| يوسف القعيد |
تعالوا نجرب الكتابة عن الأحياء... حتى لو كانت مرتبطة بذكرى الأموات، أو العزاء في الأموات، تعالوا نقاوم كل هذا الجري وراء فكرة الموت... كأننا نخايلها ونخاتلها ونلف وندور حولها. ونحاول أن نعقد معها هدنة من الوقت. **
لا نحن نعرف ولا الموت نفسه يعرف إلى متى تستمر هذه الهدنة؟ هل تطول فيطول العمر؟ أم تقصر فيقصر العمر أيضا معها؟.. أنا مؤمن بأن «لكل أجل كتاب». لكني منزعج من كثرة ما نكتبه عن الموتى... وكأنه هروب من مواجهة الحياة. وكأن كل واحد منا لديه الآن مشروع من أجل الآخرة. أما مشروعات الحياة فهي مؤجلة مؤجلة. ولا أعرف إلى متى.
جاءت جلستي في عزاء الدكتور فؤاد زكريا... بجوار الدكتور عبدالغفار مكاوي. وأنا أعرفه ولا أعرفه... أعرف أنه من سكان مدينة نصر... ربما حدث أن أوصلته لمنزله مرة. قد تكون هذه ثاني أو ثالث مرة أتحدث معه فيها.
طبعا قرأت له الكثير من ترجماته ومؤلفاته، مازلت أذكر له مقالا نشره في مجلة الآداب البيروتية. ربما كان عنوانه: سبع صعوبات عند قول كلمة لا، وأيضا بفضله قرأت شعر بريخيت مترجما إلى العربية مبكرا. والشعر الأميركي الحديث.
وفي المرتين التي تكلمت فيهما مع عبدالغفار مكاوي.. سألت نفسي: هل جارت شهرة صلاح عبدالصبور على الأدباء الذين كانوا أعضاءً في الجمعية الأدبية المصرية؟ كان فيها عزالدين إسماعيل وفاروق خورشيد وعبدالرحمن فهمي وأحمد كمال زكي ووليم الميري وعبدالغفار مكاوي وشكري عياد، ومع هذا لم يبرز كثيرا سواء على المستوى الإعلامي أو التأثير العام فيمن قرأوه سوى صلاح عبدالصبور.
ربما، مع أن هذه الفكرة تدور في ذهني عندما كنت أرى على الطبيعة أعضاء الجمعية الأدبية المصرية التي كانت تمارس نشاطها من شارة قوله في عابدين. ثم نقلت إلى شارع الجمهورية في عمارة مواجهة لمقهى أم كلثوم... الذي يذيع أغاني أم كلثوم على مدار الليل والنهار. وتكرر الأمر نفسه وأنا أجلس بجوار عبدالغفار مكاوي في عزاء فؤاد زكريا بمسجد رابعة العدوية بمدينة نصر.
بدأت الكتابة وأنا أرغب في الهروب من الموت... لكني أعود إليه رغم رغبتي في البعاد عنه وتجاهله والتعامل معه كأنه لا وجود له. ومع هذا أحاول أن أزاوج بين الأمرين. الحياة والموت. مثلما أن حياتنا رحلة بين نور النهار وظلام الليل. وصخب اليوم وهدوء الليالي الطويلة.
عندما كان مرتل القرآن الكريم... يتلو من سورة القصص. قال لي عبدالغفار مكاوي. ان جماعة الأطباء أحسن من جماعة المثقفين. وجماعة المثقفين... أفضل من جماعة الفلاسفة.
أشار للقاعة حولنا. قال لي: إن معظم من تراهم من الأطباء. لأن مجد ابن فؤاد زكريا طبيب وأستاذ في طب عين شمس. كان هنا قبل حضور الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء، وكان هنا عدد كبير من الأطباء... فأين هم المثقفون؟ قلة شديدة. وأمر محزن بلا شك.
على أن الأكثر إثارة للحزن جماعة الفلاسفة... أو إن شئت الدقة... المشتغلون بالفلسفة. كان فؤاد زكريا رئيسا لقسم الفلسفة في آداب عين شمس. وله كثير من الكتابات النظرية في الفلسفة.
ربما يدرس طالب الفلسفة الآن ضمن مناهجه التعليمية الكثير من هذه الكتب. هل تعرف عدد الطلبة الذين تخرجوا لأنهم درسوا ما كتبه فؤاد زكريا؟ هل تحاول إدراك الأجيال التي ينتمون إليها؟
ومع هذا لم يفكر أحد في حضور العزاء. حتى الطريقة التي خرج بها فؤاد زكريا من جامعة عين شمس أكثر من محزنة. فبعد أن سافر إلى الكويت وعمل في الكويت. لم يشأ أن يقطع صلته بجامعة عين شمس. حرص على أن يكون وضعه القانوني بالنسبة لها: اجازة من دون مرتب. لكنه في إحدى السنوات عاد لتجديد الاجازة فرفضت الجامعة. وأصرت على الرفض. فلم يكن منه إلا أن كتب استقالته بخط يده. وهو من الحزن في موقف من الصعب وصفه. لأنه كان يريد استمرار صلته بجامعة عين شمس كوصلة علمية ربما عاطفية مع الوطن. لكنهم في الجامعة تعاملوا معه انطلاقا من اللوائح والقوانين ولم يراعوا أي خصوصية بالنسبة لفؤاد زكريا. وهكذا ترك الجامعة إلى الأبد.
وأيضا كان فؤاد زكريا يكمل الدكتور عبدالغفار مكاوي مقررا للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وكان في عضويتها عدد كبير من مجايليه ومعاصريه وتلاميذه. ومع هذا أين هم؟
حتى لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة. أقصوه عنها بطريقة أقل ما يقال عنها غير أخلاقية. عندما كتبوا ورقة وزعموا أن كاتبها هو فؤاد زكريا. وفي هذه الورقة طلب زكريا أن يتنحى عن رئاسة لجنة الفلسفة بسبب ظروفه الصحية. وعين محمود أمين العالم بدلا منه. وعندما عرف العالم بهذه القصة ذهب إلى فؤاد زكريا. وعرض عليه أن يكتب في حضوره استقالته. فرفض فؤاد ذلك. وطلب منه الاستمرار في دوره.
انتهى ما قاله عبدالغفار مكاوي. عن الظلم الذي وقع على فؤاد زكريا، وأن مكاوي نفسه أحد المظاليم الكبار في ثقافتنا، ولا أعرف السر في ذلك.. هل يعود السر لأنه واحد من جيل الحلقة المفقودة والتعبير للدكتور سيد حسان النساج في دراسة له عن كتاب القصة القصيرة في الثقافة المصرية؟... علاوة على ما سبق أن قلته من أنه لأنه كان من أعضاء الجمعية الأدبية المصرية. حيث لم يشتهر منها سوى صلاح عبدالصبور فقط.
وكعادتي عدت من بيتي ليلا... ورحت أبحث في مكتبتي عن أي شيء أقرأه لعبدالغفار مكاوي.. وجدت ديوان شعر: قصائد من برتولت برخت. الذي ترجمه وقدم له عبدالغفار مكاوي. للأسف لم أجد شيئا من تأليفه، وهو لا يوجد عنده شيء من تأليفه. عرض عليَّ أن يصور لي بعض مجموعاته القصصية أو مسرحياته... لأنه لا يحتفظ إلا بنسخة واحدة في بيته، وديوان برخت يخلو من سنة إصداره، لكنه مكتوب عليه أن ناشره دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، وحيث إن هذه الدار ظلت تعمل حتى منتصف ستينات القرن الماضي، فهذا معناه أن الكتاب منشور بعد سنة 1960 وقبل سنة 1965.
قرأت من شعر برخت ما يمكن أن يدلني على عبدالغفار مكاوي:
الأشرار يخشون مخلبك/ الطيبون يفرحون برقتك/ مثل هذا/ سمعته عن أشعاري/ فسرني.
تعالوا نجرب الكتابة عن الأحياء... حتى لو كانت مرتبطة بذكرى الأموات، أو العزاء في الأموات، تعالوا نقاوم كل هذا الجري وراء فكرة الموت... كأننا نخايلها ونخاتلها ونلف وندور حولها. ونحاول أن نعقد معها هدنة من الوقت. **
لا نحن نعرف ولا الموت نفسه يعرف إلى متى تستمر هذه الهدنة؟ هل تطول فيطول العمر؟ أم تقصر فيقصر العمر أيضا معها؟.. أنا مؤمن بأن «لكل أجل كتاب». لكني منزعج من كثرة ما نكتبه عن الموتى... وكأنه هروب من مواجهة الحياة. وكأن كل واحد منا لديه الآن مشروع من أجل الآخرة. أما مشروعات الحياة فهي مؤجلة مؤجلة. ولا أعرف إلى متى.
جاءت جلستي في عزاء الدكتور فؤاد زكريا... بجوار الدكتور عبدالغفار مكاوي. وأنا أعرفه ولا أعرفه... أعرف أنه من سكان مدينة نصر... ربما حدث أن أوصلته لمنزله مرة. قد تكون هذه ثاني أو ثالث مرة أتحدث معه فيها.
طبعا قرأت له الكثير من ترجماته ومؤلفاته، مازلت أذكر له مقالا نشره في مجلة الآداب البيروتية. ربما كان عنوانه: سبع صعوبات عند قول كلمة لا، وأيضا بفضله قرأت شعر بريخيت مترجما إلى العربية مبكرا. والشعر الأميركي الحديث.
وفي المرتين التي تكلمت فيهما مع عبدالغفار مكاوي.. سألت نفسي: هل جارت شهرة صلاح عبدالصبور على الأدباء الذين كانوا أعضاءً في الجمعية الأدبية المصرية؟ كان فيها عزالدين إسماعيل وفاروق خورشيد وعبدالرحمن فهمي وأحمد كمال زكي ووليم الميري وعبدالغفار مكاوي وشكري عياد، ومع هذا لم يبرز كثيرا سواء على المستوى الإعلامي أو التأثير العام فيمن قرأوه سوى صلاح عبدالصبور.
ربما، مع أن هذه الفكرة تدور في ذهني عندما كنت أرى على الطبيعة أعضاء الجمعية الأدبية المصرية التي كانت تمارس نشاطها من شارة قوله في عابدين. ثم نقلت إلى شارع الجمهورية في عمارة مواجهة لمقهى أم كلثوم... الذي يذيع أغاني أم كلثوم على مدار الليل والنهار. وتكرر الأمر نفسه وأنا أجلس بجوار عبدالغفار مكاوي في عزاء فؤاد زكريا بمسجد رابعة العدوية بمدينة نصر.
بدأت الكتابة وأنا أرغب في الهروب من الموت... لكني أعود إليه رغم رغبتي في البعاد عنه وتجاهله والتعامل معه كأنه لا وجود له. ومع هذا أحاول أن أزاوج بين الأمرين. الحياة والموت. مثلما أن حياتنا رحلة بين نور النهار وظلام الليل. وصخب اليوم وهدوء الليالي الطويلة.
عندما كان مرتل القرآن الكريم... يتلو من سورة القصص. قال لي عبدالغفار مكاوي. ان جماعة الأطباء أحسن من جماعة المثقفين. وجماعة المثقفين... أفضل من جماعة الفلاسفة.
أشار للقاعة حولنا. قال لي: إن معظم من تراهم من الأطباء. لأن مجد ابن فؤاد زكريا طبيب وأستاذ في طب عين شمس. كان هنا قبل حضور الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء، وكان هنا عدد كبير من الأطباء... فأين هم المثقفون؟ قلة شديدة. وأمر محزن بلا شك.
على أن الأكثر إثارة للحزن جماعة الفلاسفة... أو إن شئت الدقة... المشتغلون بالفلسفة. كان فؤاد زكريا رئيسا لقسم الفلسفة في آداب عين شمس. وله كثير من الكتابات النظرية في الفلسفة.
ربما يدرس طالب الفلسفة الآن ضمن مناهجه التعليمية الكثير من هذه الكتب. هل تعرف عدد الطلبة الذين تخرجوا لأنهم درسوا ما كتبه فؤاد زكريا؟ هل تحاول إدراك الأجيال التي ينتمون إليها؟
ومع هذا لم يفكر أحد في حضور العزاء. حتى الطريقة التي خرج بها فؤاد زكريا من جامعة عين شمس أكثر من محزنة. فبعد أن سافر إلى الكويت وعمل في الكويت. لم يشأ أن يقطع صلته بجامعة عين شمس. حرص على أن يكون وضعه القانوني بالنسبة لها: اجازة من دون مرتب. لكنه في إحدى السنوات عاد لتجديد الاجازة فرفضت الجامعة. وأصرت على الرفض. فلم يكن منه إلا أن كتب استقالته بخط يده. وهو من الحزن في موقف من الصعب وصفه. لأنه كان يريد استمرار صلته بجامعة عين شمس كوصلة علمية ربما عاطفية مع الوطن. لكنهم في الجامعة تعاملوا معه انطلاقا من اللوائح والقوانين ولم يراعوا أي خصوصية بالنسبة لفؤاد زكريا. وهكذا ترك الجامعة إلى الأبد.
وأيضا كان فؤاد زكريا يكمل الدكتور عبدالغفار مكاوي مقررا للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وكان في عضويتها عدد كبير من مجايليه ومعاصريه وتلاميذه. ومع هذا أين هم؟
حتى لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة. أقصوه عنها بطريقة أقل ما يقال عنها غير أخلاقية. عندما كتبوا ورقة وزعموا أن كاتبها هو فؤاد زكريا. وفي هذه الورقة طلب زكريا أن يتنحى عن رئاسة لجنة الفلسفة بسبب ظروفه الصحية. وعين محمود أمين العالم بدلا منه. وعندما عرف العالم بهذه القصة ذهب إلى فؤاد زكريا. وعرض عليه أن يكتب في حضوره استقالته. فرفض فؤاد ذلك. وطلب منه الاستمرار في دوره.
انتهى ما قاله عبدالغفار مكاوي. عن الظلم الذي وقع على فؤاد زكريا، وأن مكاوي نفسه أحد المظاليم الكبار في ثقافتنا، ولا أعرف السر في ذلك.. هل يعود السر لأنه واحد من جيل الحلقة المفقودة والتعبير للدكتور سيد حسان النساج في دراسة له عن كتاب القصة القصيرة في الثقافة المصرية؟... علاوة على ما سبق أن قلته من أنه لأنه كان من أعضاء الجمعية الأدبية المصرية. حيث لم يشتهر منها سوى صلاح عبدالصبور فقط.
وكعادتي عدت من بيتي ليلا... ورحت أبحث في مكتبتي عن أي شيء أقرأه لعبدالغفار مكاوي.. وجدت ديوان شعر: قصائد من برتولت برخت. الذي ترجمه وقدم له عبدالغفار مكاوي. للأسف لم أجد شيئا من تأليفه، وهو لا يوجد عنده شيء من تأليفه. عرض عليَّ أن يصور لي بعض مجموعاته القصصية أو مسرحياته... لأنه لا يحتفظ إلا بنسخة واحدة في بيته، وديوان برخت يخلو من سنة إصداره، لكنه مكتوب عليه أن ناشره دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، وحيث إن هذه الدار ظلت تعمل حتى منتصف ستينات القرن الماضي، فهذا معناه أن الكتاب منشور بعد سنة 1960 وقبل سنة 1965.
قرأت من شعر برخت ما يمكن أن يدلني على عبدالغفار مكاوي:
الأشرار يخشون مخلبك/ الطيبون يفرحون برقتك/ مثل هذا/ سمعته عن أشعاري/ فسرني.