في الوقت الراهن يشهد العالم تحوّلاً جذرياً سيُعيد تعريف معنى الوجود الإنساني وعلاقاته ومصيره. فمع تسارع ثورة التكنولوجيا الابتكارية وتطور الذكاء الاصطناعي، تقترب البشرية من الولوج إلى مرحلة زمنية جديدة، تكون فيها الآلة ليست مجرد أداة في يد الإنسان، بل كياناً فاعلاً، مفكراً، ومقرراً. ذلك هو ما يمكن أن نطلق عليه «العالم غير المحدود». في هذا العالم سيتم إلغاء الحدود التقليدية بين الممكن والمستحيل، وبين الواقع والافتراض، وبين الإنسان والآلة.
في هذا العالم يستبدل الواقعي بالافتراضي، حتى تغدو الحدود بينهما باهتة. فالعمل، والدراسة، والصداقة، والحب، وحتى الذاكرة، كلها ستنتقل إلى الفضاء الرقمي، حيث تعيش الذات في عالم مصنع، صادق في حيثياته التقنية المتجردة، لكنه غامض في جوهره الإنساني الوجداني.
في هذا العالم يتغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مفاصل حياتنا اليومية، ابتداء من علاقاتنا الاجتماعية إلى وظائفنا، ومنها إلى الطب الذي تجري عملياته الروبوتات الجراحية، ثم إلى التعليم الذي تديره منصات ذكية تعرف احتياجات الطالب قبل أن ينطق بها، مروراً بالفن والإبداع، حيث تنتج الخوارزميات الإلكترونية لوحات وقصائد وفنوناً تُضاهي أو تتفوق على ما كان ينتجه الإنسان.
أما الحياة الاجتماعية وهيكلية مؤسسات الدولة، فستُعاد هندستها وفق منطق جديد تقرره «الآلة» وتطبقه الأنظمة الرقمية القادرة على المراقبة والتنبؤ والتحكم في السلوك العام والخاص، والفردي والجماعي.
في العالم غير المحدود، الآلة هي الكيان الأذكى، والإنسان يأتي في المرتبة التالية. الآلة ستعرفك أكثر مما تعرف أنت نفسك! هذه حقيقة وليست خيالاً! فالآلة تعرف نمط حياتك بشكل منظم، وتعرف خطواتك، وشفرتك البصرية، وبصمتك البيومترية، وكم تستغرق في النوم، وكم كلمة تتكلم، وكم حرفاً تنطق، وما الزمن الذي تستغرقه في الحديث، وعدد نبضات قلبك، ونمطية صرف ميزانيتك الخاصة، والأخطر هو معرفتها بشبكة علاقاتك وتفسير سلوكك.
وبهذا ستصبح الآلة قادرة على التفكير واتخاذ القرار وتبرير ما تفعله بناء على خوارزميات دقيقة، وربما أيضاً على منظومات «قيم إلكترونية» تصوغها ذاتياً، وهنا تكمن الإشكالية الكبرى.
فهل سيبقى الإنسان حر الإرادة في ظل آلة تفكر نيابة عنه، وتقرر اختياراته، وتحدد سلوكه وعلاقاته؟ ما يثار بين أصحاب الخبرة والمراس في خوارزميات الذكاء الاصطناعي والعالم المستقبلي المتولد منها، أنه لربما يصبح الإنسان كائناً تابعاً لما خلقته يداه، خاضعاً لتوصيات وبرامج لا يستطيع التحرر من سطوتها، على الرغم من أنها من إنتاجه.
العالم القادم يمكن أن يكون معقداً وبسيطاً في آن واحد. معقد لأنه يعكس صراعاً داخلياً بين الإنسان وقيمه وتقاليده وموروثاته، وبين آلة لا تعرف حدوداً أخلاقية أو شعوراً وجدانياً. وعلى الجانب الآخر، فإن العالم سيكون بالغ البساطة، حيث تكون فيه المعلومة متاحة وسريعة. وحضور المعلومة هنا يعني أن يكون القرار قائماً على ما تقدمه، سواء كان قراراً مؤسسياً أم فردياً. والحاصل أن الذي يتحكم بقراراتك أو بقرارات المؤسسة العامة أو الخاصة هو الآلة. ومن هنا، فالمعرفة ستتراكم بمجرد ضغطة زر، والتحليل الفوري للظواهر سيكون أكثر منطقية، والحلول فورية وانسيابية. لن يعود الإنسان بحاجة إلى المكتبات أو البحث أو الجهد الذهني فكل الإجابات حاضرة، ولكن بثمن باهظ، وهو انحسار التجربة الإنسانية الأصيلة.
وبالمختصر، فإن العالم كله في شاشة واحدة تختزن عقلاً ذكياً متفوقاً، ولكنه خال من الوجدان، على حساب العقل البشري الذي يكتنفه شعور الحسن والقبح.
لعل من أبرز التحديات في العالم اللامحدود هو تحدي التشريعات اللازمة والفراغ القانوني الناشئ بين الواقع والعالم الافتراضي. إن الذكاء الاصطناعي يتقدم على التشريعات والقوانين التقليدية الضابطة للحياة المجتمعية والدولية، مما تتشكّل عنه فجوة كبيرة قد تقود إلى الفوضى. لذا فالمجتمعات والدول بحاجة إلى ملاحقة هذا التطور السريع في العالم غير المحدود. ولربما لن يكون بمقدور المشرعين وفقهاء القانون أداء هذه المهمة لوحدهم، فتوكل لأنظمة الذكاء الاصطناعي لسبر أغوارها، لتصدر لدينا قوانين صاغتها أنظمة ذكية تحكمها خوارزميات حادة في الموضوعية وفي محاكاة العدالة، لكنها ليست بالضرورة ذات ضمائر تستند إلى ما يدعو له الله: «إن الله يأمركم بالعدل والإحسان».
فالعدالة، التي هي الأساس القاعدي للتشريعات، لن تكون محاذية للإحسان المعطوف عليها، بل ستكون صارمة، مما يقود إلى نشأة ما يسمى بـ «المجتمع الآلي». وهنا يكمن الخطر الحقيقي المتمثل في مجموعة أسئلة محورية، وهي: مَنْ سيحكم العالم الذي تحكمه الآلة؟ هل باستطاعة الإنسان أن يصوغ مجموعة تشريعات قادرة على كبح جماح هذا الانفجار التقني دون التأثير سلبا على حرية الإبداع؟ الأجوبة ليست حاضرة الآن، لأنها تمثل إشكاليات حقيقية في جدلية العلم والحياة.
إن العالم غير المحدود، القادم سريعاً، لم يعد مجرد خيال علمي تحكيه الأفلام الكرتونية، بل هو حقيقة تتشكل أمام بصائرنا. إنه عالم عجيب مدهش، لكنه أيضا مقلق. ولعله يكون واعداً لحل الكثير من مشاكلنا، لكنه أيضا خطير، لكونه سيكون منتجاً لمشاكل أعظم. وأكثرها تعقيداً يتجسّد في الخوف من أن تتبدل الأدوار بين الآلة والإنسان، فالإنسان بدلاً من أن يكون سيداً للآلة، لعله سيكون عبداً لها. إنه عالم مخيف، حيث يسلم الإنسان مقاليد حكمه العقلي إلى عقل الآلة التي لا تعرف الرحمة، ومجردة من الشعور والعاطفة.
فهل سيقرر الإنسان إيقاف مجرى هذا التطور أو يغيره إلى مسار آخر يستطيع أن يتحكم به، أم أن الوقت قد مضى، والقادم هو «العالم غير المحدود»؟