| نادين البدير |
في موسم السفر لا أطيق التجوال ضمن جماعات السياح. ملابسهم الخفيفة. أسئلتهم السطحية. كاميراتهم. طريقة سيرهم ضمن حشود كبيرة.
مزعج أن تعرف المعلومة مع البقية، معلومة سريعة عامة وملخصة، كتلك التي يقدمها المرشد لجماعته التي تسير خلفه.
صحيح أنك تحتاج لمرشد أثناء سفرك، لكن بعضهم يشعرك بأن ما يحدث هو أقرب لعمل تجاري وعمليات البيع والشراء منها لحالة تفحص المكان الجديد ومحاولة التعرف عليه
حين تعبر بلداً كن سائحاً وحيداً. بل انسى أمر السياحة، تخيل أنك ستسكن هناك. ستحتاج إذاً أن تعرف كل صغيرة وكبيرة. سر وحدك في أزقتها، ادخل في حواريها واشرب القهوة وتغذى واضحك وتكلم مع أهلها واسأل عن قوانينها. اقرأ عنها واصنع في زواياها أسراراً لن يعرفها غيرك.
المرات التي اكتشفت بها الأماكن كنت أسير وحيدة أو برفقة شخصية متقاربة. تتعرف إلى المكان بنفسك، تراه بعينك لا بعين السائح العابر، تحلله بطريقتك، تطيل المكوث وتترك عليه بصمة وجودك، لا مرورك.
لا يهتمون لأمر المدينة التي احتوت التاريخ والمعالم وكل ما جاؤوا لأجله. يلتقطون الصور الكثيرة لأماكن صورها موزعة في كل كشك وفي المجلات والكتب. يريدون أن يثبتوا لأصدقائهم أنهم زاروا المتحف أو شاهدوا المعلم التاريخي.
كل الأمر بمجمله لا يتعدى أمر التقاط الصور وينتهي الأمر. معظمهم لا يهتم لمعرفة ما الشيء الذي تصور إلى جانبه أكثر من أنه يحمل اسماً مشهوراً تاريخياً ومعروفاً على مستوى العالم. مهم إذاً التقاط صورة معه.
أعمال ليوناردو دافنشي الهندسية ذات قيمة لا محدودة، ومع ذلك فأعداد السياح الذين يهتمون بالتقاط صورة إلى جانب إحدى روائعه الهندسية قليلة إذا ما قورنت بالجموع المحتشدة أمام الموناليزا. يدورون المتاحف والمعالم بدقائق وبمنتهى السرعة. لا يسمرهم المعلم القديم ولا يشعرون بعظمة بنائه أو يسرحون بما حدث داخله.
كنت مع صديقات نزور الأهرامات للمرة الأولى. بدأت العدسات بحشد الذاكرة بالألوان، لا أذكر أننا فعلنا شيئا غير ركوب الخيل والتقاط صورة تظهر الأهرام خلفنا. طبعا النصيحة المعتادة كانت: ولما المعرفة؟ قرأت عنها في الكتب لا وقت لدينا المهم أننا أخذنا الصور، علينا الذهاب الآن.
***
لكن رغم ذلك يبقى نمط السياحة العالمية أفضل بكثير من سياحة المفاخرة المحلية، أقله أن الأولى تتجول بأرجاء البلدان أما الثانية فعبارة عن جماعات تسافر لعدد محدد من العواصم الأوروبية وتحتشد في الشوارع ذاتها سنوياً. الخليج ينتقل برمته إلى النايتس بريدج والشانزلزيه وبورتوبانوس في ماربيا.
العادة السنوية تشكل أزمة فكرية تطرح السؤال: لماذا؟
ِلمَ اقتناء السيارات الفارهة والتسمر في ذات المقاهي وذات الأرصفة في موسم الانطلاق والبحث والمعرفة الممتعة؟ ولماذا البقاء في حدود شوارع واحدة؟ والدوران في ذات المثلث أو الدائرة؟ أم يكون الغرض التعارف واكتشاف مواطني بلدانهم المختفين عنهم في الداخل المحلي. الخروج للشارع والتحرر من الثوب والعباءة ومن قوانين منع الاختلاط وغيرها. لذا فطبيعي أن تلتقي بفتاة جاءت إلى لندن لتصطاد عريساً من بلدها الذي يصعب فيه التقاء الجنسين. الجدول اليومي موحد بين الجميع، يستيقظون ظهراً ينزلون للشارع المشهور ذاته، يقعدون حتى يبزغ فجر آخر. هؤلاء عكس السياح المعهودين. قليل أن تراهم يمسكون بالكاميرات ويلتقطون الصور. فلا شيء جديداً يلتقطونه في مكان يزورونه منذ عشرات السنوات.
المعارض، المتاحف، القصور والقلاع التاريخية لا مكان لها في جدولهم السياحي. كلها أحجار لا قيمة فعلية لها بعد انقراض أصحابها، ويضيعون أجمل متعة في الحياة. فيسافرون دون أن ينتقلون بل يبقون بأماكنهم. محدودين بذات أفكارهم.
كاتبة وإعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com
في موسم السفر لا أطيق التجوال ضمن جماعات السياح. ملابسهم الخفيفة. أسئلتهم السطحية. كاميراتهم. طريقة سيرهم ضمن حشود كبيرة.
مزعج أن تعرف المعلومة مع البقية، معلومة سريعة عامة وملخصة، كتلك التي يقدمها المرشد لجماعته التي تسير خلفه.
صحيح أنك تحتاج لمرشد أثناء سفرك، لكن بعضهم يشعرك بأن ما يحدث هو أقرب لعمل تجاري وعمليات البيع والشراء منها لحالة تفحص المكان الجديد ومحاولة التعرف عليه
حين تعبر بلداً كن سائحاً وحيداً. بل انسى أمر السياحة، تخيل أنك ستسكن هناك. ستحتاج إذاً أن تعرف كل صغيرة وكبيرة. سر وحدك في أزقتها، ادخل في حواريها واشرب القهوة وتغذى واضحك وتكلم مع أهلها واسأل عن قوانينها. اقرأ عنها واصنع في زواياها أسراراً لن يعرفها غيرك.
المرات التي اكتشفت بها الأماكن كنت أسير وحيدة أو برفقة شخصية متقاربة. تتعرف إلى المكان بنفسك، تراه بعينك لا بعين السائح العابر، تحلله بطريقتك، تطيل المكوث وتترك عليه بصمة وجودك، لا مرورك.
لا يهتمون لأمر المدينة التي احتوت التاريخ والمعالم وكل ما جاؤوا لأجله. يلتقطون الصور الكثيرة لأماكن صورها موزعة في كل كشك وفي المجلات والكتب. يريدون أن يثبتوا لأصدقائهم أنهم زاروا المتحف أو شاهدوا المعلم التاريخي.
كل الأمر بمجمله لا يتعدى أمر التقاط الصور وينتهي الأمر. معظمهم لا يهتم لمعرفة ما الشيء الذي تصور إلى جانبه أكثر من أنه يحمل اسماً مشهوراً تاريخياً ومعروفاً على مستوى العالم. مهم إذاً التقاط صورة معه.
أعمال ليوناردو دافنشي الهندسية ذات قيمة لا محدودة، ومع ذلك فأعداد السياح الذين يهتمون بالتقاط صورة إلى جانب إحدى روائعه الهندسية قليلة إذا ما قورنت بالجموع المحتشدة أمام الموناليزا. يدورون المتاحف والمعالم بدقائق وبمنتهى السرعة. لا يسمرهم المعلم القديم ولا يشعرون بعظمة بنائه أو يسرحون بما حدث داخله.
كنت مع صديقات نزور الأهرامات للمرة الأولى. بدأت العدسات بحشد الذاكرة بالألوان، لا أذكر أننا فعلنا شيئا غير ركوب الخيل والتقاط صورة تظهر الأهرام خلفنا. طبعا النصيحة المعتادة كانت: ولما المعرفة؟ قرأت عنها في الكتب لا وقت لدينا المهم أننا أخذنا الصور، علينا الذهاب الآن.
***
لكن رغم ذلك يبقى نمط السياحة العالمية أفضل بكثير من سياحة المفاخرة المحلية، أقله أن الأولى تتجول بأرجاء البلدان أما الثانية فعبارة عن جماعات تسافر لعدد محدد من العواصم الأوروبية وتحتشد في الشوارع ذاتها سنوياً. الخليج ينتقل برمته إلى النايتس بريدج والشانزلزيه وبورتوبانوس في ماربيا.
العادة السنوية تشكل أزمة فكرية تطرح السؤال: لماذا؟
ِلمَ اقتناء السيارات الفارهة والتسمر في ذات المقاهي وذات الأرصفة في موسم الانطلاق والبحث والمعرفة الممتعة؟ ولماذا البقاء في حدود شوارع واحدة؟ والدوران في ذات المثلث أو الدائرة؟ أم يكون الغرض التعارف واكتشاف مواطني بلدانهم المختفين عنهم في الداخل المحلي. الخروج للشارع والتحرر من الثوب والعباءة ومن قوانين منع الاختلاط وغيرها. لذا فطبيعي أن تلتقي بفتاة جاءت إلى لندن لتصطاد عريساً من بلدها الذي يصعب فيه التقاء الجنسين. الجدول اليومي موحد بين الجميع، يستيقظون ظهراً ينزلون للشارع المشهور ذاته، يقعدون حتى يبزغ فجر آخر. هؤلاء عكس السياح المعهودين. قليل أن تراهم يمسكون بالكاميرات ويلتقطون الصور. فلا شيء جديداً يلتقطونه في مكان يزورونه منذ عشرات السنوات.
المعارض، المتاحف، القصور والقلاع التاريخية لا مكان لها في جدولهم السياحي. كلها أحجار لا قيمة فعلية لها بعد انقراض أصحابها، ويضيعون أجمل متعة في الحياة. فيسافرون دون أن ينتقلون بل يبقون بأماكنهم. محدودين بذات أفكارهم.
كاتبة وإعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com