| القاهرة - من حنان عبدالهادي |
السجن قد يقيد الأجساد، لكنه حتماً لن يقيد الأرواح، ولن يكبح جماح بركان الابداع، بل قد يضاعف ثورتها وفورانها، ويزيد اشتعالها.
وهذا ما حدث مع نخبة من المفكرين والكتاب والصحافيين والادباء والشعراء والمبدعين والعرب وغير العرب، الذين اقتيدوا الى السجن، في عهود متباينة، لاسباب سياسية في الغالب، وفكرية وثقافية ودينية أحياناً، أغلبها مفتعلة، تنحصر في عدم تأييدها لمواقف الأنظمة من قضايا داخلية أو خارجية.
وبالرغم من صور الذل والاهانة والقمع، التي تعرض لها أبطال هذه السلسلة من حلقات «مفكرون خلف القضبان» - التي تنشرها «الراي» تباعاً في «فوانيس رمضان» فإنهم لم يركنوا أو يخنعوا أو يخضعوا أو «يبيعوا القضية»، بل ظلوا صامدين على آرائهم ومواقفهم، كما أن ينابيع الابداع ازدادت تدفقاً، فأثمرت أعمالاً، يتضاعف لمعانها وبريقها بتقادم السنين.
وفي هذه الحلقات نعرض لـ15 شخصية مصرية وعربية، من الرجال والنساء، زج بهم خلف القضبان لأسباب سياسية بحتة، ونعرض جانباً من معاناتهم ومأساتهم «وهذا هو الجانب المظلم»، أما الجانب المضيء، فيتجلى في أن تلك الشخصيات، استفادت من محنتها في انتاج وابداع روايات وقصص وأشعار وكتب، تبقى عنواناً مهماً لحقبة من تاريخ هذا الوطن، كما تبقى عنواناً على ان قائمة الابداع أعلى وأطول من أسوار السجون، حتى لو عانقت السماء.
 
الكاتب الصحافي الكبير المصري الراحل مصطفى أمين، من الذين قضوا سنوات خلف القضبان، بتهمة التجسس لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وكانت الصحافة هي عشق مصطفى وتوأمه علي أمين المولودين في 21 فبراير العام 1914 بحسب ما ذكرت موسوعة ويكبيديا الإلكترونية وبدآ العمل بها مبكرا، عندما قدما معا مجلة «الحقوق»، وهما في سن «18» عاما، ثم أصدرا مجلة «التلميذ» العام 1928، التي تعطل إصدارها لأنها كانت تهاجم الحكومة المصرية وتنتقد سياستها، ثم أعقبها صدور مجلة «الأقلام» وأغلقت أيضا.
بعد ذلك انضم مصطفى للعمل بمجلة «روزاليوسف» العام 1930، وتألق في عالم الصحافة، ثم انتقل للعمل بمجلة «آخر ساعة» التي أسسها محمد التابعي، وفي العام 1944، أصدر صحيفة «أخبار اليوم».

* سنة أولى سجن
دخل مصطفى أمين السجن العام 1965، أثناء فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، أما تهمة مصطفى فكانت «التجسس لحساب الولايات المتحدة الأميركية».
فترة السجن في حياة مصطفى - التي استمرت 9 سنوات وبحسب ما أورد هو في كتابه «سنة أولى سجن» - كانت من أشد فترات حياته قسوة، لكن إبداعه الصحافي والأدبي ظل متوقدا في أعماقه، ولم تمر سنوات سجنه عبثا، بل قدم واحدا من أشهر كتبه «سنة أولى سجن»، وتم تجميعه عن طريق الرسائل التي كان يبعث بها إلى شقيقه تارة وإلى زوجته تارة أخرى وسجل فيها ذكرياته في السجن.
تبع هذا الكتاب عدد من الكتب الأخرى، منها: كتاب «سنة ثانية سجن»، و«سنة ثالثة سجن»، وكان مصطفى أمين يرسل ببعض القصص سرا إلى مجلة «الصياد» اللبنانية، ولم يتم الإفراج عن مصطفى أمين إلا في عهد الرئيس السادات العام 1974.

معاناة مريرة
عانى مصطفى أمين كثيرا في السجن... حيث حُرم من أشياء كثيرة، ولكن معاناته الأكبر كانت حرمانه من الكتابة... ففي السجن كان يسمح له فقط بكتابة الخطابات إلى أهله مرتين في الشهر فقط، وقد شكل ذلك معاناة له، لأنه يتنفس الكتابة.
كشف مصطفى أمين من خلال كتاباته عن الكثير من سياسات القمع والتعذيب في السجون، حيث تُعد كتبه «سنة أولى سجن» و«سنة ثالثة سجن» و«مذكرات مصطفى أمين في الاعتقال»، وما حدث فيه أيام حكم جمال عبدالناصر في مصر، حالة من الرصد لما كان يحدث في السجن، ولأنه تناول في كتاباته كل ما يدور في السجن.

صحافي حمار
كان كل خطاب بحسب مقالات عدة لشقيقه علي أمين نشرت في مجلة الصياد البيروتية الشهيرة يتناول موضوعا معينا، وكأن مصطفى أمين أحس بنظرته الصحافية أن هذه الأوراق ستكون في يوم من الأيام مرجعا جيدا لما حدث في تلك السجون من مشاهد على الأحداث بعينه.
مما قاله مصطفى أمين في كتابه: «لقد كنت قبل ذلك أتصور أنني صحافي أعرف كل ما يجرى، ثم اكتشفت بعد ذلك أنني صحافي «حمار»، وأنني عشت في عالم آخر مختلف عن العالم الذي تحت الأرض، ولو أن أحدا روى لي ما رأيت لما صدقت أبدا، ولو أن كاتبا وصف ما لمسته بعيني لتصورت أنه يبالغ ويتخيل خيالات».
كان من بين وسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن أصدروا قرارا بمنع مصطفى أمين من الأكل والشرب، حيث ذكر مصطفى في كتابه «سنة أولى سجن»: «الحرمان من الأكل مؤلم ولكنه محتمل، ولكن العطش عذاب لا يحتمل، وبخاصة في أشهر الصيف والحرارة شديدة جدا، وأنا مريض بالسكري ومرضى السكري يشربون الماء بكثرة، وفي اليوم الأول تحايلت على الأمر، دخلت إلى دورة المياه فوجدت فيها إناء للاستنجاء... شربت من مياه الاستنجاء فوجدت الإناء خاليا ووجدت بدل الماء ورق تواليت، ومع شدة العطش اضطررت إلى أن أشرب ماء البول حتى ارتويت، وفي اليوم الثالث لم أجد بولا أشربه... اشتد بي العطش فأحسست بعذاب شديد مثل ضرب السياط، وكنت أسير في زنزانتي كالمجنون، لساني جف، فكنت أهوي إلى الأرض أحيانا ألحسها لعل الحارس نسي نقطة ماء وهو يغسل البلاط، شعرت بأنني قد أشرفت على الهلاك، وبينما أنا في حالتي هذه لا أدري ماذا أفعل أدور حول نفسي وأنا أترنح، رأيت باب الزنزانة يفتح في هدوء، ورأيت يدا تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء مثلج، فزعت... تصورت أنني جننت، بدأت أرى شبحا لا يمكن أن يكون هذا ماء إنه سراب».

الحارس المجهول
واستطرد مصطفى أمين في سرد ما عاناه من قسوة في السجن قائلا: «مددت يدي ولمست الكوب فوجدته مثلجا فعلا، فقبضت على الكوب بأصابعي المرتعشة، ورأيت حامل الكوب يضع إصبعه على فمه كأنه يقول لي: «لا تتكلم»، شربت الماء، ولكنه ليس كالمياه التي شربتها من قبل، ومن بعد، لقد كان ألذ ماء شربته في حياتي، لو كان معي مليون جنيه في تلك اللحظة لأعطيتها للحارس المجهول، وعادت الروح إليّ مع هذا الكوب، لقد أغناني هذا الكوب عن الطعام، بل عن الحرية، أحسست بسعادة لم أعرفها طوال حياتي كل ذلك من أجل كوب ماء مثلج... اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة وأغلق باب الزنزانة بهدوء، ورأيت ملامح الحارس المجهول... شاب أسمر قصير القامة، ولكنني أحسست بأنه أحد الملائكة، إنني رأيت عناية الله في الزنزانة».

تعليمات رئاسية
عقب خروجه من السجن واصل كتابته في عموده الثابت في أخبار اليوم وكان عنوان «فكرة» وهو نفس عنوان العمود الذي بدأ بكتابته شقيقه علي أمين، وعقب وفاته واصل مصطفى الكتابة فيه، وظل يكتب فيه حتى نهاية حياته، وصدر العديد من المؤلفات التي تناولت قصة حياته وكفاحه المهني.
وقال مصطفى أمين في موضوع اعتقاله: إنه كان يلتقي بالعملاء الأميركيين بتعليمات من الرئيس وأعوانه؟ ليجمع ما لدى الأميركيين من أفكار، وبالمقابل يسلمهم حكايات معينة وقصصا أحداثها محددة ومتفق عليها سلفا، بعضها حقيقة وأغلبها ملفقة، ليوهمهم بأنه مطلع على الأحداث، وهو في الواقع لا يعلم عنها شيئا، ثم إنه كان مكلفا من قبل الرئيس عبدالناصر بالاتصال بعدد من الديبلوماسيين الأميركيين، كما كان محمد حسنين هيكل أيضا، للحصول على آرائهم وأفكارهم فيما يجري في الشرق الأوسط، ليتمكن من الوصول إلى استنتاجات مفيدة له - أي للرئيس - تساعده على تخطيط سياساته.

تحايل والتفاف
كانت الرسائل التي يكتبها مصطفى أمين من محبسه إلى أخيه علي تأخذ ضمير كاتب آخر، حيث كان يريد مصطفى نشرها خارج مصر وهو ما تحقق... حيث نشرت في مجلة الصياد البيروتية بغرض التحايل والالتفاف، حتى لا يعرف أحد أنه هو كاتبها، إحدى تلك الرسائل بدأها بعبارة «كان ذنبه عند مراكز القوى أنه يتكلم...»، وبالرغم من أن هذه العبارة شطبت لكنها ظلت مقروءة مع تاريخها، وكتب فيها مصطفى أمين، ولكن بضمير كاتب آخر، وكانت الرسالة تدور حول مقدمات حرب 1967، ومدى مسؤولية قيادة القوات المصرية والصحف في الهزيمة، حيث كتب مصطفى أمين في رسالته لتوأمه علي قائلا «دخل السجن بعد عذاب وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولايزال يتكلم! لقد ظنوا عندما وضعوه في الزنزانة وأقفلوا عليه بابها 18 ساعة كل يوم أنهم قطعوا لسانه إلى الأبد، وفوجئوا به لايزال يتكلم على الرغم من الأغلال والسلاسل والقيود!».