الحريات مسألة مبدأ لا نختلف مع مناصريها، بل نناصرها في كل اتجاه، فهي قيمة ترتبط بالإنسان وجوداً وعدماً، ولا طعم للحياة الكريمة من دونها، ولا أتصور نفسي أعيش عبداً لمنصب، أو مال، أو شخص يوماً من الأيام.
ولكن لماذا يختلف الناس في نظرتهم لمستوى الحرية، وهل الحرية مطلقة، أي لا ضابط لها، وهل وجود الأنظمة والقوانين والأعراف، أو حتى الأسباب الشرعية، يناقض مبدأ الحريات؟ إنه تساؤل مشروع، وهو مثار شبهات لأصحاب الفكر الليبرالي، الذي يقوم على مبدأ الحرية المطلقة في مجال الاقتصاد ابتداء، ولكنه سرعان ما انطلق بعدها في كل الاتجاهات ليشمل جوانب الحياة جميعها.
وقد طرح الدكتور فؤاد زكريا فكرة تبدو في غاية الغرابة ظاهرياً في كتابه الرائع «التفكير العلمي»، حيث قال «لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظل يفرض على نفسه مزيداً من القيود لكي ينال مزيداً من الحريات. وهذا تعبير يبدو متناقضاً: إذ كيف تُفرض القيود من أجل ضمان الحريات، ولكن من السهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور، لكي ننال بذلك مزيداً من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطل إحدى الإشارات، الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطي السائق أو السائر (حرية) السير كما يشاء، يؤدي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يسببه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعاً، إذ ننتقل من حالة (الحرية) العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يحقق لنا مزيداً من الحرية». انتهى.
إنه الدمار المنظم إذاً، عندما تكون هناك حرية عشوائية، ففي كل مجتمع لابد من حريات منضبطة منظمة، ففي أعرق الدول ديموقراطية في العالم نجد قوانين تنظم البشر، وأعرافاً (غير رسمية) تحكم الناس، وتوجه أفعالهم وسلوكياتهم وإن كانت غير مكتوبة.
من دون تلك القوانين والضوابط والأعراف، سواء الرسمية منها، أو غير الرسمية، تتحول المجتمعات إلى كائنات يأكل القوي منها الضعيف، والكبير الصغير، ومن دونها يمكن أن تنتهك قيم رائعة مثل قيمتي (الوطن) و(المواطنة)، من باب الدفاع عن قيم (القبيلة) أو (المذهب) أو (العائلة) أو (الذات) أو حتى (النادي الذي أشجعه) و...، و...، وهلم جرا.
د. عبداللطيف الصريخ
كاتب كويتي
alsuraikh@yahoo.com
ولكن لماذا يختلف الناس في نظرتهم لمستوى الحرية، وهل الحرية مطلقة، أي لا ضابط لها، وهل وجود الأنظمة والقوانين والأعراف، أو حتى الأسباب الشرعية، يناقض مبدأ الحريات؟ إنه تساؤل مشروع، وهو مثار شبهات لأصحاب الفكر الليبرالي، الذي يقوم على مبدأ الحرية المطلقة في مجال الاقتصاد ابتداء، ولكنه سرعان ما انطلق بعدها في كل الاتجاهات ليشمل جوانب الحياة جميعها.
وقد طرح الدكتور فؤاد زكريا فكرة تبدو في غاية الغرابة ظاهرياً في كتابه الرائع «التفكير العلمي»، حيث قال «لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظل يفرض على نفسه مزيداً من القيود لكي ينال مزيداً من الحريات. وهذا تعبير يبدو متناقضاً: إذ كيف تُفرض القيود من أجل ضمان الحريات، ولكن من السهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور، لكي ننال بذلك مزيداً من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطل إحدى الإشارات، الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطي السائق أو السائر (حرية) السير كما يشاء، يؤدي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يسببه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعاً، إذ ننتقل من حالة (الحرية) العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يحقق لنا مزيداً من الحرية». انتهى.
إنه الدمار المنظم إذاً، عندما تكون هناك حرية عشوائية، ففي كل مجتمع لابد من حريات منضبطة منظمة، ففي أعرق الدول ديموقراطية في العالم نجد قوانين تنظم البشر، وأعرافاً (غير رسمية) تحكم الناس، وتوجه أفعالهم وسلوكياتهم وإن كانت غير مكتوبة.
من دون تلك القوانين والضوابط والأعراف، سواء الرسمية منها، أو غير الرسمية، تتحول المجتمعات إلى كائنات يأكل القوي منها الضعيف، والكبير الصغير، ومن دونها يمكن أن تنتهك قيم رائعة مثل قيمتي (الوطن) و(المواطنة)، من باب الدفاع عن قيم (القبيلة) أو (المذهب) أو (العائلة) أو (الذات) أو حتى (النادي الذي أشجعه) و...، و...، وهلم جرا.
د. عبداللطيف الصريخ
كاتب كويتي
alsuraikh@yahoo.com