لم تعان مدينة عربية مثل غزة، فهي رغم ما تعانيه من الاحتلال، الا ان مصائبها زادت على الحد ما بين اقتتال داخلي واضطهاد من الاخوة في رام الله إلى قتل ليل نهار من العدو الصهيوني. يخطف كل يوم خيرة شبابها وتصعد أرواحهم الى الخالق تشكو الضعف والقهر وغدر الشقيق وطغيان العدو.ولم يكتف العدو الصهيوني باستهداف أهل غزة بطائراته وقنابله وصواريخه المدمرة ليلاً ونهارا بل زاد على ذلك بالحصار الاقتصادي بمنع الغذاء والوقود والأدوية والكهرباء، أي منع جميع مقومات الحياة، وذلك كله من أجل ان تموت غزة أو ترفع غزة راية الاستسلام وتقبّل يد عدوها قاتل أبنائها ومحتل أرضها ومدمر خيراتها.ولكن غزة تلك المدينة الأبية العنيدة التي أرغمت المحتل من قبل على الانسحاب ورغم ازدحامها وفقرها حيث يسكنها نحو مليون ونصف المليون انسان في مساحة ضيقة من الارض، الا انها لم تركع رغم جميع القيود والاسوار. نعم فالحياة في غزة عبارة عن حياة داخل سجن مفتوح. وهو نوعية من السجون تسمح بحرية حركة محدودة خارج الزنازين، ولكن أهل غزة يصدق فيهم المثل العامي المصري «السجن للرجالة».نعم، فجيش الاحتلال يحيط بكل سنتيمتر حول غزة. واما سماؤها فتحت سيطرة طائرات وصواريخ العدو الصهيوني التي لا تفرق بين شيخ أو امرأة او طفل، وارضها مستهدفة من الأرض بالدبابات والمدافع الصهيونية.الحيل السياسية والوسائل والأسباب العسكرية لتركيع أهل غزة وقبولهم بشروط الاستسلام وقد وضح تماما ان المخطط كان يستهدف الآتي:- الضغط على شعب غزة كي ينفجر في وجه «حماس» بعد ان فشلت جميع الطرق في اقتلاع «حماس» ولكن الشعب الفلسطيني في غزة لم ينفجر في «حماس» بل صمد وصبر.- تصدير مشكلة غزة لمصر. ويتضح ذلك من تصريحات وزيرة خارجية العدو المحتل التي استنكرها الرئيس المصري بقوله: «انها تجاوزت الخطوط الحمراء بالخطاب العدائي ضد مصر في مشكلة الانفاق». وأخيرا قرار البرلمان الأوروبي الموجه صهيونيا في البند المخصوص عن مشكلة انفاق التهريب من سيناء لغزة. وهي مشكلة صهيونية قديمة أثارها أرييل شارون مع مصر مرات عدة.ومع تفاقم الحصار لم يكن امام أهل غزة الا مصر وبوابة رفح. وفتحت البوابة بالضغط الانساني وحدث ما لم يتوقعه أحد، فتح للحدود ودخول مئات الآلاف من الفلسطينيين الى رفح المصرية وسيناء للتزود بالطعام والوقود وجميع الاحتياجات. وكان مشهد الفلسطينيين في عبور الحدود لا يحتاج الى تعليق، فهو هروب الفارين من السجن المحطمين للقيود والاسوار من أجل الحرية، ومن ناحية أخرى كان الموقف المصري قويا وفيه ذكاء اذ عمل على:- احتواء أي انفجار انساني فلسطيني.- ايضا احتواء الجبهة الداخلية المصرية المشتعلة غضبا لحال اخوانهم الفلسطينيين.- اثبات القدرة على التعامل مع الموقف أمام العدو الصهيوني، الذي كان يتمنى تفجر الوضع بمنع الفلسطينيين بالقوة أو تفجر الوضع الداخلي.- الموقف ايضا فريد وغير مسبوق دخول آلاف الفلسطينيين من دون قيود لم يحدث مطلقا منذ الاحتلال الصهيوني لغزة، وهو يدل على ادراك سياسي مصري لتداعيات الموقف.ويبقى ان حصار غزة حرك الشارع العربي الذي تجمد بفعل موجة الصقيع السياسي الذي اجتاح المنطقة، ولكن حرارة الاخوة والمشاعر غلبت صقيع الانظمة وخرج الشارع العربي في حرارة غابت عنه منذ انتفاضة الاقصى ليعلن تضامنه مع اخوانه في غزة والقضية الفلسطينية، وضمنيا كان تأييدا لـ «حماس» وسقوطا لمشروع ابومازن ولكل مشاريع الاستسلام لطلبات العدو المحتل.ولرب ضارة نافعة، فقد عادت القضية الفلسطينية الى «المربع الاول»، رغم جميع محاولات دعاة التفاوض والاستسلام والانابوليسيين..وسبحان الله، ارادوا تركيع غزة فارتفعت القضية الفلسطينية كلها فوق الجميع، وعادت الى واجهة الأحداث، وأخيرا لقد أثبتت أحداث غزة ان سجون المحتلين وقيودهم لا توهن الرجال ما داموا ثابتين على مبادئهم، والحمد لله لن يضيع حقنا في فلسطين ما دام في الأمة رجال صامدون صابرون مثل أهل غزة.
ممدوح إسماعيل
محام وكاتب مصريelsharia5@hotmail.com