في مفاجأة غير متوقعة خرج البرلمان الأوروبي على العالم بقرار في 17 يناير الجاري ينتقد سجل مصر في حقوق الإنسان. وبمجرد عرض مشروع القرار اندلعت عاصفة من النقد الحكومي في مصر من جميع المراكز السياسية العليا سواء من وزير الخارجية الذي قال: «إن القرار يكشف جهلاً معيباً من البرلمان الأوروبي بوضع مصر أو كيفية التعامل معها، وكذلك بالتطورات والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها خلال الأعوام السابقة»، حسب قوله.وأضاف: «إن مصر لا تحتاج إلى تلقي دروس من أي طرف، وخصوصاً إذا اتصف هذا الطرف بقدر عال من العنجهية المشوبة بالجهل». واعتبر رئيس مجلس الشعب الدكتور أحمد فتحي سرور أن قرار البرلمان الأوروبي تدخل سافر في الشؤون الداخلية لمصر.وأعلن سرور باسم مجلس الشعب رفضه للغة الاستعلاء التي وردت في هذا المشروع الذي استخدم لغة غير معروفة في لغة البرلمانات.وهدد سرور، بأن مجلس الشعب سوف يدرس قطع علاقته بالبرلمان الأوروبي وبالمجلس الأورومتوسطي وسائر اجتماعاتهما مادام البرلمان الأوروبي يستخدم لغة الأوامر والاستعلاء رافضًا لغة الحوار.وشمل الاعتراض مجلس الشورى أيضاً، واستدعت الخارجية المصرية 27 سفيراً للاتحاد الأوروبي وأبلغتهم اعتراضها على القرار، وانتقل الاعتراض إلى التهديد بمقاطعة البرلمان الأوروبي والأورومتوسطي.لكن كانت أهم ملاحظة تستوقف المتابعين هي قوة الاعتراض المصري اللافتة جداً، إذ شمل القرار جمعاً مختلطاً من البنود، منها ما جعل الشك في مغزى القرار عنواناً للاعتراض، مثل الحديث عن تهريب السلاح من أنفاق من سيناء لغزة، وهو اتهام صهيوني معروف لمصر.ثم كانت حزمة البنود التي شملها القرار تحمل ما يمكن أن يطلق عليه في رأيي تكتيكاً مقصوداً لجمع الفرقاء في الساحة المصرية على الإذعان للقبول للآتي:1 - شملت بنود القرار ما يخص التعذيب، وهو ما يثير المشاعر العامة، ويرضي المنظمات الحقوقية وجماعات المعارضة سواء الإسلامية أو العلمانية المتضررة من التعذيب. لكن الحكومة ترد بأنها تتقدم في ذلك الشأن، وأحالت ضباطا للمحاكمة، وصدرت أحكام بالإدانة من المحاكم.2 - شمل القرار إدانة المحاكم العسكرية، وهذا ما يرضي جماعة «الإخوان» التي يعرض أربعون من قياداتها للمحاكم العسكرية الآن، وهذا ما يجعلها في حرج ما بين الرفض للقرار جملة أو قبوله جملة.3 - شمل القرار الدعوة للإفراج عن رئيس «حزب الغد» أيمن نور المرشح السابق لرئاسة الجمهورية المحكوم عليه بالسجن خمس سنوات في قضية تزوير، وهذه دعوة تلقى قبولاً من مؤيدي نور والمتعاطفين معه، وإن كانت تصطدم بالريبة من تدخل البرلمان الأوروبي لشخص معين في ظل وجود حالات كثيرة مشابهة تتطلب التدخل للإفراج، فلماذا هو فقط؟ 4 - انتقد القرار استبدال قانون الطوارئ بقانون استثنائي آخر، أي قانون الإرهاب، وهذا ما يرضي شريحة كبيرة من الجماعات الإسلامية والسياسية المتخوفين من تقييد كبير في الحريات.5 - شمل القرار الدعوة إلى حرية الصحافة ورفع القيود والتهديد بسجن الصحافيين، وهذا يلاقي قبولاً عند الصحافة المعارضة.6 - وأخيراً لم يفت القرار الإشارة إلى ما يسمى زوراً اضطهاد الأقليات في مصر «الأقباط والبهائية والقرآنيين وغيرهم»، وهو ما يوافق طلب البعض منهم، ولكنه يستفز الحكومة وغالبية الشعب المصري بمختلف انتمائه الديني. وكان لافتاً في البند السادس من القرار إشارته إلى حتمية استقلال السلطة القضائية بإلغاء كل ما يقيد استقلالها، ولم ينس القرار أن يشير في البند العاشر إلى إنهاء التدخل الأمني في جميع مناحي الحياة العامة.هذه البنود هي أهم ما اشتمل القرار الأوروبي عن حقوق الإنسان في مصر. والملاحظ أن اندفاع الحكومة المصرية في الرد الغاضب له ما يبرره في بعض النقاط، مثل حالة الحريات التي تشهد تحسناً طفيفاً سواء في حرية الصحافة، أو الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين الإسلاميين بلغ ما يقرب ألفين من المعتقلين في السنة الماضية على أثر ما سمي مراجعات تنظيم الجهاد.لكن يبقى المجال العام في الحريات يعاني من تقييد يحتاج إلى انفراجة سياسية.لكن مصر ليست نشازاً في ذلك، فوضع حقوق الإنسان في العالم كله لا يتحقق فيه المنشود، بل إن وضع حقوق الإنسان في شمال أفريقيا كله يعاني من انهيار وليس مساوئ، وهذا أمر معروف. أما ما يُطلق عليه الأقليات تجاوزاً، فالكثيرون في مصر من غير القريبين من الحكومة، بل من المعارضة، يعتبر الحديث في هذا الشأن ابتزازاً واضحاً، بخلاف أن أوضاع الأقليات سواء العرقية أو الدينية في أوروبا متردية جداً، فلماذا مصر فقط تنتقد من غير مبرر؟ثم إن الأمر يخضع هنا للخصوصية والهوية الخاصة بالدولة، ما يعتبر حقاً تدخلاً سافراً، لكن يبقى أن إلغاء المحاكم العسكرية له ما يبرره، والتخوف من قيود لحريات جديدة في قانون الإرهاب كبديل لقانون الطوارئ له ما يبرره.لكن الملحوظة المهمة التي ينبغي التوقف أمامها أنه لم يصدر قرار من هذا البرلمان بخصوص أفظع مذابح في التاريخ ضد الفلسطينيين وحصارهم في غزة وتجويعهم، وأن القرار صدر في ظل استمرارية تلك المذابح المروعة، بل إنه شمل إدانة مصر في أنفاق التهريب واتهاماً بالمساعدة بذلك في أعمال إرهابية. عجباً من يقتل ويدافع عن أرضه إرهابي، والقاتل السفاح ديموقراطي!علامات استفهام كثيرة تجعل الغضب المصري مبرراً جداً، واتهام مصر بأن اللوبي الصهيوني وراء القرار مبرراً، خصوصاً أنه سبق القرار خلافات مصرية - إسرائيلية على ما سمي أنفاق التهريب. لذلك يبقى القرار الصادر من البرلمان الأوروبي فيه من الخبث الكثير، فقد عمل على تحييد قوى المعارضة بإعطائها ما تريد من طلبات في الحريات.ثم ضرب الحكومة المصرية ضربة استراتيجية مباشرة في ما يتعلق بأمنها القومي بحيث تعارض القرار. ولكنها تقف وحيدة شعبياً في احتجاجها، إذ لبى القرار طلبات جميع الفرقاء في الساحة المصرية. لذلك لم يكن قرار البرلمان الأوروبي حقوقياً بقدر ما كان انتقائياً خبيثاً موجهاً لمصر، ولا أشك في ذلك.
ممدوح إسماعيل
محام وكاتب مصريelsharia5@hotmail.com