البعض القليل في المنطقة العربية كان يأمل من زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة بعض الأمل في مسار القضية الفلسطينية، ولكن خاب وضاع هذا الأمل السراب منذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس الأميركي، وظهرت غيوم سوداء تلتها دماء على أرض فلسطين.فما أن نزل الرئيس الأميركي بوش من على سلم الطائرة يوم التاسع من يناير الجاري على أرض فلسطين المحتلة وعلى الأرض المغتصبة المسماة زوراً «مطار بن غوريون» للعدو المحتل، إلا وأعلن تأييده للدولة اليهودية الإسرائيلية. ربما يعلق أحدهم: وما الجديد؟الجديد أنه إعلان عقائدي وليس إعلانا وتأييدا سياسياً. الجديد أنه لم يكن زلة لسان، كما قيل عن تصريح بوش عقب الحادي عشر من سبتمبر إعلان الحرب الصليبية. فقد مضت الأيام ولم يبرر أو ينفِ أحد التصريح. إن ألفاظ بوش الواضحة عن تأييده للدولة اليهودية هو تكريس للصراع العقدي الذي يتهرب منه الكثيرون من السياسيين.نعم، فمنذ احتلال فلسطين، والبعض من النخبة المثقفة والسياسية في عالمنا العربي يصر على إبعاد أي تلامس ديني في الصراع مع اليهود، مع أنه أوضح من ضوء الشمس، فالاحتلال شمل أعظم مقدسات المسلمين المسجد الأقصى «ثالث الحرمين»، والاحتلال عمل إلى تغيير المعالم الإسلامية بأخرى يهودية، مثل «حائط البراق» استبدله بما يسمى في عقيدة اليهود «حائط المبكى».فضلاً عن أن الاحتلال قام على عقيدة دينية عند العصابات الصهيونية، ولكن أبداً هذا كله لم يشفع عند أولئك النفر السياسيين العرب ومثقفيهم في رؤية الاحتلال اليهودي لفلسطين، وأفضل ما خرج من القوميين العرب أنه احتلال صهيوني. ولكن الرئيس الأميركي بوش كان له رأي آخر بإعلانه تأييده للدولة اليهودية، وهو ما أثار القلق، ليس في المنطقة العربية وحسب، بل في العالم أجمع. فالكثيرون من المثقفين والسياسيين في العالم رفضوا مقولة صراع الحضارات وحاولوا قدر جهدهم وضع ما يدور في العالم من نزاع واحتلال في نطاق ضيق، أو تحت مسمى «الحرب على الإرهاب» فقط.لكن الرئيس الأميركي يبدو أن له رأياً آخر ينبع من خلفية انتمائه للمحافظين الجدد وعقيدتهم الدينية العنصرية، وهي عقيدة متطرفة يخالفه فيها الكثيرون من السياسيين الأميركيين والشعب الأميركي.لكن البعض يفسر مقولة بوش عند نزوله في مطار بن غوريون «وهو أرض فلسطينية مغتصبة»، يفسرونه أنه تعبير عن الانحياز الكامل لدولة الاحتلال. ولكن آخرين يذهبون إلى طريق آخر في توضيح مقولة بوش أنها تعبر عن غطرسة القوة أو العولمة الأميركية الجديدة التي عبر عنها اليهودي كيسنجر في معرض كتابه عن العولمة، عندما قال: «إن القوة هي الحق، ومن يملك القوة فقد ملك الحق». لذلك يبدو أنها رسالة مختصرة إلى التائهين كلهم في دروب السياسة والغارقين في مشكلة القضية الفلسطينية، وحتى أولئك الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال، حتى يرى الجميع أنهم لم يقرأوا الرسالة، رغم أنها جاءتهم بالطرق كلها. وقد عمل بوش في ما يمكن أن نطلق عليه المذكرة التفسيرية لتصريحه الخطير، إذ مضى بوش يؤكدها بوقائع عملية في زيارته للأرض المحتلة بنفيه عودة اللاجئين، وعدم تحديده أي شيء متعلق بما زعمه عن إقامة دويلة فلسطينية وزيارته للأماكن المتهودة في القدس، وتضامنه مع المحتل في ما يزعمه عن المحرقة النازية، حتى يظن المتابع أن بوش يهودي.ثم كانت زيارته لرام الله التي لم تتضمن أي كلمة واحدة تشمل أي ملليمتر حق للفلسطينيين في أي شيء من حقوقهم، فقد كانت زيارة للصور التذكارية ودق الإسفين بين السلطة في رام الله و«حماس» وتقويتها ضدهم.أما قادة الاحتلال فهم أكبر مستفيد من تلك الزيارة كيف لا والرسالة واضحة من كلام الرئيس الأميركي عن تأييده للدولة اليهودية، فقد ابتسم أولمرت وبريز وباراك، وكأنهم يقولون للعرب والمسلمين هذه أرضكم ومقدساتكم ونحن اغتصبناها بالقوة، بنينا المباني على عظام أبنائكم، وحرثنا الأرض على جثث أبنائكم، وروينا الزرع بدماء أبنائكم، وغيرنا الأسماء العربية الإسلامية وألغينا أسماءكم، وبدلنا دولة الإسلام التي فتحها أبو عبيدة والخليفة الراشد عمر بالدولة اليهودية، وهي ملك لنا الآن، فماذا أنتم فاعلون؟وكأن زيارة بوش كانت تصريحاً بالقتل السريع لأهالي غزة المحاصرة، فلم ينته الرئيس الأميركي من زيارته إلا ووصلته رسالة دموية صهيونية بمذبحة حي الزيتون في غزة، التي راح ضحيتها 19 شهيداً، من بينهم ابن الزهار القائد الكبير في حركة «حماس»، وفي الشهر الذي سبق الزيارة استشهد ما يقرب من مئة وعشرين فلسطينياً، وختمت الزيارة بمجزرة حي الزيتون، فهو استقبال وتوديع دموي يعبر عن الصهيونية، ولم تتوقف آلة القتل الصهيونية اليهودية حتى كتابة المقال.الحقيقة أن النظم العربية في موقف لا تُحسد عليه، فرغم أنها قدمت كل ما تستطيع من مبادرات للسلام، حتى أن الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، في مؤتمره الصحافي مع وزيرة الخارجية الأميركية، قال بوضوح: «لا يستطيع العرب تقديم مبادرات أخرى لإسرائيل»، ما يوضح أن النظم العربية فاض بها الكيل من الإحراج الذي تسببه لها دموية العدو المحتل.في المقابل، الشعوب العربية تعيش الإحباط وثورة المشاعر، لأن خريطة المشاهد أمامهم تقول إنهم ما بين خطط الإدارة الأميركية العنصرية من المحافظين الجدد والواقع العربي الضعيف المؤلم ودماء الفلسطينيين التي تنزف من دون توقف ولا حساب.لذلك يبدو أنه ربما من نتائج هذه الزيارة أن تسارع كثير من الأنظمة العربية إلى ابتداع دعاء الزوال بالدعاء أن ينتهي ويزول العام 2008 سريعاً، وأن تنتهي ولاية الرئيس الأميركي بوش أسرع من العام نفسه، لأن الأفق يحمل غيوماً سوداء ودماء تغزو المنطقة العربية.
ممدوح إسماعيل
محام وكاتب مصريelsharia5@hotmail.com