| سعاد العنزي |
... الأسطورة والخيال والمزج بين الواقع والخيال والأزمنة المتفاوتة كانت حاضرة بقوة في متن الحكاية لدى القاصة علياء الداية، ومن أهم العناصر المهيمنة في مجموعة «أبو الليل» هو، كما أسلفنا في قراءة سابقة، العوالم الأسطورية والخيالية المرتبطة بالخوارق والفذ والفريد الذي لا يحدث الا استثنائيا ونادرا. ان أسطورة النص القصصي تعالج فكرة العلم والحقيقية مقابل المجهول واللامحسوس كما هي تقابل بين الشك واليقين وتفتح نافذة على انسان القرون الماضية وتكشف الجوانب السايكولوجية لديه في البحث المستمر عن قوى الطبيعة الخارقة التي يستعين بها بعض البشر في تحقيق غاياتهم، واشاعة العدل والحق بين البشر بمن اتسموا بمباركة الطبيعة «طائر الرخ نموذجا»، وهي من جانب آخر محاولة في تصوير عالم آخر موجود يعيش بيننا ونحاول نسيانه لألا يظهر ويبعثر صفاء كوننا في مشاكساته لبني الانسان مثلما حدث في قصة «يوم رأيت المسكونة»، أي ظهور عالم الجن للانسان وتعايشه معه. كما هي محاولة لرصد حالة شغف انساني بالتعلق بلغة الخيال والغرائبي والعجيب لا يحجبه وجوده في عصر الآلة والحداثة أو مابعد الحداثة فذاكرة الشعوب تتغذى على رموز وأساطير تنسجها حكايات لأطفالهم يتناقلونها الجيل بعد الجيل فيها من العبر والحكم الشيء الكثير. وقد لا يتوقف خيال الانسان عند هذه المرحلة وحسب، بل يتشكل مخياله العلمي فيحاول اكتشاف العوالم الأخرى والكواكب التي يحاول رصد مفارقات بينها وبين عالم الأرض بغية غرس روح السخرية في القصة مثلما تبدى في قصة «زائرة من زحل». ان مجموعة «أبو الليل» مجموعة تجمع بين نصوص تنتمي لثقافات متعددة وحضارات كثيرة،فيها ترى ملامح عالمية قوية، فتشكلت بذا فكرة عولمة المجموعة وعدم انتسابها لبيئة واحدة أو فضاء مكاني وزماني واحد، فقد ترى فيها صورة القرية العربية والمدينة ولكن من دون أن تحدد موقعه الجغرافي، وترى رسوم الحياة في البلاد الأجنبية من مثل الصين وغيرها، ولكن أيضا من دون تحديد صريح ومكثف لها. وبذا يتبدى ان القاصة اتخذت من العالم أجمع فضاء لها، وقد تكون كثرة القراءة والاطلاع ساهمت في توسيع المدارك لديها ما جعلها تنطلق في فضاء أوسع لا يقترن بجغرافية المكان الضيقة والأسماء المباشرة له. ان فكرة التعدد والتنوع في الأمكنة والأزمنة والحضارات والديانات كانت حاضرة في المجموعة من حيث عنصر المكان متقاطعا مع فكرة المضمون الذي توشجت فيه أواصر الأسطورة والمخيال الشعبي مع الحياة الحاضرة في أرض الواقع، ففي قصة «يوم رأيت المسكونة» يتبنى السرد بلعبة جمالية وتقنية وهي انشغال أحمد السارد بطيف فتاة جميلة يكتشف السارد انها جنية المعصرة، وتبدأ مرحلة كشف جوانب الحكاية الأخرى السابقة زمنيا لزمن أحمد وأهله وهو حكاية الفتاة المسكونة التي خالفت الوصايا القديمة بفك جديلتها فغضب عليها الجان وحكموا عليها بالعيش في المعصرة وحيدة بعد قتل زوجها الجني، ومن هنا فان قصة المسكونة بقدر ماهي تمثيل حقيقي لمخيال العصور الغابرة، هي كذلك تبيان للتهديد والوعيد للأطفال في بعض القصص الحاضرة لا تخالف الوصايا والا سيحدث لك ما حدث للمسكونة، ولا تذهب للأماكن المهجورة لأن المسكونة هناك، وهكذا دواليك، لتبقى هذه الثقافة الشعبية مشكلة جزءا من وعينا أو لا وعينا.
قصة «يوم رأيت المسكونة» و«الشيخ ثعلب مر من هنا» يشتركان في نفس الفكرة التي تقتات على بساطة الانسان في تعامله مع المجهول والظواهر الغريبة، وكذلك قصة «العرافة» تنطلق من فضاء تصديق أقوال المتكهنيين والذي يحاولون سبر أغوار الغيب باعطاء الانسان نبوءات مستقبله، مثلما حدث لسائق الحافلة الذي رسمت له «العرافة» خطوات طريقه في الحياة، فترسخت في ذهنه مصدقا لها ومتتبعا نبوءاتها حول اختباراته وموته، عندما قالت له: «ستنتهي وتفقد طعم الحياة، عندما تأتي النهاية، الارتطام الخارج على قوانين الحساب». (المجموعة، ص41)
ولعل قصة «عينا الراهب المستكين» تنطلق من نفس المخيال والأرواح التي تلاحق الانسان كطيف الراهب المستكين الذي يفترض انه هلك مع مجموعة من الرهبان، ولكن طيفه يبقى يلاحق أحد الأشخاص في القصة، ومايهم في هذه القصة هو كشف جانب من جوانب حياة الرهبان، كما انطلاقة قلم المبدع لكل الفضاءات الانسانية المتعددة، ومعالجة فكر الرؤى المغايرة، حتى ولو كانت من ديانة أخرى، مما يعتبر ومضة جميلة من القاصة في تبني مدارات الحياة المتعددة من دون الوقوف عند بوابة واحدة من التعاطي.
ثمة جانب أسطوري أسلفنا ذكره في قصة «بيضة الرخ» التي تتمركز حول جانب الأسطورة الأفريقية، والتي فتحت النافذة على الخيال الشعبي الأفريقي، فكانت نافذة لمعرفة الثقافات الأخرى. ومن ثم قصة «زائرة من زحل» التي انطلقت من بوابة الخيال العلمي، التي استعانت به علياء الداية لاسقاط وجهة نظرها حول الواقع برد الزائرة الغريبة على سؤال الصحفية:
- ومن أين تحصلون على المال؟
- اننا جميعا متساوون الصغير والكبير في كل الأسر له النصيب نفسه من المال، يتسلمه شهريا أو أسبوعيا حسب اختياره من المصارف المتنقلة أو الثابتة». (المجموعة، ص140)
فهذه المساواة المتخيلة في الكوكب الآخر تطرح فكرة المفقود في الأرض وغير المتاح لبني الانسان.
وبعد، مما سبق عرضه تتبدى مجموعة «أبو الليل» لوحات فنية متعددة الألوان والصور، ومتغايرة الأطياف من حضارات وثقافات شكلت تاريخ الانسانية، كما هي مجموعة تبنت الجوانب الأسطورية وفكرة الخيال الشعبي لدى الانسان محللة اياه، ومبينة جوانب كانت ومازالت مسيطرة في ذاكرة الانسان على مر العصور، ولعلها في جانب من جوانبها فقدت فعاليتها مثلما انتهت عليه قصة «يوم رأيت المسكونة» بوداع الماضي والأسطورة، اذ يقول السارد:
«الى الصين سافرت، مخلفا ورائي المسكونة وما بعد المغرب والمعصرة القديمة المهجورة». (المجموعة، ص34)
بينما تحولت أسطورة «بيضة الرخ» الى مجرد بيضة تباع في المتاحف يتندر بها الراوي والمروي له في عصرنا الحديث.
* كاتبة وناقدة كويتية
... الأسطورة والخيال والمزج بين الواقع والخيال والأزمنة المتفاوتة كانت حاضرة بقوة في متن الحكاية لدى القاصة علياء الداية، ومن أهم العناصر المهيمنة في مجموعة «أبو الليل» هو، كما أسلفنا في قراءة سابقة، العوالم الأسطورية والخيالية المرتبطة بالخوارق والفذ والفريد الذي لا يحدث الا استثنائيا ونادرا. ان أسطورة النص القصصي تعالج فكرة العلم والحقيقية مقابل المجهول واللامحسوس كما هي تقابل بين الشك واليقين وتفتح نافذة على انسان القرون الماضية وتكشف الجوانب السايكولوجية لديه في البحث المستمر عن قوى الطبيعة الخارقة التي يستعين بها بعض البشر في تحقيق غاياتهم، واشاعة العدل والحق بين البشر بمن اتسموا بمباركة الطبيعة «طائر الرخ نموذجا»، وهي من جانب آخر محاولة في تصوير عالم آخر موجود يعيش بيننا ونحاول نسيانه لألا يظهر ويبعثر صفاء كوننا في مشاكساته لبني الانسان مثلما حدث في قصة «يوم رأيت المسكونة»، أي ظهور عالم الجن للانسان وتعايشه معه. كما هي محاولة لرصد حالة شغف انساني بالتعلق بلغة الخيال والغرائبي والعجيب لا يحجبه وجوده في عصر الآلة والحداثة أو مابعد الحداثة فذاكرة الشعوب تتغذى على رموز وأساطير تنسجها حكايات لأطفالهم يتناقلونها الجيل بعد الجيل فيها من العبر والحكم الشيء الكثير. وقد لا يتوقف خيال الانسان عند هذه المرحلة وحسب، بل يتشكل مخياله العلمي فيحاول اكتشاف العوالم الأخرى والكواكب التي يحاول رصد مفارقات بينها وبين عالم الأرض بغية غرس روح السخرية في القصة مثلما تبدى في قصة «زائرة من زحل». ان مجموعة «أبو الليل» مجموعة تجمع بين نصوص تنتمي لثقافات متعددة وحضارات كثيرة،فيها ترى ملامح عالمية قوية، فتشكلت بذا فكرة عولمة المجموعة وعدم انتسابها لبيئة واحدة أو فضاء مكاني وزماني واحد، فقد ترى فيها صورة القرية العربية والمدينة ولكن من دون أن تحدد موقعه الجغرافي، وترى رسوم الحياة في البلاد الأجنبية من مثل الصين وغيرها، ولكن أيضا من دون تحديد صريح ومكثف لها. وبذا يتبدى ان القاصة اتخذت من العالم أجمع فضاء لها، وقد تكون كثرة القراءة والاطلاع ساهمت في توسيع المدارك لديها ما جعلها تنطلق في فضاء أوسع لا يقترن بجغرافية المكان الضيقة والأسماء المباشرة له. ان فكرة التعدد والتنوع في الأمكنة والأزمنة والحضارات والديانات كانت حاضرة في المجموعة من حيث عنصر المكان متقاطعا مع فكرة المضمون الذي توشجت فيه أواصر الأسطورة والمخيال الشعبي مع الحياة الحاضرة في أرض الواقع، ففي قصة «يوم رأيت المسكونة» يتبنى السرد بلعبة جمالية وتقنية وهي انشغال أحمد السارد بطيف فتاة جميلة يكتشف السارد انها جنية المعصرة، وتبدأ مرحلة كشف جوانب الحكاية الأخرى السابقة زمنيا لزمن أحمد وأهله وهو حكاية الفتاة المسكونة التي خالفت الوصايا القديمة بفك جديلتها فغضب عليها الجان وحكموا عليها بالعيش في المعصرة وحيدة بعد قتل زوجها الجني، ومن هنا فان قصة المسكونة بقدر ماهي تمثيل حقيقي لمخيال العصور الغابرة، هي كذلك تبيان للتهديد والوعيد للأطفال في بعض القصص الحاضرة لا تخالف الوصايا والا سيحدث لك ما حدث للمسكونة، ولا تذهب للأماكن المهجورة لأن المسكونة هناك، وهكذا دواليك، لتبقى هذه الثقافة الشعبية مشكلة جزءا من وعينا أو لا وعينا.
قصة «يوم رأيت المسكونة» و«الشيخ ثعلب مر من هنا» يشتركان في نفس الفكرة التي تقتات على بساطة الانسان في تعامله مع المجهول والظواهر الغريبة، وكذلك قصة «العرافة» تنطلق من فضاء تصديق أقوال المتكهنيين والذي يحاولون سبر أغوار الغيب باعطاء الانسان نبوءات مستقبله، مثلما حدث لسائق الحافلة الذي رسمت له «العرافة» خطوات طريقه في الحياة، فترسخت في ذهنه مصدقا لها ومتتبعا نبوءاتها حول اختباراته وموته، عندما قالت له: «ستنتهي وتفقد طعم الحياة، عندما تأتي النهاية، الارتطام الخارج على قوانين الحساب». (المجموعة، ص41)
ولعل قصة «عينا الراهب المستكين» تنطلق من نفس المخيال والأرواح التي تلاحق الانسان كطيف الراهب المستكين الذي يفترض انه هلك مع مجموعة من الرهبان، ولكن طيفه يبقى يلاحق أحد الأشخاص في القصة، ومايهم في هذه القصة هو كشف جانب من جوانب حياة الرهبان، كما انطلاقة قلم المبدع لكل الفضاءات الانسانية المتعددة، ومعالجة فكر الرؤى المغايرة، حتى ولو كانت من ديانة أخرى، مما يعتبر ومضة جميلة من القاصة في تبني مدارات الحياة المتعددة من دون الوقوف عند بوابة واحدة من التعاطي.
ثمة جانب أسطوري أسلفنا ذكره في قصة «بيضة الرخ» التي تتمركز حول جانب الأسطورة الأفريقية، والتي فتحت النافذة على الخيال الشعبي الأفريقي، فكانت نافذة لمعرفة الثقافات الأخرى. ومن ثم قصة «زائرة من زحل» التي انطلقت من بوابة الخيال العلمي، التي استعانت به علياء الداية لاسقاط وجهة نظرها حول الواقع برد الزائرة الغريبة على سؤال الصحفية:
- ومن أين تحصلون على المال؟
- اننا جميعا متساوون الصغير والكبير في كل الأسر له النصيب نفسه من المال، يتسلمه شهريا أو أسبوعيا حسب اختياره من المصارف المتنقلة أو الثابتة». (المجموعة، ص140)
فهذه المساواة المتخيلة في الكوكب الآخر تطرح فكرة المفقود في الأرض وغير المتاح لبني الانسان.
وبعد، مما سبق عرضه تتبدى مجموعة «أبو الليل» لوحات فنية متعددة الألوان والصور، ومتغايرة الأطياف من حضارات وثقافات شكلت تاريخ الانسانية، كما هي مجموعة تبنت الجوانب الأسطورية وفكرة الخيال الشعبي لدى الانسان محللة اياه، ومبينة جوانب كانت ومازالت مسيطرة في ذاكرة الانسان على مر العصور، ولعلها في جانب من جوانبها فقدت فعاليتها مثلما انتهت عليه قصة «يوم رأيت المسكونة» بوداع الماضي والأسطورة، اذ يقول السارد:
«الى الصين سافرت، مخلفا ورائي المسكونة وما بعد المغرب والمعصرة القديمة المهجورة». (المجموعة، ص34)
بينما تحولت أسطورة «بيضة الرخ» الى مجرد بيضة تباع في المتاحف يتندر بها الراوي والمروي له في عصرنا الحديث.
* كاتبة وناقدة كويتية