منذ بضع سنوات، تصاعدت حدة التوترات التجارية بين القوى الاقتصادية الكبرى، لتتحول إلى ما يشبه حرباً تجارية متعددة الأطراف آخرها الرسوم الجمركية الأميركية التي شملت نحو 185 دولة.

وتاريخياً لم تقتصر تداعيات هذه الصراعات على الدول المتورطة بشكل مباشر فحسب، بل امتدت لتلقي بظلالها القاتمة على اقتصادات العالم أجمع، مُحدثةً تغييرات جذرية في سلاسل الإمداد، وأنماط الاستثمار، ومعدلات النمو.

ومع تصاعد النزاعات من التعريفات الجمركية إلى العقوبات التكنولوجية. بدأت الشرارة الأولى لهذه الحرب التجارية بتصعيد الولايات المتحدة للرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم في عام 2018، وسرعان ما تبعتها إجراءات مماثلة استهدفت سلعاً صينية بقيمة مئات المليارات من الدولارات. لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل اتخذت أبعاداً أخرى تمثلت في فرض قيود على شركات التكنولوجيا، وتبادل الاتهامات بممارسات تجارية غير عادلة، ما أدى إلى حالة من عدم اليقين والقلق في الأسواق العالمية.

ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة التجارة العالمية «WTO» في أكتوبر 2024، فإن القيود التجارية الجديدة التي فرضتها الدول الأعضاء منذ عام 2019 غطت ما يقارب من 13 في المئة من التجارة العالمية. ويشير التقرير إلى أن هذا الرقم يمثل زيادة كبيرة مقارنة بالفترات السابقة، ما يعكس تصاعد الحمائية التجارية.

ضغط هائل

ومن أبرز آثار الحرب التجارية هو الضغط الهائل على سلاسل الإمداد العالمية التي اعتادت على التكامل والكفاءة. ودفع تصاعد الرسوم الجمركية والقيود التجارية الشركات إلى إعادة تقييم مواقع إنتاجها ومورديها، بحثاً عن بدائل أكثر استقراراً وأقل عرضة للمخاطر الجيوسياسية.

فعلى سبيل المثال، شهد العالم اتجاه العديد من الشركات متعددة الجنسيات إلى تنويع قواعد إنتاجها خارج الصين، والبحث عن أسواق جديدة في جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية. ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة كيرني في 2023، فإن نحو 40 في المئة من الشركات الأميركية المصنعة لديها خطط لنقل جزء من إنتاجها خارج الصين خلال السنوات الـ 3 المقبلة.

تباطؤ النمو عالمياً

ولم تنجُ اقتصادات العالم من التداعيات السلبية لهذه الحرب التجارية. فقد أدت حالة عدم اليقين التي خيمت على الأسواق إلى تراجع الاستثمارات، وتباطؤ الطلب العالمي، وارتفاع تكاليف الإنتاج.

وأشار صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الصادر في أبريل 2025 إلى أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد خفضت النمو العالمي بنحو 0.5 في المئة في عامي 2019 و2020. ورغم بعض التحسن في السنوات اللاحقة، لا تزال المخاطر قائمة، لا سيما مع استمرار التوترات التجارية في قطاعات التكنولوجيا الحيوية والمتقدمة.

من جهة أخرى، من المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى 1.8 في المئة عام 2025، بانخفاض نقطة مئوية كاملة عن عام 2024. وفي الصين، تم تعديل توقعات النمو إلى 4 في المئة لعامي 2025 و2026 بسبب اعتمادها الكبير على الصادرات وتأثرها بالتوترات التجارية، كما شهدت توقعات النمو في كندا والمكسيك انخفاضاً، مع توقع انكماش الاقتصاد المكسيكي بنسبة 0.3 في المئة عام 2025.

تأثير ارتفاع التضخم

وكان لفرض الرسوم الجمركية تأثيراً مباشراً على أسعار السلع المستوردة، ما ساهم في ارتفاع معدلات التضخم في دول عدة. وأثر هذا الارتفاع في الأسعار بشكل كبير على القدرة الشرائية للمستهلكين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود، وعلى سبيل المثال، أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الأميركي أن أسعار بعض السلع المستوردة من الصين، والتي شملتها الرسوم الجمركية، ارتفعت بشكل ملحوظ منذ 2018. وقد انعكس ذلك على أسعار التجزئة النهائية، ما أدى إلى زيادة الأعباء على الأُسر الأميركية.

تقلبات حادة

شهدت أسواق الأسهم والذهب والنفط تقلبات حادة منذ إعلان فرض رسوم جمركية جديدة على واردات من دول أخرى، وما يثيره هذا القرار من مخاوف من حرب تجارية عالمية. فبمجرد الإعلان، انخفضت مؤشرات الأسهم العالمية بشكل ملحوظ، وارتفع الذهب كملاذ آمن، فيما تذبذب سعر النفط متأثراً بتوقعات الطلب العالمي. ومع ذلك، هدأت الأسواق نسبياً بعد المهلة التي تم منحها للدول المتضررة للتفاوض، ما يعكس حالة الترقب والقلق التي تسيطر على المستثمرين.

ويرى محللون أن سياسات الإجارة الأميركية التجارية، التي تتسم بالحمائية، تهدف إلى حماية الصناعات المحلية وخلق فرص عمل، لكنها في الوقت نفسه قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلكين وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي. بينما يرى آخرون أن هذه السياسات تمثل ورقة ضغط في المفاوضات التجارية، وأنها قد تؤدي في النهاية إلى اتفاقيات تجارية أكثر عدالة، ومع ذلك، يبقى تأثير هذه السياسات على المدى الطويل غير واضح، وسط ترقب لما ستسفر عنه المفاوضات التجارية المقبلة.

تصاعد المخاطر المالية

وأفاد تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي بزيادة كبيرة في مخاطر الاستقرار المالي العالمي نتيجة تصاعد التوترات التجارية، والتي تشتمل على ارتفاع تقييمات أسواق الأسهم والديون، وضغوط على المؤسسات المالية ذات الرافعة المالية العالية، وزيادة الضغط على أسواق الدين السيادي، خصوصاً في البلدان ذات الديون المرتفعة.

السؤال الآن هل يمكن تجاوز شبح الحمائية؟ في ظل هذه التحديات، تتزايد الدعوات إلى ضرورة إيجاد حلول دبلوماسية وسياسية لتهدئة التوترات التجارية وإعادة بناء الثقة في النظام التجاري العالمي القائم على القواعد. ويتطلب ذلك من الدول الكبرى إبداء مرونة في مواقفها، والتركيز على الحوار، والتعاون بدلاً من التصعيد والنزاعات.

ولذلك تجاوز شبح الحمائية ليس بالأمر اليسير، ولكنه ضروري لضمان استدامة النمو الاقتصادي العالمي وتحقيق الرخاء لجميع الدول، فالعالم المترابط لا يمكن أن يزدهر في ظل أجواء من الحروب التجارية والانقسامات.