القوا أسلحتكم، ودعونا نتحدث بحديث العقول، لا العجول، حديث من يملك عقلا، لا من يملك بقالة بيع الشعارات المعلبة، والأطروحات غير الصالحة للاستعمال البشري، ومصطلحات محدبة كأسنمة البخت! ليس الحديث عن الفرقة الغنائية التي غنت العبرية، فقد تجاوز الحديث عنهم الى قضايا اخرى! كتبت من قبل، وتساءلت مثلما يتساءل غيري عن بعض القضايا التي تهمنا ونعايشها، وتعتاش علينا، تساؤلات مشروعة تبحث عن اجابة، إلا اني لم أجد الا اجابات تائهة في الصحارى القاحلة! لا أحب المزايدة، ولا ان يزايد علي احد، في الوطنية والغيرة على الحق، ولا تستهويني الرد على كلمات مثل «شطحات فكرة، وسماسرة التطبيع وذيولهم المستظلين بهم، والفكر الانهزامي المتصهين...» لانه من السهل تنظيم الكلمات الصاروخية المتفجرة فهذا تخصصنا، منذ ايام سوق عكاظ، والأسهل منها الشتم واللمز والهمز، وهذا ليس من طباع أهل الحق، والدعاة!
لا خلاف على ان إسرائيل دولة صهيونية، تمارس العنصرية، هذا نعرفه ونؤمن به، وهذا لا علاقة له لا بتوجه فكري، ولا بفكر انهزامي ولا انقزامي، الخلاف في التعامل، وكيف نواجه الآخرين، وكيف نحل مشكلاتنا... لن أطيل- رغم الاطالة - ولأوضح بعض النقاط أو «المعلومات»، رغم اني لم اقرأ معلومة واحدة في رد الكاتب الفاضل على ما كتبنا..!
1 - لم أفهم العلاقة بين لغة العلم، وبين الفن والثقافة، فقد برر البعض قبول غنائه بالفرنسية مثلاً «رغم قتلهم مليون ونصف المليون جزائري» انها لغة علم، وهذا يعني انه لا نغني بالهندية ولا العربية لانها ليست لغة علم، وإذا كان يرى ان العبرية ليست لغة علم ولا ثقافة تصغيرا لها، فهل يستطيع الكاتب اقناعنا وفقا لمعلوماته، ان العربية لغة علم...؟! لا تقل كان، فما كان قد كان! لا أقول هذا استصغارا للغة العربية، فاللغات ليست كائنات حية تتطور لوحدها، تقدم وتطور اللغة مرتبطة بتطور وتقدم المجتمع الذي يتحدث به، ومئات السنين من التخلف ينتج عنه تخلف اللغة والعادات والتقاليد...!
2 - وايضا عن اللغة، والتفرقة بين اللغة القديمة والحديثة، فان هذا الامر ليس مقتصرا على اللغة العبرية، حتى يبرر البعض بان اللغة المقدسة العبرية هي قديمة وليست الحديثة، فهذا قول فيه نوع من المجافاة للواقع وللمنطق، لانه اساسا لا توجد لغة ثابتة وغير متغيرة، احضر- عبر استحضار الارواح- رجلا من عرب الجاهلية، ليقرأ صحيفة أو اي كتاب شعر وأدب... لن يفهم كلمة واحدة منها، كما اننا لا نفهم العربية القديمة «باستثناء لغة قريش» الذي نزل القرآن بها، وحتى القرآن لا يفهمه رجل الشارع الا من خلال التفسير، واعتقد ان 90 في المئة من العرب لا يفهمون معاني سورة العاديات، لو قرأت امامهم دون تفسير وتعليم مسبق، وهذه طبيعة الشعوب واللغات، لا تصغير ولا رفعة لاحد، ولا توجد لغة مقدسة ومحترمة ولغة سيئة وقبيحة وكافرة، واللغة العربية مثل بقية اللغات، اختراع بشري، وليس إلهيا، والعربية كسبت تقديسها للمسلمين كونها لغة القرآن، كما كسبت العبرية تقديسها لليهود كونها لغة التوراة..!
3 - حركة الترجمة، والعرب كانوا روادها منذ القدم، وسببا في حفظ التراث الانساني القديم لا سيما اليوناني لم يكن هدفه معرفة العدو، والانقضاض عليه، وقتله، وتدميره... بل كان هدفه مزيداً من المعرفة والعلم والتعلم، بغض النظر عن لغة الكاتب سواء يوناني أو روماني أو هندي... وكانت مدخلا للتعارف والتعامل مع الشعوب الاخرى لا قتلها!
4 - ليس مفهوما منطق البعض، الذي يرى بان قراءة كتاب عبري، أو مشاهدة مسرحية يهودية تعتبر ثقافة، اما الغناء فهو تطبيع! لنفترض انني قمت بالغناء بالعبرية - خاصة وان صوتي جميل - هذا يعني انني أصبحت مطبعا انهزاميا صهيونيا، و«عبد الحليم» زار الكويت، ولبس الغترة وغنى «يا هلي» بألحان اليهودي صالح الكويتي، إذن هو صهيوني، وكل من يسمع أغنية «يا نبعة الريحان» يعتبر انهزاميا لانها من ألحان يهودي عبري! فما الفرق بين عربي يغني عبريا، وعبري يغني عربيا؟! أليس كله تطبيعا وانهزامية وصهيونية، ولا استبعد غدا من يطالب بمنع المشي في«سوق السلاح» لانها كانت من قبل تسمى بسوق اليهود، ومن يطالب بإلغاء العطلة الاسبوعية، لأنها بدعة يهودية خالصة، لم توجد لا في تراث الأجداد ولا في دينهم!
5 - دعونا لا نغالط أنفسنا، ونلف وندور، في قصة الجذور، ونرفع الشعارات السياسية حول جذورهم وانهم شذاذ افاق...فهذا كلام لا معنى له، ولا يباع بدانق في الاسواق، ونتحدث حديث المعلومات، ببساطة لليهود في هذه المنطقة جذور مثلما للعرب، سواء قصدنا اليهود كعرق، أو اليهود كدين، فالوضع لا يختلف، فجذورهم في شبه الجزيرة واليمن وفلسطين ومصر موجودة، قبل الاسلام ببعض آلاف من السنوات، هذه معلومة كلنا نعرفها، ويعرفها الاطفال في المدارس والقردة على الاشجار، فلماذا نصر انهم بلا هوية ولا تاريخ ولا جذور هنا...!
6 - قصة المقدسات التي تحدثت عنها متسائلا، ولم تصلني اجابتها، ماذا تعني المقدسات عند المسلمين؟ هل المسلمون متفقون على مقدساتهم؟ وهل هم متفقون على انه تدنيس للمقدسات أم لا؟ قلت ببساطة دولة مسلمة قد تبني القباب حفاظاً على المقدسات، ودولة اسلامية اخرى قد تهدم القباب فوق القبور لان وجود القباب فوق القبور تدنيس لها، وتساءلت هل إسرائيل عندما تحافظ على قباب القبور تعتبر مدنسة لها، أو عندما تهدمها؟ هذا ما قلته متسائلا فقط! وبعيدا عن خلافات المسلمين، - وما أكثرها - فإن قضية تدنيس مقدسات الغير، تراث قديم في هذه المنطقة، فكما ان اليهود احتلوا المساجد، والصليبيون النصارى احتلوا وهدموا المساجد والمعابد، المسلمون ايضا احتلوا الكنائس و«آيا صوفيا، وجامع الامويين» مثال واضح... أنا لست في صدد تبرير التدنيس ولكن بصدد طرح معلومة!
7 - لليهود مقدسات نعم كما للمسيحيين كما للمسلمين في القدس، ولابد ان نوضح «كمعلومة» ان مقدسات اليهود والمسيحيين سبقت المسلمين بمئات وآلاف السنين، ولا اعتقد ان هناك عاقلا سيقول ان المسلمين هم من بنوا المسجد الاقصى، أو بنوا الكعبة مثلا لانها سابقة عليهم تاريخيا، ومرتبطة بالاديان السماوية التي تسبقهم... واقصد، كما اننا نرى فيها مقدساتنا يرى الاخرون فيها مقدساتهم، وكما نرى انه «حائط البراق» يرونه حائط المبكى، واذا أردنا ان نتحدث بالادلة التاريخية العلمية والدقيقة، فسنفشل لا شك في اثبات كلا الطرفين، لان التاريخ والادلة العلمية ليست قال فلان عن فلان وسمع عن فلان ويصبح تاريخا، وهذا ما تفعله كل الاطراف «السماوية» في الشرق..!
8 - تحدثت عن العداء اليهودي العربي، وقلت ان العلاقة كانت جيدة جدا على مر العصور، وكان العالم الاسلامي هو الملجأ لليهود من الاضطهاد المسيحي، وفي بداية الدولة العثمانية فتحت لم الابواب للدخول الى الدولة العثمانية هربا من الاضطهاد الذي لاقوه هناك، واحضروا معهم اول مطبعة في العالم الاسلامي، «وهذه معلومة» ومثل كل شيء كان العداء «للسامية» أو اليهود ذا منشأ غربي ومسيحي، ومشكلة الدين والعلم ذا منشأ غربي مسيحي، ومحاولة ادخال الدين في كل الشؤون العلمية والحياتية منشأه مسيحي غربي، وقضية نشأة الخلق وتشويه سمعة نظرية دارون منشأه مسيحي، وهذا العداء لليهود لم يكن منتشرا في العالم الاسلامي الا مع بدايات القرن العشرين، فكتاب حكماء صهيون روسي انتقل الى الشرق، وتراث العداء لليهود كدين وملة ايضا انتقل للشرق عبر الكنيسة، واستغرب قصة استيراد حتى احقاد الاخرين!، وليس غريبا ان يحاول الغربي ان يقلل من الهولوكست أو ينفيها فهو مشارك بالجريمة، اما ان يحاول نفيها العرب أو المسلمون أو التقليل من شأنها وان القتلى مليون وليسوا ستة مثلا، وكأن قتل مليون يهودي لا تعتبر جريمة! أقول هذا ليس تبريرا لليهود ولا زعما ان الإسرائيليين طيبون ويجب ان نتبادل معهم الورد، العداء السياسي حق مشروع والدفاع عن الوطن حق، ولكن ان يشتم دين واتباعه بسبب عداء سياسي هل يعتبر حقا!
9 - قلت اذا كانت العبرية صهينة وكفرا، لأن اليهود يقتلون العرب والمسلمين، وقلت، لا فرق بين محتل ومحتل، فما الفرق بين ان يكون المحتل عربيا أو يهوديا، وبين ان يمارس المجازر يهودي أو عربي! لنأخذ الاكراد مثالا، دول عربية واسلامية تحتل كردستان، في العراق تم قتلهم بالاسلحة الكيماوية، مئات آلاف من الاكراد قتلوا منذ مطالبتهم بتحرير أراضيهم من الاحتلال (العربي، الايراني، التركي)! مثال آخر ومعلومة اخرى، «دارفور» وهي مملكة كانت موجودة قبل تأسيس السودان كدولة، وكانت مملكة إسلامية غنية... هذه المملكة تم احتلالها من قبل العرب، ومورست ضدهم المجازر والتشريد لانهم من أصول افريقية فقط! لا أطيل وأنوع بالأمثلة فهي كثيرة، ولكن أتساءل: ما الفرق بين ان يكون القاتل عربيا، أو مسلما، أو هندوسيا، أو يكون القاتل عبريا؟! أليست الجريمة واحدة؟ إلا اذا اعتبرنا ان قتل العبري لنا جريمة، وقتلنا للأفارقة والاكراد... دفاع عن المقدسات، كلنا نكيل بمكيالين، فلماذا نستغرب الآخر عندما يكيل بعشرة؟!
10 - بالنسبة للتجنيس الإسرائيلي فإننا لا نسولف في ديوانية، بل من خلال الاخبار والتقارير الاخبارية، فقد ذكرت احصائيات غير رسمية ان هناك 15ألفا تزوجوا من إسرائيليات (عرب ويهود) «من دولة عربية واحدة فقط» بداعي الحصول على الجنسية الإسرائيلية، وقد قيل انه أكثر، لا أحد يقول الحقيقة كعادتنا العربية! ولكن الحقيقة الواضحة ان قانون الجنسية الإسرائيلي الاخير لمنع غير اليهود من التجنيس خوفا من التغيرات الديموغرافية بسبب هذه الزيجات، التي يسعى من ورائها العرب للحصول على الجنسية الإسرائيلية، ولم أسمع بإسرائيلي تزوج من عربية طمعا في جنسيتها العربية الا اذا كان «خبل»!
11 - لا نريد أن نكابر، نعم الفلسطينيون ثورة عز وتضحيات وتحديات... وايضا لديهم قيادات لصوص وأفاقون وبائعو شعارات، وتجار شنطة، وتصفيات وقتل ضد بعضهم البعض...ثورة كانت تحمل بذور انتصارها وجميع الامكانيات لنجاحها، من دعم مادي، وإعلام، وشعب صامد ومؤمن حقيقي بقضيته...وقيادات ومنظمات بجميع انواعها وفصائلها كانت أكثر ظلما وعنفا ووحشية ضد ابنائها من اليهود!
12 - فلسطين قضية كل العرب والمسلمين من يقرر ذلك، ولماذا ليس كشمير، أو الفيليبين، أو سبتة وميليلة، أو... أو... أو...؟ وما الفرق بين صهيوني يؤمن بتفوق عرقه واقصاء الكل، وانه الشعب المختار، والبقية أذناب، وبين مسلم يؤمن بتفوق عرقه، ودينه، واقصاء الجميع، والبقية أبناء قردة، المشكلة ليست في اي جانب تقف بقدر الاخلاقيات التي تحملها والقيم التي تؤمن بها، ولا أعتقد ان الدين الذي يدعو للرحمة والمحبة وان الله خلق الشعوب والقبائل «لتعارفوا» هو نفسه الذي يروجون له، والذي يحمل الحقد والغل والكراهية للجميع! أستطيع ان أرفع الشعارات، وان أركض خلف الراكضين في المظاهرات، وأحصل على التصفيق، على المقالات، ولكن الحق أحق ان يتبع، حتى لو كان بطعم العلقم!
كان هذا مجرد تفكير بصوت عال، طال الحديث، أنا تعبت وأنتم تعبتم... ما أدري ليش كتبت كل هذا!


جعفر رجب
jjaaffar@hotmail.com