| كتب مدحت علام |
لم تكن مواقف المفكر الجزائري الراحل محمد أركون نابعة من علاقته الوطيدة بالنقد الموضوعي، وليس من خلال ما كانت تتمتع به رؤيته من قدرة فائقة على اختراق المسكوت عنه والمحظور في سبيل ازاحة الستار عن كل ما هو جديد - في ما يتعلق بالفكرة - بقدر ما كانت - هذه المواقف - ذات حلة بطبيعة أركون الحسية، وتلمسه الدؤوب لكل ما من شأنه أن يؤسس للفكرة منهجا. من الممكن أن تكون نواة لمعرفة متوهجة وحيوية.
لقد انشغل الراحل محمد أركون بأفكاره، من دون أن يحرص على فرضها أو تزكيتها في نفوس قارئيه، ومن دون أن يحمّل القارئ جميلا قدمه له، والمتمثل في تلك الأفكار المتواصلة، والتي - بكل تأكيد - ستضعه على طريق الفهم الصحيح للأسئلة التي تجول في خاطره ووجدانه.
ومن خلال شخصية أركون الصبورة العاشقة لتفجير الأفكار من أجل الكشف عن مساراتها، جاءت إطروحاته الصارمة في بعض الأحيان، والمتسامحة مع الرؤى التحليلية في أحيان أخرى، منصرفا كل الانصراف عن الأخاديد والمآزق التي يقع فيها النقاد والمفكرون، وأعني بذلك المجاملة على حساب الأفكار من أجل كسب ود فريق أو مجموعة، وعلى هذا الأساس خسر أركون تعاطف بعض الفرق، مثلما خسر الأضواء التي كان بعيدا عنها، كي يجد أنه وأفكاره في مواجهة كل الفرق، ورغم ذلك كان واقفا بقوة، مدافعا عن أحلامه في التغيير وعن أفكاره التي اقتنع بها، تلك التي تحصل عليها بعد عناء وجهد شديدين.
واطلع أركون على التراث الإسلامي في ما يخص القرآن الكريم، على سبيل الوصول إلى قراءة - كان يرى - أنها جديدة، وتخرج من المحيط الضيق للدوغمائية». من اجل الكشف عن وظائف معظمها نفسي تقوم بها العقائد الإيمانية. ومن ثم لعب دورا مهما في اعادة تركيب النفس البشرية بكل تطلعاتها وتداعياتها.
ولقد أخذ البعض على أركون بعده أو تجنبه للقراءة التيولوجية الايمانية للفكر الإسلامي، ورغم ذلك فقد سار أركون في منهجه التاريخي «الانتربولوجي»، وبتطبيقه لمعيار الايستمولوجي.
مميزا بين موقفين الأول يتعلق بالإيمان والآخر بالعقل الناقد، وعلى هذا الأساس فقد تحركت فكرة أركون في مسار فهم سوسيولوجيا «التلقي أو ما يطلق عليها الاستقبال»، وبالتالي فقد عزز آراءه من خلال التأكيد على أهمية النقد التاريخي.
ووضع أركون أفكارا سابقة وقديمة وصلت الينا عبر التاريخ، على طاولة النقد والتشريح. من خلال قراءتين هما الألسنية والسيمائية النقدية، وبالتالي يرى البعض أن هذه المهنجية لم تكن خادمة للأفكار التي كان أركون يطمح إلى تمريرها إلى الوجدان، بقدر ما كانت محبطة أو مثبطة للمفعول. الذي كان من المفترض ان تحدثه في الاذهان والافكار فقضية نزع صفة الوحي عن النصوص المقدسة لم تجد رواجا لدى عامة المسلمين ولم تكن في التاريخ الإسلامي مادة من الممكن ان تصبح ظاهرة تقلب كل الموازين - كما حدث في تاريخ بعض الأديان الأخرى - وعلى هذا الأساس اصبحت افكار أركون محصلة تفتقر إلى نتيجة، فهي نتائج لا تؤدي إلى ما هو ملموس ومادي.
ورغم ذلك تبقى افكار أركون حاضرة على طاولة التقييم والبحث والتفكير، لأنها تحمل رؤى لم يتحصل عليها أركون بين ليلة وضحاها، ولكنها جاءت بعد عناء وجهد وبحث وصبر.
ولقد اتجه المفكر الراحل حامد أبوزيد في هذه الطريق - القراءة الألسنية والسيميائية للفكر الإسلامي - إلا أنه لم يصل إلى نتيجة مرجوة، قد تجد صداها في الأذهان، ومع ذلك فإن أركون يرى أن قراءة أبوزيد عادية ولم تقدم جديدا، مطالبا في الوقت نفسه بباحثين مستقلين في هذا المجال، وليس مجادلين يبحثون عن السجالات.
وبعد قراءة ماتركه لنا أركون سنجد أننا أمام أفكار ربما تحتاج إلى تحديد مساراتها لأنها - حسب رأي الكثير - لا تتفق مع قناعات عامة المسلمين، لأنه مثلا لا يمكن اعتماد التفكيكية كمنهج على القرآن الكريم. وتقديم قراءات عادية له لأننا أمام نصوص إيمانية راسخة، تختلف تماما عن الأيديولوجية التي تجنح اليها افكاره.
ويعتبر الكثير من المفكرين أن أركون من تلاميذ ابن رشد، من خلال ما تتمتع بها أفكاره من تقارب واحيانا توافق مع أفكار ابن رشد، كما أنه في بداياته الاكاديمية تأثر بطه حسين، إلا أنه بعدما درس أعماله وأفكاره خلص إلى ان غياب الانسجام كان موجودا في مشروع طه حسين الفكري.
كما أنه تأثر كثيرا بدراسته للفلسفة التي سادت القرن الرابع الهجري، بالاضافة إلى دراسته للحداثة الغربية، بكل ما تحمله من انسجام أو تنافر أو تناقض.
والراحل الدكتور محمد أركون ذو أصول أمازيغية. ولد في قرية تاوريرت ميمون الجزائرية، وكانت دراسته في مدرسة كاثوليكية صغيرة في منطقة القبائل الجزائرية، ومن اللافت أنه ظل خلال هذه الفترة من عمره يجهل العربية إلى أن دفع شظف العيش أسرته إلى الرحيل إلى ضواحي وهران، وبالتالي كان مرغما على تعلم اللغة العربية كي يتمكن من الدراسة في المرحلة الثانوية. وسرعان ما تعلم أركون العربية. واتقنها، ومن ثم التحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية في الجزائر «العاصمة»، كي يصبح بعد ذلك استاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون ومفكرا مثيرا للجدل في كل ما طرحه من أفكار تهم الإسلام واللغة العربية.