الهوية هي سمة وعلامة راسخة في المرء تظهر على سيماه من خلال مسالكه التي تنبئ عمّا في ذهنه من مفاهيم «قيميّة» يتشبث بها تشبثاً يعزّ عليه أن يفتقدها، بل ولا يسمح لأن يغزوه كائن من كان... مهما ارتفع قدره في قلبه، فالهوية بالنسبة للمرء هي صبغته التي يصطبغ بها، بل إنه يتشرب على إثرها كل ما من شأنه أن ينمّيها في ذاته، وينبذ ويبغض كل ما هو مناهض لها، وتجده يحذر أشد الحذر ممن يحاول أن يقوّض أركانها في كيانه.
اصطباغ الدولة بمعالم الهوية واقعاً، وإنزاله على مفردات مجتمعها، هو من الأهمية بمكان وذلك لضمان ديمومة بقاء كيانها وحماية لسيادتها... يا ترى هل نحن مدركون حق الإدراك مدى ثقل وزن الاصطباغ بالهوية للشعوب والأمم، وما مدى استيعابنا لخطورة تخلّينا عن سيما الهوية الإسلامية ثم العربية ثم المحلية؟
لو أن مرتحلاً زار البلاد وتجوّل بين شعبها من الناس صغاراً وكباراً وتنقل في أرجائها، هل يا ترى سيشهد معالم حفظ الهوية لدولتنا؟ حقيقة أنا أشك في ذلك... فنحن بعد وما زلنا نفتقد الذوبان المنشود في طابع الهوية الرسمية للبلاد والعباد.
كثير منّا تغتاله العولمة اغتيالاً ساحقاً لهويته الأصيلة الأصليّة، مصادر المعرفة عنده لا تكاد تشمّ منها عالمية الإسلام والاعتزاز بالعروبة... لغته على لسانه أجنبية وأعجمية، بل ويفتخر بالتحدث بها مع عياله وفي الأماكن العامة، لباس النساء والرجال «التفرنج» فيه باد عليه، غذاؤه لا يعرف منه سوى وجبات المطاعم الشهيرة بـ «الفاست فود»، إذ هي من مصادر الغزو الغذائي للبطون وقد سبقها بلا شك غزو عقول العباد بمصادر التغذية الفكرية. هذا فضلاً عن التطعيم بإبر مغذية وببطء حذق من أصحاب المذاهب القديمة الجديدة يمنة ويسرة... عجباً نحن أرض خصبة للتلقي دون مقاومة لما يراد لنا من تغيير!
إن الأصل في الدول والمجتمعات ممن تعضّ على هويتها أنها تبدي المقاومة لأي تغيير ثقافي أو اجتماعي يحاول من يحاول دسّه خفية أو علنا بين شعوبها، وتجد عادة من خصائص تلك الشعوب أنها ترفض أي محاولات لهتك ما اعتادت عليه من أعراف في مجمل الدلّ وطابع الهدي والسيما لبلادها، سواء صلحت تلك الأعراف أم بليت، والشعوب بتلقائيتها تختبر كل ما من شأنه يستجد في ساحتها فترفض ما يخدش في هوية وطنها، بل وتكافحه أيما مكافحة، لأنها تدرك معنى تكسير قيمة بعد قيمة من معالم بلادها.
لست في حاجة لضرب الأمثال بالشعوب الإسلامية عبر التاريخ، ولست في حاجة إلى أن ألفت انتباه القارئ لشعوب الصين واليابان والهند وباكستان وإيران، لست في حاجة إلى الاستفاضة فمن على رأسه ريشة التبعية والتقليد لكل ناعق فإنه سيتحسسها!
عزيزي القارئ ما عادت الخطورة كما كنا ننظّر لها سابقاً، ما عادت محصورة على الشخص بعينه، وإنما بات الأمر مرتبطا بسيادة دولتنا من عدمها، وفقد الهوية يسري بنعومة في عقولنا وبتدرج ذكي من دعاته، حتى ما نعود نشعر بذوباننا في غيرنا، فأول خطوة في سلم التغيير أن يجعلونا نستهجن قيمنا، ومفردات التقدير لمعالم سيادة بلادنا، ثم يشتغلون على تحبيبنا في المقبل الجديد وتسويقه لنا على أنه المنقذ من ورطاتنا! فيكذبون علينا إعلامياً ويترجمون لنا ذلك واقعياً فتنطلي علينا كذباتهم، يشعروننا أننا بتمسكنا بلغتنا العربية إنما ذلك هو عين التخلف... فاستجبنا لهم. يحيكون الحبكات ليظهروا أمامنا على أنهم هم الأصل الأصيل في أخلاقيات المهن والكل تبع لهم فنصير بعدها بوقا نطنطن بما يطنطنون به، لباسهم هو الموضة الحقيقية فنهز رؤوسنا موافقة لهم، طعامهم لذيذ، حياتهم حلوة، دنياهم سعيدة... هكذا يصورون لنا أنفسهم!
عزيزي القارئ... في كل مناحي حياتنا إن لم يكن لدى المواطن الكويتي العربي المسلم وعي كبير، وما لم يكن ممتلئ الذهن بمقومات حفظ الهوية، وما لم يدرك خطورة هيمنة ثقافات غيرنا على هويتنا، فإن سيادتنا ستخدش عبر التاريخ بزحف بطيء خفي على أصعدة الدولة كافة.
لذا كلما كان مواطنو الدولة واعين للمقومات تلك عز وصعب على أصحاب الدس أن يجدوا أذنا صاغية لدسّهم، وكلما نجح «غاسلوا الأدمغة» في غسيلهم لقناعاتنا كلما دلّ ذلك على ضعف وهلهلة وهشاشة التمسك بهويتنا واللبيب بالإشارة يفهم!
من مقومات ضمانة بقاء الأمم والشعوب هو إعلاء قدر اللغة والدين واللباس وتراث البلد وغيرها من الأمور.
إن من يسرق هويتنا منّا لا يفعل ذلك لإعجابه بنا، وإنما ليحقق مآربه في تهشيم قيمتنا، ولنكون سبهللا! الذي يعنيه هو إضاعتنا حتى يسهل عليه لاحقاً اختراقنا، بل إنه قد اخترقنا وانتهى، واللاحق الخافي أعظم ما لم نتداركه لننجو. إن المهشّمين ما صاروا شطّاراً إلا لأننا بتنا كسالى، وما عادوا ناجحين إلا لأننا عزمنا على الرسوب وبامتياز محقق!
يهمّنا أن نقيم الحمايات والتدابير، وأن نرسل رسائل ضخمة لكل من تسول له عقليته وقناعاته بتكسير حميتنا أن ينأى بنفسه عن تلك المحاولات لاختراقنا... سياسة الدولة التعليمية والإعلامية والوطنية عليها المعوّل الكبير، المفكرون في البلاد مسؤوليتهم كبرى... عليهم ألا ينسحبوا ولا ينكفئوا، وكل في مجاله يجتهد وقاية وعلاجاً بما يمكننا من تقويم للاعوجاج وسط كومة الحداثة والعولمة وضجيج الفتنة!
علينا أن نقابل جهود الحراك الثقافي الخفيّ بجهود تنويرية أكبر منه، علينا أن نواجه كل محاولة لتغريب مجتمعنا بصد تلك المحاولات بكشف خبثها للناس وتقديم البديل لملئ العقول والشعور والسلوك به.
عزيزي القارئ لن يجرؤ أحد على اختراقنا، دولاً أو أفراداً، إلا ان نحن أضأنا لهم الضوء الأخضرليغزونا. ولا أحتاج أن أسمي دولاً ولا أفراداً، ولا تعنيني التسمية، وإنما الذي يهمني هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك الاختراق لهويتنا، ألا فقهنا خطورة الأمر؟ ألا ليت قومي يعلمون ويفقهون!


هيام الجاسم
كاتبة كويتية