| نادين البدير |
 باريس حارة. صيفها خانق كما يقول الفرنسيون. لكنه معتدل ممتع للقادمة مثلي من لهب الخليج الحارق ودرجاته التي تصل لما فوق الخمسين. الناس مستاؤون لكني لا أشعر بأي ضيق، طالما أن الحرارة تحت الثلاثين فأنا بالنعيم.
باريس رومانسية. تنضح بالحب. تكسر قاعدة الشعراء التي تشبه المدينة بالفتاة، فلم تخلق بعد امرأة تنافس جمال باريس وغوايتها. وتكسر قاعدة القول بأن أبشع شيء هو السير وحيدا ببلد الرومانسية إذ لم أشعر بذلك، فالحب يغلفك. الحب هنا يتعدى العلاقة بين الأشخاص. يغدو بينك وبين المدينة، بينك وبين تاريخها وثوراتها وحريتها وحروبها ومجازرها وأرواح قتلاها وقصص عشقها ومقصلاتها التي جزت رؤوس هراطقة وفلاسفة وملوك ونبلاء. أتجول بين قصور وأبنية ومسارح باقية كما كانت لحظة بناها، لم تهدمها الثورة انتقاماً للفقراء بل أبقتها معلماً شامخاً تدعمه قيم الحرية والديموقراطية وميل حضاري للحفاظ على التاريخ. ثم أمضي بقية اليوم عند نهر صاف تربط ضفتيه جسور رزينة تود لو تستلقي على رصيفها أو تكمل على حافة سورها بقية العمر ترقب من تحتك السفن وضفاف العشاق ومختلف المارة.
قالت لي صديقتي: لا أصدق أن السفارة السعودية في باريس تدعوك للمشاركة بوفد إعلامي رسمي، في سنوات خلت لم تكوني لتتلقين ذات الدعوة.
أجبتها مبتسمة: أليس دليلاً على أننا نمر بفترة إصلاحية ؟
في الطائرة كنت أفكر بكلامها بشيء يسير من القلق. أخذت أستعد لسماع تعليقات عديدة وأستعد للرد، ثم حاولت أن أسترخي على مقعدي فلست ذاهبة لمعركة. الأمر لن يكون أكثر من مجرد لقاءات عابرة، كانت المشكلة أني لم أعتد المشاركة بالوفود الرسمية. اعتدت الكثير من الدعوات ما عدا ما له علاقة بالرسميات والوجود ضمن أطر الديبلوماسية.
ولأن المظهر المحافظ مهم بالنسبة لمجتمع كالمجتمع السعودي فقد أنفقت ثواني عدة لمعرفة: ما الزي الملائم للمناسبة؟
هل علي ارتداء زي طويل وقاتم؟ وفي لحظات قررت كعادتي أن أكون نفسي، وأن أرتدي ما كنت لأرتديه في أي مناسبة أخرى. وسأتحمل النتائج. ولم تكن هناك نتائج، لم يعلق أحد ولم يشح أحد ببصره ولم أستمع لأي تعليق ديني كالتعليقات التي تسمعها النساء في الشارع السعودي من أفراد عاديين يسيرون معتقدين أنهم وحدهم حاملو راية الدين وسلطة التحكم بملابس البقية كما لم أتلق والسيدات المشاركات أي بيان يخبرنا كيف تكون أزياؤنا رغم أن جهة الدعوة هي الممثل الرسمي للدولة في الخارج.
استقبلنا السفير السعودي الدكتور محمد آل الشيخ وزوجته الرقيقة الدكتورة فاديا البيطار وأعضاء السفارة هناك. قمنا بزيارات متعددة، إحداها لوزارة الثقافة الفرنسية، وأخرى لمركز الدراسات العربية في باريس، كما أمضينا أمسية رائعة بالمدرسة السعودية حيث جرى حفل تكريم الروائي السعودي المبدع عبده خال الحائز على جائزة البوكر لهذا العام عن روايته «ترمي بشرر». التقينا إعلاميين ومثقفين ومسؤولين. تجولنا في أنحاء مكتبة فرانسوا ميتران، ستذكرك طرقهم المتقدمة جداً بحفظ الكتب والمراجع ومختلف الدوريات بمقدار تراجعنا وتخلفنا عربياً على مستوى المكتبات العامة، وبالطبع لم تنته الجولة دون اللوفر.
زرت باريس من قبل لكني اليوم أراها بعيون سعودية. السفارة السعودية هناك غريبة بكل تفاصيلها وأشخاصها وطريقة عملها. سفارة (مودرن) وفي ذات الوقت تحمل نفحات تمدك بشعور غزير بحماس واشتياق للوطن.
لقد اعتدنا نموذجا معيناً للسفير التقليدي الذي يأبى الخروج عن المعهود. يخشى المجازفة وتقديم الجديد. لا يبدع إنما يتبع نمط الأولين. أما سفيرنا هناك فنظم حفلا تكريميا بمشاركة وزارة الثقافة الفرنسية للاحتفاء بروائي سعودي يهاجمه التقليديون وترشقه الاتهامات دون أن تشفع له البوكر لتخفف العقوبة الكلامية والنقدية التجريحية تجاه المبدعين في وطننا العربي. استضفت عبده خال في أوائل حلقات برنامجي (مساواة). حاورته وانبهرت بقدرته العجيبة على سرد الحقيقة. صدم المجتمع وقتها وانهالت الردود إثر الحلقة فكتبت عنها المقالات. قالوا انه كافر، ابتعد الرجل عن التقاليد. متحرر. يريد تخريب المجتمع. لكن خال برأيي ورأي المنطق من أوائل الذين أحبوا الوطن وأرادوا الانتصار للمجتمع.
كيف تكرم الدولة ذات الطابع الإسلامي شخصاً متهما بالكفر؟
على مأدبة عشاء يعلق السفير آل الشيخ بقوله: نحن ننتمي لدولة تسعى اليوم للتغيير لكن المجتمع يرفض ذلك، وهذا عكس الطبيعة البشرية للمجتمعات التي تحارب لأجل الإصلاح.
كيف وصلنا لهذه المرحلة؟
تثور المجتمعات قبل مئات السنين وتموت لأجل الحرية، وما زلنا نحارب من أجل الثابت والسائد والقيود؟ وما زلت أقرأ تعليقات قراء ترفض ثقافة الاختلاف وتثور ضد ثورة الفكر والحرية بكل معانيها.
أتبقى الدولة الثائرة الوحيدة؟ الظروف تدفعها للثورة. العولمة. السياسة الخارجية. الحرب على الإرهاب. الانفتاح. الحاجة للقضاء على التطرف والعودة للطبيعة.
بالطبع نحتاج لقوانين تدعم الإصلاح، لكن هذا لا يعني أنه لا يمارس أو غير موجود. هناك مئات الآلاف من المبتعثين السعوديين والسعوديات في أوروبا وأميركا. العلم ليس الدافع الوحيد وراء الابتعاث الحكومي بل تغيير التركيبة الثقافية والفكرية لأجيال ولدت زمن التطرف. أجيال سعودية أرى بعضها يسير هنا حيث سار فولتيير فتقرأ له ولجان جاك ولسيمون ولهوغو. أجيال تحكي الفرنسية وتعتقد أن ثمة روابط إنسانية تربطها بالآخر بغض النظر عن إيمانه ومعتقده.
سألني أصدقاء فرنسيون عن زيارتي واختصرت الإجابة فلن يعرفوا شيئاً عن تفاصيل سفارة السعودية بفرنسا. فاجأوني بابتسامتهم وسردهم لمواقف السفير السعودي هناك، تحدثوا عن شهرته وذكائه وأخلاقه. وكيف أنه يعكس موقفاً متقدماً للسياسة الخارجية السعودية، ولم تكن مجاملة ولم يكونوا من النوع الذي يجامل. ولست من النوع الذي يكتب المجاملات لكني تأثرت برقي الموقف السعودي في تعيين رجل يمكنه أن يقدم الكثير في مجال العلاقات الدولية.
باريس تعانقني كي لا أتركها، ترشدني صوب الحي اللاتيني الذي جذبني. أسكرني وأمضيت به ساعات وأياما، حتى رأيت أرواح الأدباء القدامى أمامي تكتب وترسم. هل تمنيت لو عشت عهد الفلاسفة والدماء؟
لا. أتمتع اليوم بالحرية التي وهبوها للعالم. وأعرف أن العراك في سبيلها سيكون طويلا في بلادي لكنه مجزياً بالتأكيد.


كاتبة وإعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com