مثلما نشد على يد من هم على كل ثغر من ثغور العمل الخيري، فكذلك نحن نشد ونؤازر بقوة من هم على كل ثغر من ثغور التنمية البشرية، صناعة الفكر لا تعدلها صناعة، تعديل السلوك نحو الصحة أشرف الصناعات وأفضلها في دنيا الناس، النفس البشرية حينما تكون سوية صحيحة لا عليلة، ويساهم قائد التنمية في صناعتها، فتلك أشرف الأعمال، فكيف لو كانت نفوس من تبنيهم تعاني الخراب المركب الذي ليس لهم يد فيه؟ فإن جهدك بقدر ما يكون مضاعفاً في التعب والمثوبة معاً إلا أنه في المقابل داخلاً ضمن شرف ورفعة قدر أعلى مراتب البشرية المتمثلة في التميز في الإعجاز والإنجاز، تلك المرتبة التي في تصوري تفوق مرتبة الامتياز والشرف عند المتفوقين دراسياً، بل وتفوق التميز الإبداعي عند العاملين، إنها حقاً مهارة سامية لا يقدر على الديمومة بها، ولا المرابطة عليها إلا من أوتي جوامع الاصطبار والابتكار مجتمعان في قالب التوفيق والسداد من عند خالق مستثمري التنمية البشرية ممن أخذوا على عاتقهم حمل مسؤولية تغيير مسالك البشر بشرائحهم كافة، بل إنهم يتحملون كيل الاتهامات التي يوصمون بها بأنهم تجاريون، وغير مؤهلين، وغيرها، من التهم التي تلقى جزافاً. لماذا يا ترى هم متهمون؟ فقط لأن شريحة جزئية من هؤلاء قد أساؤوا استغلال المفتقرين لتنمية ذواتهم وضحكوا على ذقونهم وخانوا الأمانة معهم!
تلك الاتهامات لا محل لها من الإعراب، ولا موقع لها في عقول أصحاب المدارك الواسعة، فهم قادرون على أن يميزوا بين اللبيب حقاً في التنمية البشرية، والصادق في مهنته التنموية هذه، وبين من يتخذها غاية تجارية فقط!
طبعاً فرق شاسع بين الأمانة والخديعة، وبين الصدق والكذب، وبين العطاء التطوعي والربح التجاري... أكيد وبلا شك فروق ومسافات شاسعة، وهذا التفاوت نفترض في المجتمع الواعي أن يدركه ويقيم الصناع الحقيقيين، ويميزهم عن الصناع الورقيين المزيفين!
لقد اقتربت في تعاملي في دنيا الناس من أناس كثر ممن حولي بعدوا أو قربوا، شهدت التفاوت الكبير والبون الشاسع بين من يعيش ليأكل ويشرب ومبدؤه «السبهللا»، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، المصالح رأس ماله وديدن تفكيره ودوافعه، وشهدت في المقابل قيمة أناس آخرين يلتقمون حب العطاء التقاماً، والعمل الإنساني يلتحفهم التحافاً، والإنجاز غذاؤهم ودواؤهم، وصناعة البشر ديدن أوقاتهم.
عزيزي القارئ شتان وألف شتان بين من آثر في نفسه وتعاهدها نحو الإعجاز والانجاز في صناعة النفس البشرية، وبين من يعيش لينام ويضحك ويأكل ويفغر فاه لفقاعات دنياه!
أنا عندما أزور دوراً يقطن بها المسنون ممن عجز ذووهم عن إيوائهم، وحينما أستطلع أحوال الأيتام ومجهولي الوالدين في أماكن سكناهم، وكذلك المعاقون بأنواع شرائحهم شتى في دورهم، حينما أزورهم لا أدري لماذا ينتابني شعور الألم، ليس لأحوالهم فتلك أقدار الله بهم، وإنما لأني أدرك عظم الأمانة والمسؤولية التي تناديني وأمثالي لصناعة شيء لهم، لا أقصد إلباسهم ولا إطعامهم فذلك مما تكفلت به الدولة مشكورة ومأجورة، وإنما أنا أتألم لأني مدركة أن في كل ذات إنسانية عقل وقلب وجوارح لهم حق علينا في تأهيلها جميعاً، بل وتغذيتها عقدياً وفكرياً، شعورياً ومسالكياً، عندما أزور أقف متأملة متألمة لا أقدر على أن أسطّح عقلي، ولا أستطيع أن يطوف الموقف هكذا داخل أعماق ذاتي، وإنما أجد نفسي واقفة مبهوتة، يا ترى هل تمت التغذية الفكرية والشعورية القلبية والتوعية المسالكية بالقدر المشبع للذات البشرية لكل واحد من هؤلاء من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ أنا لست متأكدة ولا متيقنة من تحقيق كل تلك الإشباعات.
أنا لا أنقص من قدر الطاقات العاملة هناك خلف الأسوار، ولكني أطمع بمزيد من استثمار بشري، وتنمية ذاتية لكل من أشهدنا الله على حمل رسالة الإيواء له في دور رعاية جماعية. الأجدر والأولى بالمسؤولين أن يتجهوا برعايتهم رعاية ذات طابع خصوصي، ورعاية فردية على غرار مثيلاتها من دور رعاية في دول أخرى قد نجحت نجاحا باهرا في الرعاية الخاصة لا الجماعية. لكل فرد من أفراد الفئات الخاصة يحق لأفرادها أن يحظوا برعاية خصوصية فردية فائقة الاستثمار لذاته، فلقد زرت دوراً وبيوتاً وقرى في المملكة الأردنية الهاشمية ترعى وتؤهل ذوي الاحتياجات الخاصة وفق مبدأ الاحتفاظ لكل امرئ بذاتيته العزيزة عليه.
هل يا ترى نحن مارسنا ونمارس التنمية البشرية مع هذه الفئات بأعلى مراتبها الاستثمارية استثمارا ذاتيا؟


هيام الجاسم
كاتبة كويتية