|ريشة وقلم علي حسين الجاسم|
في عام 1952 قرر والدها عبدالوهاب القطامي أن يرسلها بصحبة أخيها الى بريطانيا لمتابعة تحصيلها الجامعي في رحلة شاقة حتى وصلا الى لندن.
وكان بامكان والدها المقتدر عبدالوهاب القطامي أن يرسل ابنته للدراسة في احدى جامعات الدول العربية، ولكنه كان يرغب أن يعرفها على ثقافات أخرى، وقد سببت له رغبته تلك مشكلات مع عائلته، اذ قاطعته العائلة معتبرة أن ما قام به خروج على تقاليد وعادات الأسرة، لتصبح «لولوة الصغيرة» أول فتاة كويتية خليجية تخرج للتعليم خارج بلدان الخليج العربي، ولقد مدها اصرار والدها وثقته بها بالفخر بين زملائه في الغربة، وهي «البدوية الآتية من قعر الجزيرة».
انتسبت لولوه... بعد وصولها لندن الى مدرسة راهبات راقية لا يدخلها الا علية القوم من المجتمع الانكليزي، واجتازت بنجاح السنتين الأوليتين، من الدراسة التمهيدية حسب النظام البريطاني، وفي «الدير» فرضت احترامها على الموجودين هناك من خلال احترامها لدياناتهم. وكانوا يستغربون كيف لهذه المسلمة أن تعيش معهم في «دير الراهبات» حتى ظن الجميع أنها ستصبح «راهبة» وكانت ترد عليهم: «لكم دينكم ولي دين».
وخلال اقامتها تعلمت أشياء كثيرة، منها أكل التفاح، الذي جرّ لها «القصاص» يوما وذلك عندما أعجبتها تفاحة في بستان الدير وحدثتها نفسها بأكلها، فأسقطتها بضربة من كرة التنس، وبالصدفة شاهدتها احدى الراهبات وأخبرت المسؤولة فكان عقابها حجز يوم كامل.
تابعت «لولوه» دراستها الجامعية بعد ذلك في اسكتلندا. تحقيقاً لرغبة والدها، الذي أرسل اليها خطابا يطلب منها أن تلتحق بكلية التربية. لتكون مدرسة أجيال، وذلك لحاجة الوطن الناهض الماسة للكفاءات في هذا المجال.
وتعلق على تلك الخطابات والرسائل التي كانت تتبادلها مع أبيها: «كنت أكتب اليه الرسائل باللغة العربية الفصحى وأتلقى منه نصائحه وكان يجيئني الرد، وفيه توضيح لأخطائي اللغوية».
وتذكر «لولوه» أمينة سر اتحاد طلبة الكلية كيف لعبت الصدفة في متابعة تحصيلها الجامعي على حساب المكتب الثقافي الكويتي، والذي تديره سيدة بريطانية مسؤولة عن 12 طالبا من طلبة الكويت، يدرسون كبعثة فتقول: «عندما جاء الشيخ عبدالله الجابر ليطمئن على الطلبة المبعوثين في لندن كنت ضمن الحضور، وعندما رآني نظر الي منبهراً، وقال كيف توجد هنا ابنة من بناتنا، تدرس في بريطانيا، وأنا لا أعرف بصفتي مدير ادارة المعارف؟ فشرحت له بأنني أدرس على حساب والدي الخاص، وهنا تعطف وضمني للبعثة الكويتية، وأنا لا أنسى موقفه النبيل مني مدى الحياة.
بعدها عادت «لولوه» الى الكويت مباشرة عام 1960م، ثم التحقت كمدرسة لغات «انكليزي وفرنسي»، في ثانوية المرقاب للبنات وحرصت على ألا تكلم طالباتها باللغة العربية، ومرت ثلاثة شهور لم يكتشف أحد شخصيتها فكانوا يلقبونها بـ «مس قطامي» أو «مدموزيل قطامي» وسبب هذا كما تقول: «ان عدم كشف هويتي كان بهدف اجبار بناتي على التحدث باللغة الانكليزية، لأن واجب مدرس اللغات التحدث مع طلبته باللغة التي اختير لتدريسها، وأخيرا عرفت الطالبات بأنها كويتية «بطن وظهر».
ولعل آراء «لولوه» المدرسة قد جرتها الى معركة معروفة في تاريخنا المعاصر عرفت بـ «معركة الحجاب والسفور» في بلد مازال يستقدم معلماته من الدول العربية في المطار، وقبل أن تنزل المدرسة من الطائرة يقدم لها أحد موظفي العلاقات العامة بوزارة التربية هدية متواضعة، تتمثل بعباءة وبوشيه!
لقد أخذت لولوه القطامي على عاتقها مسؤولية انقاذ بنات جنسها من هذا الغطاء الذي تستهجنه مبدية رأيها فيه، حيث قالت: «عندما أتيت على التدريس في ثانوية المرقاب كنت الوحيدة التي لا ترتدي العباءة والبوشيه، بين ما يقارب من ألف طالبة تدثرت بالعباءات، لأن أولياء أمورهن يرفضون سفور الفتاة وكوني مدرسة يجب اعطاء المعلومات الصحيحة فعندما كانت تسألني احدى طالباتي: لماذا لا ترتدين العباءة؟ أقول لها: «ليس ستر المرأة بالعباءة وحسب، بل بتصرفاتها وبأخلاقها الحميدة».
وكنت يوما ناظرة بالوكالة، وجاءتني مدرستان تطلبان الذهاب الى خارج المدرسة لقضاء بعض حوائجهما، وقد سمحت لهما، ولم يستغرق مشوارهما أكثر من نصف ساعة وعندما عادتا رن جرس الهاتف في مكتبي وكان وكيل الوزارة على الخط، وهو فيصل الصالح، يستفسر مني عن مدرسات سافرات، فأجبته: كيف يطلب مني أن أجبرهما على لبس العباءة وأنا سافرة؟
ولم تكتف الآنسة «لولوه» بموقفها من ارتداء العباءة ففي المرقاب الثانوية راودتها هي والخريجات الأوائل: فضة الخالد، وفاطمة حسين، وسعاد السيد رجب، فكرة انشاء ناد نسائي يسعى لنهضة الفتاة الكويتية، وبالفعل تم الاجتماع في سرداب بيتها، ووضعن القانون الأساسي للنادي، وتم رفعه الى وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، آنذاك السيد حمد الرجيب، الذي تطلّع اليهن بدهشة بالغة، بعد قراءة مذكرتهن، وقال: « أنتن تتكلمن في أي بلد؟ وأي عصر؟ واحدة كانت تدرس في اسكتلندا وواحدة تدرس في القاهرة والأخرى في بيروت... هل تريدون خلق المشاكل لنا؟».
ورفضت الفكرة من أساسها، الى أن تقدمت مرة أخرى عضوات اللجنة التأسيسية بطلب آخر في عام 1963 وهن: سبيكة أحمد الفهد، وسعاد سيد رجب، ودلال المشعان الخضير، وليلى حسين القناعي، ونجيبة محمد جمعة، وفاطمة حسين، وشيخة العنجري، وشريفة عبدالوهاب القطامي، وغنيمة ياسين الغربللي، ولطيفة عيسى الرجيب، وصبيحة الغربللي، وفضة أحمد الخالد، ولولوة عبدالوهاب القطامي، ومنيرة الخالد، بعد تغيير البند الأول من الطلب السابق، حيث تم طلب اشهار جمعية بدلاً من النادي، ووافقت الوزارة، وتم اشهار الجمعية الثقافية النسائية في الجريدة الرسمية.
وقد ركزت الجمعية في سنواتها الخمس الأولى على مد جسور قوية بين البيت والمدرسة، بجانب بعض الأعمال الاجتماعية التي تفيد المجتمع، كمشروع أسبوع النظافة الذي يهدف الى توعية الناس بعدم رمي النفايات في الشارع، وضرورة وضع حاويات لها.
وكان لا بد لعضوات الجمعية أن يبدأن بأنفسهن بالتوعية فقمن بحملة تنظيف الشوارع وكن يخرجن منذ الصباح الباكر، ولا يعدن الا في المساء، وقد وجدت تلك الحملة من قبل بنات لمجتمع المخملي المرفهات - كما يحلو للبعض أن يسميهن- كل تقدير وتجاوب من مدير عام بلدية الكويت آنذاك الفاضل جاسم المرزوق، الذي وضع كل امكانات البلدية من أدوات النظافة وسيارات القمامة تحت تصرفهن.
لم تنقطع لولوة القطامي عن «جمعيتها» التي عرفت بين منتقديها باسمها حيث تضطر لترشيح نفسها قبل فتح باب الترشيح الا أنها أصرت في النهاية على عدم ترشيح نفسها لرئاسة الجمعية بسبب وضعها الصحي ورغبتها بافساح المجال للناشطات من الجيل الجديد في العمل الأهلي.
ومما يذكر في ختام رحلتنا مع أول كويتية مارست العمل التطوعي، وأطلقت اسم الكويت في المحافل النسائية، أنها قبل الغزو العراقي الآثم تسلمت كتاباً من منظمة اليونسكو، بتسميتها «سفيرة للسنة الدولية لمحو الأمية» وذلك تقديراً لجهودها الكبيرة في محو الأمية داخل الكويت، وهي التي افتتحت أول فصولها في مقر الجمعية الثقافية النسائية.


* كاتب وفنان تشكيلي
Ali_watercoulor@hotmail.com