لا تُقاس الدبلوماسية بعدد البيانات والتصريحات ولا بصرامة البروتوكول وحده، بل تُقاس قبل ذلك بقدرة صاحبها على أن يجعل من حضوره رسالة، ومن سلوكه مرآة لوطنه، ومن الموزاييك الصغيرة الملونة جسوراً واسعة بين الثقافات المتعددة. وفي أسفار الشرق، بين طوكيو وشنغهاي، تتجلّى هذه الحقيقة في وجوه رجال أدركوا أن تمثيل الدولة ليس وظيفة فحسب، بل مسؤولية أخلاقية ومعرفية وإنسانية.

حين أمضيت فترة كأستاذ زائر في جامعة واسيدا بطوكيو، ومحاضر في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، بدا لي أن التجربة الأكاديمية، على عمقها وثرائها، لم تكن وحدها ما يمنح الرحلة معناها الأوسع. فقد شاءت الأقدار أن ألتقي بنماذج دبلوماسية كويتية نادرة، لا تحضر بأسمائها ومناصبها فقط، بل بحضورها الإنساني الذي يترك أثراً أبقى من نقش الكلمات على الحجر.

في طوكيو، مدينة الشمس الصاعدة التي لا تكشف أسرارها إلا لمن يُحسن الإصغاء، التقيت بسعادة السفير سامي الزمانان. لم ينتظر دعوة رسمية أو موعداً بروتوكولياً، بل بادر، في اليوم التالي لوصولي، بزيارة كريمة إلى فندق إقامتي. كانت تلك المبادرة في ظاهرها بسيطة، لكنها في جوهرها تكتنز الكثير عن رجل يفهم الدبلوماسية بوصفها فن اتقان القرب لا فن إبقاء المسافة، وبحسن دفء المبادرة لا برسمية برودة الإجراءات.

أبا براك، لم يكن مضيفاً كريماً فحسب، بل بدا لي كمن يحمل السفارة في قلبه أينما ذهب. كان البيت الآمن لكل كويتي قصد اليابان طالباً للعلم أو المعرفة، والسند الهادئ الذي يمنح الطمأنينة بروح طيبة.

في حضوره متابعة دقيقة، وفي سلوكه ذكاء متوقد، وفي عمله إيمان راسخ بأن الدبلوماسي الحقيقي هو من يُجيد الإصغاء بقدر ما يُحسن الكلام. ويسنده في ذلك رجال ونساء أفذاذ في السفارة وعلى رأسهم المتألق الشيخ جابر الصباح، الذي حرص على حضوره في إحدى محاضراتي في الجامعة كي يساند ويشارك ويعطي بُعداً جديداً لمعنى الدبلوماسية الثقافية.

وقد تجلّى أثر هذا النهج في علاقاته الواسعة داخل المجتمع الياباني، حتى مع أطفال المدارس الذين أحبوه، فأحبوا معه الكويت، وردّدوا نشيدها الوطني ببراءة تختصر المعنى الأعمق للدبلوماسية الناعمة.

كما كان حريصاً على مد خيوط الذاكرة المشتركة مع المثقفين اليابانيين الذين درسوا في الكويت أو عاشوا فيها، ليحول التجربة الإنسانية إلى نبع دائم يسقي زروع التفاهم والاحترام المتبادل.

ولم تكن حركته حبيسة جدران السفارة، بل كان حاضراً في المنتديات والمحافل والندوات، محاضراً حيناً، وزائراً حيناً آخر، وممثلاً لدولته في كل حين، يرفع رايتها بثقة، ويعزّز مكانتها بهدوء، وينشر رسالتها الإنسانية بعيداً عن الصخب والتصنع.

وفي شنغهاي، مدينة السحر التي لا تنام، حيث تتقاطع المصالح التجارية وتتنافس القوى السياسية، يصنع سعادة القنصل العام أنس معرفي، حضوراً كويتياً لافتاً، أشبه بضوءٍ ثابت ساطع في مدينة تعج بالأضواء المتحركة. بمعية فريقه المتماسك، لا سيما نائبه اللبق والنشط السيد سعد خليل، يؤدي معرفي، أدواراً متعددة في آنٍ واحد، وكأنه يجسّد معنى الدبلوماسي الشامل.

هو حاضر في اللقاءات الرسمية، قريب من الوفود التجارية، متابع دقيق للتحولات الاقتصادية والسياسية في دولة عظمى تعيد تشكيل موازين القوة العالمية. ومع ذلك، لا يبدو مثقلاً بالوقت، بل كمن يملك ساعة تتسع لأكثر من زمن، يعرف كيف يوزع الجهد، وكيف يمنح كل ملف حقه بتروٍّ دون استعجال أو إهمال.

وبوصفي باحثاً في العلاقات الدولية، وتشرفت بتدريس عدد كبير من الدبلوماسيين الكويتيين في جامعة الكويت، أدرك تماماً أن ما نشهده في تجربتي الزمانان ومعرفي، ليس مصادفة فردية، بل نتاج عمل مؤسسي متراكم، تقوده وزارة الخارجية الكويتية برؤية هادئة هادفة، تؤمن بأن الدبلوماسية ليست استعراضاً للقوة، بل إدارة حكيمة للتوازن المرن.

هؤلاء الدبلوماسيون هم استثمار وطني حقيقي، يعكس هوية دولة اختارت الوسطية نهجاً، والعقلانية مساراً، والإنسان قيمة عليا في علاقاتها الخارجية. وقد تعجز اللغة، مهما بلغت بلاغتها، عن الإحاطة بفضلهم، لكن يكفي أن نقول إن الكويت، حين تُرى في وجوه هؤلاء الرجال، تُرى واثقة، متزنة، ومحل احترام لدى الشعوب والحكومات.

هكذا، في الشرق البعيد، لا تكون المسافة حاجزاً، بل فرصة لاستشراف المستقبل، ولا تكون الدبلوماسية منصباً، بل معنى يتجسّد في السلوك قبل المقال، وحيثما يكون الدبلوماسي إنساناً مبدعاً قبل أن يكون موفداً رسمياً.