كنت آنذاك متخرجا في دار العلوم بالقاهرة، ودارسا في كلية التربية جامعة عين شمس، ومفرجا عني من السجن.
وشاب في مثل حالتي في ذلك الوقت لم يكن من حقه أن يعمل في وظيفة حكومية، وليس في السوق مجال للعمل الحر، ومعنى ذلك أن الاحساس بالضياع كان يحوطني من كل جانب، وأذكر أني كنت أقرأ في ذلك الوقت كل اعلانات الصحف التي تطلب عاملين، وكان من بين هذه الاعلانات اعلان للجامعة العربية عن حاجتها الى ملحقين ديبلوماسيين، وكنت ـ في مرحلة مبكرة قد درست شطرا من القانون والاقتصاد في كلية الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فتقدمت في هذا الاعلان ونجحت، ولكني لم أُعَيَّن، فقرأت ـ وكنت في الفصل الدراسي الأول في كلية التربية ـ اعلانا للاذاعة المصرية عن حاجتها الى مذيعين محررين، فتقدمت، وكان من حظي أن أكون أول الناجحين في هذه المسابقة من بين 330 متقدما، وذلك عام 1957م، ونشرت الصحف الخبر المدهش، وأرسل اليَّ مفتش المباحث العامة آنذاك بضرورة أن ألقاه، وكنا في الفصل الدراسي الأول، وذهبت ولقيني بوجه متجهم، وقال لي بعد قليل من السخرية والاستهزاء: «انت عاوز تتسلل للاذاعة من ورانا اسمع يا واد انت ما لكش عمل في البلد دي لا قبل التخرج ولا بعده انت عاوز تمارس نشاطك ضد الريس والثورة شوف لك شغله برة ».
وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها، وهي كانت تعني عندي الكثير في ذلك الوقت، وخرجت من عنده كاسف البال لا أملك دموعي، منقطع السبيل، لا أمل لي في شيء.
وفكرت في الطريق، وعزمت على أنه ينبغي ألا أيأس، فان اليأس لا يعرفه قلب المؤمن، لا سيما عندما يكون معه ما يشجعه على عدم اليأس، ولقد كنت أملك ميزة يمكن أن أستغلها، وهي معرفة اللغة الفرنسية، فقلت في نفسي بصوت خفيض تسمعه أذناي: «لو أنني عملت في حقل الترجمة من الفرنسية الى العربية لن يستطيع أحد أن يمنعني من العمل في هذا المجال، واللهِ العظيمِ لن أترك هذا البلد».
كنت في ذلك الوقت منتسبا الى كلية التربية من ناحية، والى الدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم من ناحية أخرى، والحمل ثقيل، ولكن الانسان أحيانا يشعر بأن في وسعه أن ينقل جبلا من مكانه الى مكان آخر، وفي ساحة كلية دار العلوم القديمة، وأنا ذاهب الى احدى محاضرات الدراسات العليا بدار
العلوم، في يوم من أيام مارس 1957، نادى عليَّ باسمي مَنْ لا أزال أذكره وأحمل اسمه في قلبي، تعرف اليَّ، وأخبرني باسمه: «أنا عبد السلام الهراس من المملكة المغربية»، ثم قال لي: «هل تحب أن تترجم كتابا؟» لم أكن حدثت أحدا بما دار في نفسي من العزم على الاشتغال بالترجمة؛ ولذلك فأنا ما زلت ـ بعد مرور نصف قرن على هذه الحادثة ـ مندهشا لما جرى، ما الذي ساق اليَّ هذا الرجل ليحدثني في أمر حدثت به نفسي، مجرد حديث نفس؟!
لم يكن يخامرني شك في أن الشاب عبد السلام الهراس الذي ساقه القدر اليَّ ـ لم يكن سوى حامل رسالة ملائكية، هي رسالة الرحمة الالهية التي أخرجتني من ظلمة اليأس الى ساحة الفرج، وأغلقت حانوت التحكم في مصائر العباد لتفتح بدلا منه ساحة اللطف والتدبير العلوي الحكيم.
وكانت البداية مع هذه اللحظة في كتاب: «الظاهرة القرآنية» للأستاذ مالك بن نبي، وكان قد هرب من باريس الى مصر ابَّان اعلان الثورة الجزائرية، حين شعر أن الحكومة الفرنسية توشك أن تلقي عليه القبض، فهرب الى مصر لاجئا سياسيا، ومعه مجموعة من كتبه التي كتبها بالفرنسية، ولم يكن يعلم شيئا عن العربية، وكانت خطته لكي يعيش في القاهرة أن يترجم كتبه الى العربية، ويعيش مما تدره عليه ترجمتها، هكذا فكر، وهكذا كنت قد فكرت، والتقينا على هدف واحد ونية واحدة وعزيمة واحدة، وكنت في ذلك الوقت في الفصل الدراسي الثاني من كلية التربية بالاضافة الى انشغالي بالدراسات العليا بدار العلوم، ومع ذلك فان الهم الثقيل المزدوِج لم يمنعني أن أخوض غمرات التجربة الأولى في الترجمة، فأنجزت للأستاذ مالك في الترجمة كتابه الأول: «شروط النهضة» وتم طبعه.
ويوم ذهبت لأعرف نتيجتي في كلية التربية كانت معي النسخة الأولى من الكتاب أُزْهَى بها على زملائي وأقراني، ولا أعتقد أن أحدا قد مر بمثل هذه اللحظة من السعادة التي مررت بها، حين وجدتني ناجحا في كلية التربية، ناجحا في الدراسات العليا بدار العلوم، ناجحا في الترجمة بظهور الكتاب الأول للأستاذ مالك، وكان ذلك ايذانا بأن الطريق صارت معبدة نحو المضي في طريق.
أول لقاء
وعن مواقف له مع «بن نبي» تركت أثرا في نفسه، يقول شاهين:
لا شك أنني لا أنسى ما دار بيننا في أول لقاء، وكنت قد ترجمت فصلين من كتاب «الظاهرة القرآنية» عن المذهب المادي والمذهب الغيبي، وقرأت عليه الترجمة الأولى، فما سمعت منه سوى لفظين اثنين بلهجته المغربية: «باهي»، و«الله يجازيك خير»، وتعلَّم مالك بعد ذلك العربية على يدي من خلال مراجعتنا للكتاب الأول: «شروط النهضة»، وللثاني: «فكرة الافريقية الآسيوية»، والثالث: «الظاهرة القرآنية، الى آخر الكتاب الثامن: «فكرة كومنولث اسلامي»، وبمناسبة الكتاب الثاني: «فكرة الافريقية الآسيوية» فقد ترجمته ابتداء من الاجازة الصيفية بعد ظهور نتيجة كلية التربية حتى ظهر في طبعته الأولى في 28 ديسمبر 1957م، أي أن ترجمة الكتاب وتصحيحه وطبعه واصداره كان ذلك كله في خمسة أشهر مع أن الكتاب حجمه كبير، وكنت قد عينت مدرسا للغة العربية في مدرسة السويس الاعدادية للبنين، وفي الثاني من يناير 1958م بعد ظهور الكتاب بثلاثة أيام ذهبت أنا ومالك لتقديم نسخة منه الى جمال عبد الناصر، وعليه اهداء رقيق مطبوع: «للرئيس الذي يمسك بيده مقود التاريخ» كما قال مالك، ونشر خبر ذهابنا يوم الجمعة 3/1/1958م في تشريفات رئيس الجمهورية، وذهبت يوم السبت مع ضوء الفجر الى السويس لأبدأ يوما دراسيا جديدا في عملي التدريسي، وكانت المفاجأة رهيبة ومذهلة أني منعت من دخول الفصل الدراسي، ووقعت على ورقة بالطرد من التدريس، وخرجت منها بين دموع الزملاء وسواد الرؤية المستقبلية، ومضيت الى القاهرة ولم أعد الى السويس منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
وقد انتهيت ـ بحمد الله ـ من ترجمة ما تيسر لي من كتب مالك بين عامي: 1962 و1963م، وذهب مالك الى الجزائر، وكان كثيرا ما يتردد على بيروت حيث بدأت كتبه المترجمة تنتشر في المشرق العربي، وما زالت حتى الآن.
«بن نبي» والإخوان
وعن تأثر «مالك بن نبي» بالحركات الإسلامية قال شاهين: الأستاذ مالك كانت عنده فكرة عن الحركة الوهابية، وكذلك كانت عنده فكرة عن حركة الاخوان المسلمين، لكني كنت ألاحظ أن بعض أفكاره عن الاخوان يشوبها الخطأ والتشويه؛ ولذلك تدخلت في ترجمة كتابه: «وجهة العالم الاسلامي» في تعديل فكرته عنهم، وقد كانت شديدة الانحراف والظلم، والسبب في ذلك أنه لم يكن قد عاش في زمان الاخوان، بل كان متأثرا بما كتب عن الحركة أيام عبد الناصر، وهي كتابات مغلوطة وظالمة، والذين يقولون عن الاخوان ما يقولون ـ في هذه الأيام ـ ويصدرون أحكاما جزافية على الحركة هم في الواقع متعسفون؛ لأن الاخوان منذ عام 1948م وحتى الآن في حرب مستمرة مع الأميركيين واسرائيل وأتباعهما، ومع ذلك فان جوهر الحركة لم يتغير رغم عوامل البلاء المستمر، ومن المؤكد أن تقدير الانسان المسلم لهذه الحركة تقدير عميق لا يتأثر بالأحكام الماركسية ولا العلمانية التي يصدرها بعض الكتاب الطفيليين الذين يتعيشون من وراء هجاء الاخوان.
وعلى الرغم من ذلك ستبقى حركة الاخوان المسلمين أعظم الحركات تعبيرا عن الحقيقة الاسلامية، وأقل الحركات تعلقا بالتفاصيل والجزئيات والفرعيات، وأعمق الحركات تأثيرا في وجدان المسلمين في العالم، فهم الذين قاتلوا في أفغانستان، وهم الذين حرروا شعوبا كثيرة في العالم الاسلامي، وحافظوا على الوجود الاسلامي ماثلا منتصب القامة أمام العوامل المعادية والتيارات الهدامة؛ ولذلك فاني أعتقد أن حركة الاخوان هي أصدق الحركات تعبيرا عن الأمل في بقاء الاسلام وفي انتشاره، ولو عاش حسن البنا مزيدا من العمر لحقق للأمة الاسلامية مشروع الوحدة الكبرى بجهاده واخلاصه.
ونعود الى الأستاذ مالك فأقول: انه ـ في تقديري ـ صنع نفسه بنفسه، ولم يتأثر بأي من الحركات التي كانت شائعة آنذاك لكنه كان عميق التقدير للشيخ عبد الحميد بن باديس.
أسلوب خاص
وعن الاقتباس من الثقافة الغربية من خلال مالك بن نبي، وسيد قطب، وعلي شريعتي، يقول شاهين: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة أسلوبه الخاص به؛ فمالك متأثر بطريقة التفكير الغربية الفرنسية، وعلي شريعتي له روافده الشيعية في البيئة الايرانية، وسيد قطب روافده اخوانية سجونية حيث قضى وقتا طويلا من حياته في السجن، فكلٌّ له طابعه الخاص، لكن الهدف واحد والرسالة واحدة.
وأعتقد أن مالكا لم يكن لديه صفات الزعامة، انما كان عنده صفات المفكر، أما سيد قطب فكانت له صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم، وأما علي شريعتي فكانت بيئته ـ في تقديري ـ بمثابة السجن أيضا من حوله حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى مثل مجالات أهل السنة.
وهناك أمر عجيب في كل منهم: مالك بن نبي كان مهندسا في الكهرباء، وسيد قطب كان متخصصا في الأدب والنقد، وعلي شريعتي كان متخصصا في علم الاجتماع، الا أنه جمعهم هدف واحد، وغاية واحدة هي غاية النهضة والاصلاح والفكر الاسلامي.
وأمر آخر أنبه عليه من خلال هؤلاء الثلاثة بالذات، وهو أن ثقافتهم الاسلامية والعربية بحكم البيئات التي نشأوا فيها ـ لم تمنعهم من الاطلاع على ما عند الغرب والاقتباس منه بما لا يتعارض مع مبادئ العروبة والاسلام؛ فسيد قطب تعلم كثيرا في أميركا، وحصل على الماجستير من هناك، ومالك عاش في فرنسا جل حياته ما عدا فترة اللجوء السياسي والثورة الجزائرية، وعلي شريعتي هو الآخر اقتبس من الثقافة الغربية كثيرا، وهذا دليل على أن الفطرة الاسلامية دائما تغلب كل العوامل الطارئة، والواقع أن أنموذج الأستاذ مالك دليل قاطع على ما أقوله الآن، حيث ان سفره واقامته في فرنسا هذه الفترة جعلت منه شخصية اسلامية كأنها نبتت في بيئة اسلامية.
سيرة ومسيرة
ولد الدكتور عبدالصبور شاهين - رحمه الله تعالى - في حي الإمام الشافعي بالقاهرة، في الثامن عشر من مارس العام 1928، حفظ القرآن في أحد الكتاتيب، وأتم حفظه كاملا ولم يبلغ السابعة من عمره، بعد انتهاء دراسته الابتدائية في المدرسة الإلزامية، والتحق بالأزهر الشريف في الحادية عشرة ومنه إلى كلية دار العلوم التي تخرج فيها عام 1955 ثم عمل معيداً بالكلية.
حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع «القراءات الشاذة في القرآن الكريم» حتى وصل إلى درجة الأستاذية، وكان يعد من أشهر الدعاة بمصر والعالم الإسلامي، حيث كان خطيبا بمسجد عمرو بن العاص، الذي يعتبر أكبر وأقدم مساجد مصر.
ود. شاهين عمل أستاذاً متفرغاً بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وشغل عضوية مجلس الشورى، الغرفة الثانية للبرلمان، كما عمل أستاذاً بقسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان يعد أحد رواد الدراسات اللسانية في العالم العربي، وله بعض الكتب التي تتضمن أبحاثاً لغوية.
ولذلك قام الراحل الكبير بتأليف أكثر من 70 كتابا من بين مؤلفات وتراجم، وكما كان يترجم عن الفرنسية، ترجم اليها من اللغة العربية، ومن أشهر مؤلفاته مجموعة «نساء وراء الأحداث»، ومجموعة «أبي آدم»، كما أنه شارك في إعداد العديد من رسائل الدكتوراه والماجستير.
ومن أهم أعماله «ميلاد مجتمع سلسلة مشكلات الحضارة»، و«دستور الأخلاق في القرآن»، و«مفصل آيات القرآن»، و«الظاهرة القرآنية»، و«تاريخ القرآن»، ومن أشهر تلاميذه الراحلة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ).
آراء وأقوال
• مالك بن نبي لم يكن لديه صفات الزعامة
إنما كانت عنده صفات المفكر.
• سيد قطب كانت لديه صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم
• علي شريعتي كانت بيئته بمثابة السجن من حوله
حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى.
• أخاف على الأمة الإسلامية من الزعامات الفاشلة
التي هي زعامات فساد ومنكر.
• سلاح المقاومة آلة فعالة ينبغي لها أن تجاوز سلاح السياسة في قضية القدس.
• لو عاش حسن البنا مزيداً من العمر لحقق
للأمة الإسلامية مشروع الوحدة الكبرى
«علمتني الحياة كيف أغفر للمسيء، وكيف أحب الذين يخاصمونني، فأنا لا أريد أن أختزل حقداً وأنا مقبل على الله تعالى».
هذه كلمات للمفكر الإسلامي الكبير الدكتور عبدالصبور شاهين، جاءت رداً على سؤال: ماذا تعلمت من الحياة؟ لمقدم برنامج «علمتني الحياة» الذي أذاعته قناة «المحور» المسجل في العام 2009 وأعادت بثه ليلة الاثنين 28/9/2010 بعد رحيله بيوم... فقد غيبه الموت يوم الأحد 27/9/2010، بعد حياة حافلة بالعطاء امتدت لـ 82 عاماً، خاض خلالها معارك طاحنة في الدفاع عن الدين وأثرى كذلك المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب والمؤلفات.
وفي الحوار نفسه سأله مقدم البرنامج: ما الذي تخافه على الأمة؟
فأجاب: أخاف عليها من الزعامات الفاشلة التي هي زعامات فساد ومنكر!
وسأله ثانية: لماذا لم تحصل على جائزة الدولة التقديرية؟
فأجاب: لأن هذه الأمور تحتاج الى مشاورات ومداخلات وهذا ليس من طبيعتي.
وسأله مقدم البرنامج عن أمانيه، فقال: أمنيتي أن أتمم تفسير القرآن على المنبر، لذلك لما منعت من اتمام المسيرة على منبر مسجد عمرو بن العاص، قمت ببناء مسجد لاتمام مسيرتي مع القرآن.
وقال المرحوم الدكتور عبدالصبور شاهين في سياق حواره مع برنامج «علمتني الحياة»: عندما اجتمعت مع ضياء الحق في باكستان قلت له انني أحب باكستان لأنها تمتلك قنبلة ذرية، فقال الجنرال المسلم: بل لأنها تمتلك قنبلة اسلامية، وكان هذا الحوار علنياً، بعدها اغتالت أميركا الرئيس ضياء الحق هو ومن كان معه في طائرته.
وقال أيضاً: الحمد لله ترجمت عشرين كتاباً من الفرنسية الى العربية على رأسها «دستور الأخلاق في القرآن» للدكتور محمد عبدالله دراز، وقد فاقت طبعاته العشرين، وقد قال لي ابن الدكتور دراز: إن أبي - رحمه الله - قد استعصت عليه ترجمة رسالته من الفرنسية الى العربية.
وتابع: لقد بلغت مؤلفاتي سبعين كتاباً ما بين تأليف وترجمة وتحقيق.
هذه مقتطفات من آخر حوار تلفزيوني أذيع للراحل الكبير الدكتور عبدالصبور شاهين - رحمه الله تعالى - قصدت أن أبدأ به الحديث عنه لتكون المقدمة هي بعض أقواله التي تشير بشكل كبير الى شخصيته والتي أثير حولها بعض الجدل، واختلف معه كثيرون في أمور فكرية ومنهجية، لكن اختلافهم معه لم يفقدهم احترامهم لشخصه، وتقديرهم لعلمه وفكره، وتراثه ومنهجه الدعوي.
فقد توفي رحمه الله مخلفاً إرثاً فكرياً جديراً بالبحث والتحقيق والدراسة بعد حياة حافلة بالعطاء والدعوة وأيضاً بالمعارك الفكرية، ما جعل القاصي والداني يشهد له بأنه كان صاحب مواقف وآراء، لم يحد عنها يوماً، وقد دفع ثمن مواقفه التي لم ترق الى البعض، فكان استبعاده من الخطابة بمسجد عمرو بن العاص بعد ثلاثة عشر عاماً ظل يصدح فيه بالحق، ولا يخشى لومة لائم... وكان توفيفه عن الخطابة على خلفية موقفه من آراء الدكتور نصر حامد ابوزيد عندما رفض ترقيته الى درجة أستاذ في كلية الآداب بجامعة القاهرة في العام 1993، منتقداً آراء أبوزيد التي خرجت عن اجماع الأمة والمتعلقة بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
فحين قدم أبوزيد ابحاثه بعنوان «نقد الخطاب الديني» للحصول على درجة الاستاذية للجنة تكونت من أساتذة جامعة القاهرة برئاسة الدكتور عبدالصبور شاهين الذي رفض الأطروحات في الابحاث المقدمة حول القرآن الكريم.
وكتب أبوزيد آنذاك مطالباً بالتحرر مما دعاه بـ «هيمنة القرآن» قائلاً: «وقد آن أوان المراجعة والانتقال الى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً قبل أن يجرفنا الطوفان» على حد تعبيره...
واتهم شاهين في تقريره أبوزيد بالعداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة لرفضهما. والهجوم على الصحابة وإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم، والدفاع عن الماركسية والعلمانية وعن سلمان رشدي وروايته «آيات شيطانية».
وكما كان للراحل الكبير موقف صلد مع نصر ابوزيد، قوبل كتابه «أبي آدم» بعاصفة من الجدل انتهت بدعوى تفريق بينه وبين زوجته اقامها الشيخ يوسف البدري، كما كان الراحل اقام دعوى حسبة ضد ابوزيد حصل بمقتضاها على حكم قضائي بالتفريق بينه وبين زوجته.
وعن هذه القضايا علق الكاتب الاسلامي جمال سلطان في حديث لشبكة الاعلام العربية «محيط» قائلا: لم يخسر الراحل الدكتور عبدالصبور شاهين اي معركة فكرية دخلها، فمن الناحية العلمية كان موقفه هو الصحيح دائما، فقد كان واضحا في معاركه اتباع نصر حامد ابوزيد، فكل ادعاءات جماعة نصر ايديولوجية لا تستند لاي ادلة علمية حقيقية على النقيض من ادلة شاهين الذي انصفته المحكمة ووقفت بجانبه.
وعن ابرز معاركه الفكر الخاصة بكتاب «أبي ادم» يقول سلطان: ان الراحل اجتهد بشكل قابل للحكم عليه بالصواب او الخطأ، فقد اقتحم منطقة من الصعب ان يحسم العلماء الجدل فيها بدليل قاطع مما اثار انزعاجهم لكني ارى ان ما فعله الشيخ يوسف البدري كان مبالغا فيه الى حد كبير، واذكر ان الراحل شاهين حين كان يذكر مؤلفاته لايشير الى هذا الكتاب وكأنه يعتذر ضمنيا عن تأليفه.
واضاف سلطان ان الراحل عبدالصبور شاهين قامة فكرية كبيرة في مصر والعالم الاسلامي خلال النصف قرن الماضي، فقد ترك مؤلفات اثرت المكتبة الاسلامية كما تخرج على يديه رموز ممن يحملون مشاعل الفكر الآن في مصر وخارجها، وقد خسرت الساحة الاسلامية برحيله شخصية ذات افق واسع حيث كان يدرك جميع ابعاد الخريطة الثقافية في مصر والمنطقة العربية والاسلامية فضلا عن انه يعد رمزا للمفكر الجسور الذي يقتحم مناطق شائكة ولايعبأ بتحرشات الآخرين ضده ويقدم رؤية قومية ومعتدلة بشكل مؤثر.
ومن عجائب الاقدار ان الدكتور عبدالصبور شاهين لقي ربه، عشية لقاء ثقافي جمع حشدا من دعاة العلمانيين واليساريين في مصر لتأبين نصر حامد ابوزيد، والذي لقي ربه في الخامس من يوليو الماضي.
كان الراحل مهموما بقضايا المسلمين في شتى بقاع المعمورة وفي مقدمتها قضية القدس ولم يكن غافلا عنها، وكان دائما يردد ان حلها في ايدي الحكام العرب والمسلمين الحاليين، الذين يصرون على التفاوض مع سلطات الاحتلال وغض الطرف عن سلام المقاومة، تلك الالة الفعالة التي ينبغي لها ان تجاور سلاح السياسة.
يذكر ان المفكر الراحل اول من اشترك مع زوجته في تأليف كتاب، اذ اخرجا معا موسوعة «امهات المؤمنين» و«صحابيات حول الرسول» في مجلدين.
شاهين و«مالك بن نبي»
يعتبر الدكتور عبدالصبور شاهين رحمه الله تعالى هو من عرف تبرات المفكر الاسلامي الكبير الجزائري «مالك بن نبي» ونقل مؤلفاته من الفرنسية الى العربية، والذي يعتبره شاهين صاحب مشروع اصلاحي ونهضوي يستحق الدراسة...
لذلك سنطرق الى كيفية بداية العلاقة بين شاهين «وبن نبي» والمواقف المشتركة بينهما، ومدى استفادة «بن نبي» من الحركات الاسلامية الاصلاحية التي كانت منتشرة في عصره.
من خلال عرض لاجزاء من حوار اجراه معه احد تلاميذه والمقربين منه الدكتور وصفي ابوزيد الباحث بمركز الوسطية التابع لوزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، وعن قصة تعرف شاهين بالمفكر الاسلامي «مالك بن نبي» يقول رحمه الله تعالى:
تعرفت به في ظروف تعتبر أقسى ما يواجهه شاب في حياته، فقد كنت آنذاك متخرجا في دار العلوم بالقاهرة، ودارسا في كلية التربية جامعة عين شمس، ومفرجا عني من السجن.
وشاب في مثل حالتي في ذلك الوقت لم يكن من حقه أن يعمل في وظيفة حكومية، وليس في السوق مجال للعمل الحر، ومعنى ذلك أن الاحساس بالضياع كان يحوطني من كل جانب، وأذكر أني كنت أقرأ في ذلك الوقت كل اعلانات الصحف التي تطلب عاملين، وكان من بين هذه الاعلانات اعلان للجامعة العربية عن حاجتها الى ملحقين ديبلوماسيين، وكنت ـ في مرحلة مبكرة قد درست شطرا من القانون والاقتصاد في كلية الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فتقدمت في هذا الاعلان ونجحت، ولكني لم أُعَيَّن، فقرأت ـ وكنت في الفصل الدراسي الأول في كلية التربية ـ اعلانا للاذاعة المصرية عن حاجتها الى مذيعين محررين، فتقدمت، وكان من حظي أن أكون أول الناجحين في هذه المسابقة من بين 330 متقدما، وذلك عام 1957م، ونشرت الصحف الخبر المدهش، وأرسل اليَّ مفتش المباحث العامة آنذاك بضرورة أن ألقاه، وكنا في الفصل الدراسي الأول، وذهبت ولقيني بوجه متجهم، وقال لي بعد قليل من السخرية والاستهزاء: «انت عاوز تتسلل للاذاعة من ورانا اسمع يا واد انت ما لكش عمل في البلد دي لا قبل التخرج ولا بعده انت عاوز تمارس نشاطك ضد الريس والثورة شوف لك شغله برة ».
وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها، وهي كانت تعني عندي الكثير في ذلك الوقت، وخرجت من عنده كاسف البال لا أملك دموعي، منقطع السبيل، لا أمل لي في شيء.
وفكرت في الطريق، وعزمت على أنه ينبغي ألا أيأس، فان اليأس لا يعرفه قلب المؤمن، لا سيما عندما يكون معه ما يشجعه على عدم اليأس، ولقد كنت أملك ميزة يمكن أن أستغلها، وهي معرفة اللغة الفرنسية، فقلت في نفسي بصوت خفيض تسمعه أذناي: «لو أنني عملت في حقل الترجمة من الفرنسية الى العربية لن يستطيع أحد أن يمنعني من العمل في هذا المجال، واللهِ العظيمِ لن أترك هذا البلد».
كنت في ذلك الوقت منتسبا الى كلية التربية من ناحية، والى الدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم من ناحية أخرى، والحمل ثقيل، ولكن الانسان أحيانا يشعر بأن في وسعه أن ينقل جبلا من مكانه الى مكان آخر، وفي ساحة كلية دار العلوم القديمة، وأنا ذاهب الى احدى محاضرات الدراسات العليا بدار
العلوم، في يوم من أيام مارس 1957، نادى عليَّ باسمي مَنْ لا أزال أذكره وأحمل اسمه في قلبي، تعرف اليَّ، وأخبرني باسمه: «أنا عبد السلام الهراس من المملكة المغربية»، ثم قال لي: «هل تحب أن تترجم كتابا؟» لم أكن حدثت أحدا بما دار في نفسي من العزم على الاشتغال بالترجمة؛ ولذلك فأنا ما زلت ـ بعد مرور نصف قرن على هذه الحادثة ـ مندهشا لما جرى، ما الذي ساق اليَّ هذا الرجل ليحدثني في أمر حدثت به نفسي، مجرد حديث نفس؟!
لم يكن يخامرني شك في أن الشاب عبد السلام الهراس الذي ساقه القدر اليَّ ـ لم يكن سوى حامل رسالة ملائكية، هي رسالة الرحمة الالهية التي أخرجتني من ظلمة اليأس الى ساحة الفرج، وأغلقت حانوت التحكم في مصائر العباد لتفتح بدلا منه ساحة اللطف والتدبير العلوي الحكيم.
وكانت البداية مع هذه اللحظة في كتاب: «الظاهرة القرآنية» للأستاذ مالك بن نبي، وكان قد هرب من باريس الى مصر ابَّان اعلان الثورة الجزائرية، حين شعر أن الحكومة الفرنسية توشك أن تلقي عليه القبض، فهرب الى مصر لاجئا سياسيا، ومعه مجموعة من كتبه التي كتبها بالفرنسية، ولم يكن يعلم شيئا عن العربية، وكانت خطته لكي يعيش في القاهرة أن يترجم كتبه الى العربية، ويعيش مما تدره عليه ترجمتها، هكذا فكر، وهكذا كنت قد فكرت، والتقينا على هدف واحد ونية واحدة وعزيمة واحدة، وكنت في ذلك الوقت في الفصل الدراسي الثاني من كلية التربية بالاضافة الى انشغالي بالدراسات العليا بدار العلوم، ومع ذلك فان الهم الثقيل المزدوِج لم يمنعني أن أخوض غمرات التجربة الأولى في الترجمة، فأنجزت للأستاذ مالك في الترجمة كتابه الأول: «شروط النهضة» وتم طبعه.
ويوم ذهبت لأعرف نتيجتي في كلية التربية كانت معي النسخة الأولى من الكتاب أُزْهَى بها على زملائي وأقراني، ولا أعتقد أن أحدا قد مر بمثل هذه اللحظة من السعادة التي مررت بها، حين وجدتني ناجحا في كلية التربية، ناجحا في الدراسات العليا بدار العلوم، ناجحا في الترجمة بظهور الكتاب الأول للأستاذ مالك، وكان ذلك ايذانا بأن الطريق صارت معبدة نحو المضي في طريق.
أول لقاء
وعن مواقف له مع «بن نبي» تركت أثرا في نفسه، يقول شاهين:
لا شك أنني لا أنسى ما دار بيننا في أول لقاء، وكنت قد ترجمت فصلين من كتاب «الظاهرة القرآنية» عن المذهب المادي والمذهب الغيبي، وقرأت عليه الترجمة الأولى، فما سمعت منه سوى لفظين اثنين بلهجته المغربية: «باهي»، و«الله يجازيك خير»، وتعلَّم مالك بعد ذلك العربية على يدي من خلال مراجعتنا للكتاب الأول: «شروط النهضة»، وللثاني: «فكرة الافريقية الآسيوية»، والثالث: «الظاهرة القرآنية، الى آخر الكتاب الثامن: «فكرة كومنولث اسلامي»، وبمناسبة الكتاب الثاني: «فكرة الافريقية الآسيوية» فقد ترجمته ابتداء من الاجازة الصيفية بعد ظهور نتيجة كلية التربية حتى ظهر في طبعته الأولى في 28 ديسمبر 1957م، أي أن ترجمة الكتاب وتصحيحه وطبعه واصداره كان ذلك كله في خمسة أشهر مع أن الكتاب حجمه كبير، وكنت قد عينت مدرسا للغة العربية في مدرسة السويس الاعدادية للبنين، وفي الثاني من يناير 1958م بعد ظهور الكتاب بثلاثة أيام ذهبت أنا ومالك لتقديم نسخة منه الى جمال عبد الناصر، وعليه اهداء رقيق مطبوع: «للرئيس الذي يمسك بيده مقود التاريخ» كما قال مالك، ونشر خبر ذهابنا يوم الجمعة 3/1/1958م في تشريفات رئيس الجمهورية، وذهبت يوم السبت مع ضوء الفجر الى السويس لأبدأ يوما دراسيا جديدا في عملي التدريسي، وكانت المفاجأة رهيبة ومذهلة أني منعت من دخول الفصل الدراسي، ووقعت على ورقة بالطرد من التدريس، وخرجت منها بين دموع الزملاء وسواد الرؤية المستقبلية، ومضيت الى القاهرة ولم أعد الى السويس منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
وقد انتهيت ـ بحمد الله ـ من ترجمة ما تيسر لي من كتب مالك بين عامي: 1962 و1963م، وذهب مالك الى الجزائر، وكان كثيرا ما يتردد على بيروت حيث بدأت كتبه المترجمة تنتشر في المشرق العربي، وما زالت حتى الآن.
«بن نبي» والإخوان
وعن تأثر «مالك بن نبي» بالحركات الإسلامية قال شاهين: الأستاذ مالك كانت عنده فكرة عن الحركة الوهابية، وكذلك كانت عنده فكرة عن حركة الاخوان المسلمين، لكني كنت ألاحظ أن بعض أفكاره عن الاخوان يشوبها الخطأ والتشويه؛ ولذلك تدخلت في ترجمة كتابه: «وجهة العالم الاسلامي» في تعديل فكرته عنهم، وقد كانت شديدة الانحراف والظلم، والسبب في ذلك أنه لم يكن قد عاش في زمان الاخوان، بل كان متأثرا بما كتب عن الحركة أيام عبد الناصر، وهي كتابات مغلوطة وظالمة، والذين يقولون عن الاخوان ما يقولون ـ في هذه الأيام ـ ويصدرون أحكاما جزافية على الحركة هم في الواقع متعسفون؛ لأن الاخوان منذ عام 1948م وحتى الآن في حرب مستمرة مع الأميركيين واسرائيل وأتباعهما، ومع ذلك فان جوهر الحركة لم يتغير رغم عوامل البلاء المستمر، ومن المؤكد أن تقدير الانسان المسلم لهذه الحركة تقدير عميق لا يتأثر بالأحكام الماركسية ولا العلمانية التي يصدرها بعض الكتاب الطفيليين الذين يتعيشون من وراء هجاء الاخوان.
وعلى الرغم من ذلك ستبقى حركة الاخوان المسلمين أعظم الحركات تعبيرا عن الحقيقة الاسلامية، وأقل الحركات تعلقا بالتفاصيل والجزئيات والفرعيات، وأعمق الحركات تأثيرا في وجدان المسلمين في العالم، فهم الذين قاتلوا في أفغانستان، وهم الذين حرروا شعوبا كثيرة في العالم الاسلامي، وحافظوا على الوجود الاسلامي ماثلا منتصب القامة أمام العوامل المعادية والتيارات الهدامة؛ ولذلك فاني أعتقد أن حركة الاخوان هي أصدق الحركات تعبيرا عن الأمل في بقاء الاسلام وفي انتشاره، ولو عاش حسن البنا مزيدا من العمر لحقق للأمة الاسلامية مشروع الوحدة الكبرى بجهاده واخلاصه.
ونعود الى الأستاذ مالك فأقول: انه ـ في تقديري ـ صنع نفسه بنفسه، ولم يتأثر بأي من الحركات التي كانت شائعة آنذاك لكنه كان عميق التقدير للشيخ عبد الحميد بن باديس.
أسلوب خاص
وعن الاقتباس من الثقافة الغربية من خلال مالك بن نبي، وسيد قطب، وعلي شريعتي، يقول شاهين: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة أسلوبه الخاص به؛ فمالك متأثر بطريقة التفكير الغربية الفرنسية، وعلي شريعتي له روافده الشيعية في البيئة الايرانية، وسيد قطب روافده اخوانية سجونية حيث قضى وقتا طويلا من حياته في السجن، فكلٌّ له طابعه الخاص، لكن الهدف واحد والرسالة واحدة.
وأعتقد أن مالكا لم يكن لديه صفات الزعامة، انما كان عنده صفات المفكر، أما سيد قطب فكانت له صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم، وأما علي شريعتي فكانت بيئته ـ في تقديري ـ بمثابة السجن أيضا من حوله حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى مثل مجالات أهل السنة.
وهناك أمر عجيب في كل منهم: مالك بن نبي كان مهندسا في الكهرباء، وسيد قطب كان متخصصا في الأدب والنقد، وعلي شريعتي كان متخصصا في علم الاجتماع، الا أنه جمعهم هدف واحد، وغاية واحدة هي غاية النهضة والاصلاح والفكر الاسلامي.
وأمر آخر أنبه عليه من خلال هؤلاء الثلاثة بالذات، وهو أن ثقافتهم الاسلامية والعربية بحكم البيئات التي نشأوا فيها ـ لم تمنعهم من الاطلاع على ما عند الغرب والاقتباس منه بما لا يتعارض مع مبادئ العروبة والاسلام؛ فسيد قطب تعلم كثيرا في أميركا، وحصل على الماجستير من هناك، ومالك عاش في فرنسا جل حياته ما عدا فترة اللجوء السياسي والثورة الجزائرية، وعلي شريعتي هو الآخر اقتبس من الثقافة الغربية كثيرا، وهذا دليل على أن الفطرة الاسلامية دائما تغلب كل العوامل الطارئة، والواقع أن أنموذج الأستاذ مالك دليل قاطع على ما أقوله الآن، حيث ان سفره واقامته في فرنسا هذه الفترة جعلت منه شخصية اسلامية كأنها نبتت في بيئة اسلامية.
سيرة ومسيرة
ولد الدكتور عبدالصبور شاهين - رحمه الله تعالى - في حي الإمام الشافعي بالقاهرة، في الثامن عشر من مارس العام 1928، حفظ القرآن في أحد الكتاتيب، وأتم حفظه كاملا ولم يبلغ السابعة من عمره، بعد انتهاء دراسته الابتدائية في المدرسة الإلزامية، والتحق بالأزهر الشريف في الحادية عشرة ومنه إلى كلية دار العلوم التي تخرج فيها عام 1955 ثم عمل معيداً بالكلية.
حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع «القراءات الشاذة في القرآن الكريم» حتى وصل إلى درجة الأستاذية، وكان يعد من أشهر الدعاة بمصر والعالم الإسلامي، حيث كان خطيبا بمسجد عمرو بن العاص، الذي يعتبر أكبر وأقدم مساجد مصر.
ود. شاهين عمل أستاذاً متفرغاً بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وشغل عضوية مجلس الشورى، الغرفة الثانية للبرلمان، كما عمل أستاذاً بقسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان يعد أحد رواد الدراسات اللسانية في العالم العربي، وله بعض الكتب التي تتضمن أبحاثاً لغوية.
ولذلك قام الراحل الكبير بتأليف أكثر من 70 كتابا من بين مؤلفات وتراجم، وكما كان يترجم عن الفرنسية، ترجم اليها من اللغة العربية، ومن أشهر مؤلفاته مجموعة «نساء وراء الأحداث»، ومجموعة «أبي آدم»، كما أنه شارك في إعداد العديد من رسائل الدكتوراه والماجستير.
ومن أهم أعماله «ميلاد مجتمع سلسلة مشكلات الحضارة»، و«دستور الأخلاق في القرآن»، و«مفصل آيات القرآن»، و«الظاهرة القرآنية»، و«تاريخ القرآن»، ومن أشهر تلاميذه الراحلة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ).
آراء وأقوال
• مالك بن نبي لم يكن لديه صفات الزعامة
إنما كانت عنده صفات المفكر.
• سيد قطب كانت لديه صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم
• علي شريعتي كانت بيئته بمثابة السجن من حوله
حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى.
• أخاف على الأمة الإسلامية من الزعامات الفاشلة
التي هي زعامات فساد ومنكر.
• سلاح المقاومة آلة فعالة ينبغي لها أن تجاوز سلاح السياسة في قضية القدس.
• لو عاش حسن البنا مزيداً من العمر لحقق
للأمة الإسلامية مشروع الوحدة الكبرى